فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (38)

قوله : { يا أيها الذين آمَنُواْ } لما شرح معايب أولئك الكفار عاد إلى ترغيب المؤمنين في قتالهم ، والاستفهام في { مَا لَكُمْ } للإنكار والتوبيخ : أي ، أيّ شيء يمنعكم عن ذلك ، ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتاباً لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام ، والنفر : هو الانتقال بسرعة من مكان إلى مكان ، لأمر يحدث . قوله : { اثاقلتم إِلَى الأرض } أصله تثاقلتم ، أدغمت التاء في الثاء لقربها منها ، وجيء بألف الوصل ليتوصل بها إلى النطق بالساكن ، ومثله : ادّاركوا ، واطيرتم ، واطيروا ، وأنشد الكسائي :

توالى الضجيع إذا ما اشتاقها حضرا *** عذب المذاق إذا ما اتابع القبل

وقرأ الأعمش { تثاقلتم } على الأصل ، ومعناه : تباطأتم ، وعدّي بإلى لتضمنه معنى الميل والإخلاد . وقيل : معناه : ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها وقرئ : { اثاقلتم } على الاستفهام ، ومعناه : التوبيخ ، والعامل في الظرف ما في { مَالَكُمْ } من معنى الفعل ، كأنه قيل : ما يمنعكم ، أو ما تصنعون إذا قيل لكم ؟ و { إِلَى الأرض } متعلق باثاقلتم وكما مرّ . قوله : { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا } أي : بنعيمها بدلاً من الآخرة كقوله تعالى : { وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَائِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ } أي بدلاً منكم ، ومثله قول الشاعر :

قلبت لنا من ماء زمزم شربة *** مبردة باتت على طهيان

أي بدلاً من ماء زمزم ، والطهيان : عود ينصب في ناحية الدار للهواء يعلق عليه الماء ليبرد ، ومعنى : { في الآخرة } أي في جنب الآخرة ، وفي مقابلتها { إِلاَّ قَلِيل } أي : إلا متاع حقير لا يعبأ به ، ويجوز أن يراد بالقليل العدم ، إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي ، والظاهر : أن هذا التثاقل لم يصدر من الكل ، إذ من البعيد أن يطبقوا جميعاً على التباطؤ والتثاقل ، وإنما هو من باب نسبة ما يقع من البعض إلى الكل ، وهو كثير شائع .

/خ42