ويشير السياق إلى سمة أخرى من سمات المجتمعات الفاسدة ؛ وهو يستنكر سكوت الربانيين القائمين على الشريعة ، والأحبار القائمين على أمر العلم الديني . . سكوتهم على مسارعة القوم في الإثم والعدوان وأكل السحت ؛ وعدم نهيهم عن هذا الشر الذي يتسابقون فيه :
( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ! لبئس ما كانوا يصنعون ! )
فهذه السمة - سمة سكوت القائمين على أمر الشريعة والعلم الديني عما يقع في المجتمع من إثم وعدوان - هي سمة المجتمعات التي فسدت وآذنت بالانهيار . . وبنو إسرائيل ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ) . . كما حكى عنهم القرآن الكريم . .
إن سمة المجتمع الخير الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . . أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ؛ وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي ، ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر .
وهكذا وصف الله الأمة المسلمة فقال : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ووصف بني إسرائيل فقال : ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ) . . فكان ذلك فيصلا بين المجتمعين وبين الجماعتين .
أما هنا فينحي باللائمة على الربانيين والأحبار ، الساكتين على المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت ؛ الذين لا يقومون بحق ما استحفظوا عليه من كتاب الله .
وإنه لصوت النذير لكل أهل دين . فصلاح المجتمع أو فساده رهن بقيام الحفظة على الشريعة والعلم فيه بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ والأمر كما قلنا من قبل في الظلال ، يقتضي " سلطة " تأمر وتنهى ، والأمر والنهي أمر غير الدعوة . فالدعوة بيان ، والأمر والنهي سلطان . وكذلك ينبغي أن يحصل الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر على السلطان الذي يجعل لأمرهم ونهيهم قيمته في المجتمع ؛ فلا يكون مطلق كلام !
قوله : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } يعني : هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك . والربانيون وهم : العلماء العمال أرباب الولايات عليهم ، والأحبار : وهم العلماء فقط .
{ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني الربانيين ، أنهم : بئس ما كانوا يصنعون . يعني : في تركهم ذلك .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال لهؤلاء حين لم يَنْهُوا ، ولهؤلاء حين علموا . قال : وذلك الأركان . قال : " ويعملون " و " ويصنعون " واحد . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن عطية ، حدثنا قَيْس ، عن العلاء بن المسيب ، عن خالد بن دينار عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } قال : كذا قرأ .
وكذا قال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها : إنا لا ننهى . رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : ذكره{[10030]} يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن مسلم عن أبي الوضاح ، حدثنا ثابت بن سعيد الهمذاني ، قال : رأيته{[10031]} بالرِّيِّ فحدث عن يحيى بن يَعْمَر قال : خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنما هلك من كان{[10032]} قبلكم بركوبهم المعاصي ، ولم ينههم الربانيون والأحبار ، فلما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار أخذتهم العقوبات . فَمُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم ، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقًا ولا يقرب أجلا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا ، شَرِيك ، عن أبي إسحاق ، عن المنذر بن جرير ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع ، لم يغيروا ، إلا أصابهم الله منه بعذاب " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه . {[10033]}
ورواه أبو داود ، عن مَسَدَّد ، عن أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن المنذر بن جرير ، عن جرير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، يقدرون أن يغيروا عليه ، فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا " . {[10034]}
وقد رواه ابن ماجه عن على بن محمد ، عن وَكِيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبَيد الله{[10035]} بن جرير ، عن أبيه ، به . {[10036]}
قال الحافظ المِزِّي : وهكذا رواه شعبة ، عن إسحاق ، به . {[10037]}
{ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت } تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك فإن لولا إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض . { لبئس ما كانوا يصنعون } أبلغ من قوله لبئس ما كانوا يعملون من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وترو وتحري إجادة ، ولذلك ذم به خواصهم ولأن ترك الحسنة أقبح من مواقعة المعصية ، لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديرا بأبلغ الذم .
وقوله تعالى : { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار } تخصيص في ضمنه توبيخ لهم إذ تركوا اللازم ، قال الطبري : كل العلماء يقولون ما في القرآن آية هي أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها ، وقال الضحاك بن مزاحم : ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا َنْنهى ، وقال نحو هذا ابن عباس ، وقرأ الجراح وأبو واقد «الرِبانيون » بكسر الراء واحدهم ربي إما منسوب إلى علم الرب وإما من تربية الناس بصغار العلم قبل كباره ، وزيدت النون في نسبته مبالغة كشعراني ومنظراني ومخبراني ، وقال الحسن : الرباني عالم الإنجيل والحبر عالم التوراة .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقوله في الرباني شاذ بعيد . و { الأحبار } واحدهم حبر بكسر الحاء وفتحها وهم العلماء الذين لا يعنون لإصلاح الناس ولا يكلفون ذلك ، والرباني هو العالم المدير المصلح ، وقوله تعالى : { عن قولهم الإثم } ظاهر أن { الإثم } هنا يراد به الكفر ، ويحتمل أن يراد به سائر أقوالهم المنكرة في النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وقرأ عباس «بئس ما كانوا يصنعون » بغير لام قسم .
{ لولا } تحْضيض أريد منه التّوبيخ .
و { الربّانيون والأحبار } تقدّم بيان معناهما في قوله تعالى : { يحكم بها النبيئون } [ المائدة : 44 ] الآية .
واقتصر في توبيخ الربّانيين على ترك نهيهم عن قول الإثم وأكللِ السحت ، ولم يذكر العُدوان إيماء إلى أنّ العدوان يزجرهم عنه المسلمون ولا يلتجئون في زجرهم إلى غيرهم ، لأنّ الاعتماد في النصرة على غير المجني عليه ، ضعف .
وجملة { لبئس ما كانوا يصنعون } مستأنفة ، ذمّ لصنيع الربّانيين والأحبار في سكوتهم عن تغيير المنكر ، و { يصنعون } بمعنى يعْلمون ، وإنّما خولف هنا ما تقدّم فيّ الآية قبلها للتّفنن ، وقيل : لأنّ { يصنعون } أدلّ على التمكّن في العمل من { يعملون } .