قوله { الحمد لله } لفظه خبر كأنه ، يخبر عن المستحق للحمد هو الله عز وجل ، وفيه تعليم الخلق تقديره قولوا الحمد لله . والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة ، ويكون بمعنى الثناء عليه بما فيه من الخصال الحميدة ، يقال حمدت فلاناً على ما أسدى إلي من نعمة ، وحمدته على علمه وشجاعته ، والشكر لا يكون إلا على النعمة ، والحمد أعم من الشكر ، إذ لا يقال شكرت فلاناً على علمه ، فكل حامد شاكر ، وليس كل شاكر حامدا . وقيل الحمد باللسان قولاً والشكر بالأركان فعلاً قال الله تعالى ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ) ( اعملوا آل داود شكراً ) . يعني اعملوا الأعمال لأجل الشكر ، فشكرا مفعول به وانتصب باعملوا . قوله : { لله } اللام فيه للاستحقاق كما يقال الدار لزيد . قوله { رب العالمين الرحمن الرحيم } فالرب يكون بمعنى المالك ، كما يقول لمالك الدار رب الدار ، ويقال رب الشيء إذا ملكه ، ويكون بمعنى التربية والإصلاح ، يقال : رب فلان الضيعة يربها إذا أتمها وأصلحها فهو رب ، مثل طب وبر ، فالله تعالى مالك العالمين ومربيهم ولا يقال للمخلوق وهو الرب معرفاً ، إنما يقال رب كذا مضافاً لأن الألف واللام للتعميم ، وهو لا يملك الكل ، والعالمين جمع عالم والعالم ، جمع لا واحد له من لفظه ، واختلفوا في العالمين ، قال ابن عباس : هم الجن والإنس لأنهم المكلفون بالخطاب ، قال الله تعالى : { ليكون للعالمين نذيراً } وقال قتادة و مجاهد و الحسن : جميع المخلوقين . قال الله تعالى : ( قال فرعون وما رب العالمين ؟ قال رب السماوات والأرض وما بينهما ) واشتقاقه من العلم والعلامة سموا به لظهور أثر الصنعة فيهم . قال أبو عبيد : أربع أمم الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين ، مشتق من العلم ولا يقال للبهائم عالم ، لأنها لا تعقل ، واختلفوا في مبلغهم . قال سعيد بن المسيب : لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وقال مقاتل بن حيان : لله ثمانون ألف عالم ، أربعون ألفاً في البحر ، وأربعون ألفاً في البر ، وقال وهب : لله ثمانية عشر ألف عالم ، الدنيا عالم منها ، وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء ، وقال كعب الأحبار لا يحصى عدد العالمين أحد إلا الله قال ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) .
وعقب البدء باسم الله الرحمن الرحيم يجيء التوجه إلى الله بالحمد ووصفه بالربوبية المطلقة للعالمين : ( الحمد لله رب العالمين ) .
والحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله . . فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء . وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع ، وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان . . ومن ثم كان الحمد لله ابتداء ، وكان الحمد لله ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر : ( وهو الله لا إله إلا هو ، له الحمد في الأولى والآخرة . . . . ) .
ومع هذا يبلغ من فضل الله - سبحانه - وفيضه على عبده المؤمن ، أنه إذا قال : الحمد لله . كتبها له حسنة ترجح كل الموازين . . في سنن ابن ماجه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله [ ص ] حدثهم أن عبدا من عباد الله قال : " يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك " . فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها . فصعدا إلى الله فقالا : يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها . قال الله - وهو أعلم بما قال عبده - : " وما الذي قال عبدي ؟ " قالا : يا رب ، إنه قال : لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . فقال الله لهما : " اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها " . .
والتوجه إلى الله بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله - كما أسلفنا - أما شطر الآية الأخير : ( رب العالمين ) فهو يمثل قاعدة التصور الإسلامي ، فالربوبية المطلقة الشاملة هي إحدى كليات العقيدة الإسلامية . . والرب هو المالك المتصرف ، ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح والتربية . . والتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين - أي جميع الخلائق - والله - سبحانه - لم يخلق الكون ثم يتركه هملا . إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه . وكل العوالم والخلائق تحفظ وتتعهد برعاية الله رب العالمين . والصلة بين الخالق والخلائق دائمة ممتدة قائمة في كل وقت وفي كل حالة .
والربوبية المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل ، والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة . وكثيرا ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف بالله بوصفه الموجد الواحد للكون ، والاعتقاد بتعدد الأرباب الذين يتحكمون في الحياة . ولقد يبدو هذا غريبا مضحكا . ولكنه كان وما يزال . ولقد حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين كانوا يقولون عن أربابهم المتفرقة : ( ما نعبدهم إلاليقربونا إلى الله زلفى ) . . كما قال عن جماعة من أهل الكتاب : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) . . وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام ، تعج بالأرباب المختلفة ، بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما يزعمون !
فإطلاق الربوبية في هذه السورة ، وشمول هذه الربوبية للعالمين جميعا ، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة . لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد ، تقر له بالسيادة المطلقة ، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة ، وعنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب . . ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية الله الدائمة وربوبيته القائمة . وإلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبدا ولا تفتر ولا تغيب ، لا كما كان أرقى تصور فلسفي لأرسطو مثلا يقول بأن الله أوجد هذا الكون ثم لم يعد يهتم به ، لأن الله أرقى من أن يفكر فيما هو دونه ! فهو لا يفكر إلا في ذاته ! وأرسطو - وهذا تصوره - هو أكبر الفلاسفة ، وعقله هو أكبر العقول !
لقد جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار . . يختلط فيها الحق بالباطل ، والصحيح بالزائف ، والدين بالخرافة ، والفلسفة بالأسطورة . . والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات وظنون ، ولا يستقر منها على يقين .
وكان التيه الذي لا قرار فيه ولا يقين ولا نور ، هو ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها ، وصفاته وعلاقته بخلائقه ، ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص .
ولم يكن مستطاعا أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون ، وفي أمر نفسه وفي منهج حياته ، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته وتصوره لإلهه وصفاته ، وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء وهذا التيه وهذا الركام الثقيل .
ولا يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام ، وحتى يرود هذا التيه من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري ، والتي أشرنا إلى طرف منها فيما تقدم صغير . [ وسيجيء في استعراض سور القرآن الكثير منها ، مما عالجه القرآن علاجا وافيا شاملا كاملا ] .
ومن ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهه إلى تحرير أمر العقيدة ، وتحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر الله وصفاته ، وعلاقته بالخلائق ، وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين .
ومن ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل ، الذي لا تشوبه شائبة من قريب ولا من بعيد . . هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام ، وظل يجلوها في الضمير ، ويتتبع فيه كل هاجسة وكل شائبة حول حقيقة التوحيد ، حتى يخلصها من كل غبش . ويدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها وهم في صورة من الصور . . كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات الله وبخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة . فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات والعقائد كما تخبط فيه الأوهام والأساطير . . مما يتعلق بهذا الأمر الخطير ، العظيم الأثر في الضمير الإنساني . وفي السلوك البشري سواء .
والذي يراجع الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله وصفاته وعلاقته بمخلوقاته ، هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة . . الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه . . قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر ، وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير . . ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول ، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة - وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه ؛ وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير !
وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها . . كل هذا لا يتجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات ، والأساطير والفلسفات ! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم . . عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة . رحمة حقيقية للقلب والعقل ، رحمة بما فيها من جمال وبساطة ، ووضوح وتناسق ، وقرب وأنس ، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
القراء السبعة على ضم الدال من قوله : { الحمدُ لِله } وهو مبتدأ وخبر . وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا " الحمدَ لِله " بالنصب وهو على إضمار فعل ، وقرأ ابن أبي
عبلة : " الحمدُ لُله " بضم الدال واللام إتباعًا للثاني الأول وله شواهد لكنه شاذ ، وعن الحسن وزيد بن علي : " الحمدِ لِله " بكسر الدال إتباعًا للأول الثاني .
قال أبو جعفر بن جرير : معنى { الحمد لله } الشكر لله خالصًا دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ، ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذَّاهم به من نعيم العيش ، من غير استحقاق منهم ذلك عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم ، فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرًا .
[ وقال ابن جرير : { الحمد لله } ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال : قولوا : { الحمد لله } ]{[879]} .
قال : وقد قيل : إن قول القائل : الحمد لله ، " ثناء عليه بأسمائه وصفاته الحسنى{[880]} ، وقوله : الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه ، ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان{[881]} الآخر .
[ وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية . وقال ابن عباس : { الحمد لله } كلمة كل شاكر ، وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل : { الحمد لله } شكرًا{[882]} ]{[883]} .
وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر ؛ لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية ، والشكر لا يكون إلا على المتعدية ، ويكون بالجنان واللسان والأركان ، كما قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا
ولكنهم{[884]} اختلفوا : أيهما أعم ، الحمد أو الشكر ؟ على قولين ، والتحقيق أن بينهما عمومًا وخصوصًا ، فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه ؛ لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية ، تقول : حَمدته لفروسيته وحمدته لكرمه . وهو أخص لأنه لا يكون إلا بالقول ، والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه{[885]} ، لأنه يكون بالقول والعمل{[886]} والنية ، كما تقدم ، وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية ، لا يقال : شكرته لفروسيته ، وتقول : شكرته على كرمه وإحسانه إليّ . هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين ، والله أعلم .
وقال أبو نصر إسماعيل بن حَمَّاد الجوهري : الحمد نقيض الذم ، تقول : حَمِدت الرجل أحمده حمدًا ومحمدة{[887]} ، فهو حميد ومحمود ، والتحميد أبلغ من الحمد ، والحمد أعم من الشكر . وقال في الشكر : هو الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف ، يقال : شكرته ، وشكرت له . وباللام أفصح{[888]} .
[ وأما المدح فهو أعم من الحمد ؛ لأنه يكون للحي وللميت وللجماد - أيضا - كما يمدح الطعام والمال ونحو ذلك ، ويكون قبل الإحسان وبعده ، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضًا فهو أعم ]{[889]} .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو معمر القطيعي ، حدثنا حفص ، عن حجاج ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال عمر : قد عَلِمْنا سبحان الله ، ولا إله إلا الله ، فما الحمد لله ؟ فقال علي : كلمة رضيها الله لنفسه{[890]} .
ورواه غير أبي مَعْمَر ، عن حفص ، فقال : قال عمر لعلي ، وأصحابه عنده : لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، قد عرفناها ، فما الحمد لله ؟ قال{[891]} علي : كلمة أحبها [ الله ]{[892]} لنفسه ، ورضيها لنفسه ، وأحب أن تقال{[893]} .
وقال علي بن زيد بن جُدْعَان ، عن يوسف بن مِهْرَان ، قال : قال ابن عباس : الحمد لله كلمة الشكر ، وإذا قال العبد : الحمد لله ، قال : شكرني عبدي . رواه ابن أبي حاتم .
وروى - أيضًا - هو وابن جرير ، من حديث بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : أنه قال : الحمد لله هو الشكر لله والاستخذاء له ، والإقرار له بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك .
وقال كعب الأحبار : الحمد لله ثناء الله . وقال الضحاك : الحمد لله رداء الرحمن . وقد ورد الحديث بنحو ذلك .
قال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمرو السَّكوني ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثني عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمير ، وكانت له صحبة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا قلت : الحمد لله رب العالمين ، فقد شكرت الله ، فزادك »{[894]} .
وقد روى الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا روح ، حدثنا عوف ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع ، قال : قلت : يا رسول الله ، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي ، تبارك وتعالى ؟ فقال : «أما إن ربك يحب الحمد »{[895]} .
ورواه النسائي ، عن علي بن حجر ، عن ابن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع ، به{[896]} .
وروى الترمذي ، والنسائي وابن ماجه ، من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير ، عن طلحة بن خراش ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله »{[897]} . وقال الترمذي : حسن غريب .
وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ »{[898]} . وقال القرطبي في تفسيره ، وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال : الحمد لله ، لكان الحمد لله أفضل من ذلك »{[899]} . قال القرطبي وغيره : أي لكان إلهامه الحمد لله أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا ؛ لأن ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى ، قال الله تعالى : { المال وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا } [ الكهف : 46 ] . وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم : «أن عبدًا من عباد الله قال : يا رب ، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها ، فصعدا إلى السماء فقالا يا رب ، إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها ، قال الله - وهو أعلم بما قال عبده - : ماذا قال عبدي ؟ قالا يا رب إنه قد قال : يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها »{[900]} . وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا : قول العبد : الحمد لله رب العالمين ، أفضل من قول : لا إله إلا الله ؛ لاشتمال الحمد لله رب العالمين على التوحيد مع الحمد ، وقال آخرون : لا إله إلا الله أفضل لأنها الفصل بين الإيمان والكفر ، وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله كما ثبت في الحديث المتفق عليه وفي الحديث الآخر في السنن : " أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له »{[901]} . وقد تقدم عن جابر مرفوعا : " أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله " . وحسنه الترمذي .
والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد ، وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث : «اللهم لك الحمد كله ، ولك الملك كله ، وبيدك الخير كله ، وإليك يرجع الأمر كله » الحديث{[902]} .
{ رَبِّ الْعَالَمِينَ } والرب هو : المالك المتصرف ، ويطلق في اللغة على السيد ، وعلى المتصرف للإصلاح ، وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى .
[ ولا يستعمل الرب لغير الله ، بل بالإضافة تقول : رب الدار رب كذا ، وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل ، وقد قيل : إنه الاسم الأعظم ]{[903]} . والعالمين : جمع عالم ، [ وهو كل موجود سوى الله عز وجل ]{[904]} ، والعالم جمع لا واحد له من لفظه ، والعوالم أصناف المخلوقات [ في السماوات والأرض ]{[905]} في البر والبحر ، وكل قرن منها وجيل يسمى عالمًا أيضًا .
قال بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] الحمد لله الذي له الخلق كله ، السماوات والأرضون ، ومن فيهن وما بينهن ، مما نعلم ، وما لا نعلم .
وفي رواية سعيد بن جبير ، وعكرمة ، عن ابن عباس : رب الجن والإنس . وكذلك قال سعيد بن جبير ، ومجاهد وابن جريج ، وروي عن علي [ نحوه ]{[906]} . وقال{[907]} ابن أبي حاتم : بإسناد لا يعتمد عليه .
واستدل القرطبي لهذا القول بقوله : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان : 1 ] وهم الجن والإنس . وقال الفراء وأبو عبيدة : العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم : عالم ، وعن زيد بن أسلم وأبي عمرو بن العلاء{[908]} كل ما له روح يرتزق . وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم - وهو آخر خلفاء بني أمية ويعرف بالجعد ويلقب بالحمار - أنه قال : خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السماوات وأهل الأرض عالم واحد وسائر ذلك لا يعلمه{[909]} إلا الله ، عز وجل .
وقال قتادة : رب العالمين ، كل صنف عالم . وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى { رب العالمين } قال : الإنس عالم ، والجن عالم ، وما سوى{[910]} ذلك ثمانية عشر ألف عالم ، أو أربعة عشر ألف عالم ، هو يشك ، من الملائكة على الأرض ، وللأرض أربع زوايا ، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم ، وخمسمائة عالم ، خلقهم [ الله ]{[911]} لعبادته . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
[ وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح ]{[912]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الفرات ، يعني ابن الوليد ، عن معتب{[913]} بن سمي ، عن تُبَيع ، يعني الحميري ، في قوله : { رب العالمين } قال : العالمين ألف أمة فستمائة في البحر ، وأربعمائة في البر .
[ وحكي مثله عن سعيد بن المسيب ]{[914]} .
وقد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده :
حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبيد بن واقد القيسي ، أبو عباد ، حدثني محمد بن عيسى بن كيسان ، حدثنا محمد بن المنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قلّ الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها فسأل عنه ، فلم يخبر بشيء ، فاغتم لذلك ، فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن ، وآخر إلى الشام ، وآخر إلى العراق ، يسأل : هل رئي من الجراد شيء أم لا ؟ قال : فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد ، فألقاها بين يديه ، فلما رآها كبر ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «خلق الله ألف أمة ، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد ، فإذا هلك{[915]} تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه »{[916]} . محمد بن عيسى هذا - وهو الهلالي - ضعيف .
وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال : لله ألف عالَم ؛ ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وقال وهب بن منبه : لله ثمانية عشر ألف عالَم ؛ الدنيا عالم منها . وقال مقاتل : العوالم ثمانون ألفًا . وقال كعب الأحبار : لا يعلم عدد العوالم إلا الله عز وجل . نقله كله البغوي ، وحكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : إن لله أربعين ألف عالم ؛ الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها ، وقال الزجاج : العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة . قال القرطبي : وهذا هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين ؛ كقوله : { قال فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } والعالم مشتق من العلامة ( قلت ) : لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز :
{ الحمد لله } الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها ، والمدح هو الثناء على الجميل مطلقا ، تقول حمدت زيدا على علمه وكرمه ، ولا تقول حمدته على حسنه ، بل مدحته وقيل هما أخوان ، والشكر : مقابلة النعمة قولا وعملا واعتقادا قال :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا
فهو أعم منهما من وجه ، وأخص من آخر ولما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة ، وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد ، وما في آداب الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر والعمدة فيه فقال عليه الصلاة والسلام : " الحمد رأس الشكر ، وما شكر الله من لم يحمده " .
والذم نقيض الحمد والكفران نقيض الشكر . ورفعه بالابتداء وخبره لله وأصله النصب وقد قرئ به ، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له دون تجدده وحدوثه . وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تستعمل معها ، والتعريف فيه للجنس ومعناه : الإشارة إلى ما يعرف كل أحد أن الحمد ما هو ؟ أو للاستغراق إذ الحمد في الحقيقة كله له ، إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال تعالى وما { بكم من نعمة فمن الله } وفيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم . إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه . وقرئ الحمد لله بإتباع الدال اللام وبالعكس تنزيلا لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة .
{ رب العالمين } الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية : وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا ، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل . وقيل هو نعت من ربه يربه فهو رب ، كقولك نم ينم فهو نم ، ثم سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه . ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا كقوله { ارجع إلى ربك } والعالم اسم لما يعلم به ، كالخاتم والقالب ، غلب فيما يعلم به الصانع تعالى ، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده ، وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة ، وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم . وقيل اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع . وقيل عني به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير ، ولذلك سوى بين النظر فيهما ، وقال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وقرئ { رب العالمين } بالنصب على المدح . أو النداء . أو بالفعل الذي دل عليه الحمد ، وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها .
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 2 )
{ الحمد } معناه الثناء الكامل ، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد ، وهو أعم من الشكر ، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر ، وشكره حمد ما ، والحمد المجرد( {[13]} ) هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئاً ، فالحامد من الناس قسمان : الشاكر والمثني بالصفات .
وذهب الطبري إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد ، وذلك غير مرضي . ( {[14]} )
وحكي عن بعض الناس أنه قال : «الشكر ثناء على الله بأفعاله وأنعامه ، والحمدُ ثناء بأوصافِه » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أصح معنى من أنهما بمعنى واحد . واستدل الطبري على أنهما بمعنى ، بصحة قولك الحمد لله شكراً . وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه . لأن قولك شكراً إنما خصصت به الحمد أنه على نعمة من النعم . وأجمع السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من «الحمدُ لله » .
وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج «الحمدَ لله » بفتح الدال وهذا على إضمار فعل .
وروي عن الحسن بن الحسن وزيد بن علي : «الحمدِ لله » ، بكسر الدال على إتباع الأول الثاني .
وروي عن ابن أبي عبلة( {[15]} ) : «الحمدُ لُله » ، بضم الدال واللام ، على اتباع الثاني الأول .
قال الطبري : { الحمد لله } ثناء أثنى به على نفسه ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه ، فكأنه قال : «قولوا الحمد لله » وعلى هذا يجيء «قولوا إياك » قال : وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه ، كما قال الشاعر :
وأعلَمُ أنني سأكونُ رمساً . . . إذا سار النواعِجُ لا يسيرُ
فقالَ السائلونَ لِمَنْ حفرْتُمْ . . . فقال القائلونَ لهمْ وزيرُ( {[16]} )
المعنى المحفور له وزير ، فحذف لدلالةِ ظاهرِ الكلامِ عليه ، وهذا كثير .
فقال بعضهم : «هو نصب على المدح » .
وقال بعضهم : «هو على النداء ، وعليه يجيء { إياك } » .
والرب في اللغة : المعبود ، والسيد المالك ، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها ، والملك ، - تأتي اللفظة لهذه المعاني- .
فمما جاء بمعنى المعبود قول الشاعر [ غاوي بن عبد العزى ] :
أربّ يبولُ الثعلبان برأسه . . . لقد هانَ من بالَتْ عليه الثَّعالبُ( {[17]} )
ومما جاء بمعنى السيد المالك قولهم : رب العبيد والمماليك .
ومما جاء بمعنى القائم بالأمور الرئيس فيها قول لبيد :
وأهلكن يوماً ربَّ كندة وابنَهُ . . . وربَّ معدٍّ بين خَبْتٍ وعَرْعَرٍ( {[18]} )
ومما جاء بمعنى الملك قوله النابغة :
تخبُّ إلى النعمان حتّى تنالَهُ . . . فدى لك من ربٍّ طريفي وتالدي( {[19]} )
ومن معنى الإصلاح قولهم : أديم مربوب ، أي مصلح ، قال الشاعر( {[20]} ) الفرزدق : [ البسيط ] .
كانوا كسالئةٍ حمقاء إذْ حقنتْ . . . سلاءَها في أديمٍ غيرِ مَرْبُوبِ
ومن معنى الملك قول صفوان بن أمية لأخيه يوم حنين : «لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن »( {[21]} ) .
ومنه قول ابن عباس في شأن عبد الله بن الزبير ، وعبد الملك بن مروان : «وإن كان لا بد لأن يربني رجل من بني عمي أحبّ إليّ من أن يربني غيرهم »( {[22]} ) . ذكره البخاري في تفسير سورة براءة . ومن ذلك قول الشاعر علقمة بن عبدة : [ الطويل ] .
وكنت أمرءاً أفضت إليك ربابتي . . . ومن قبل ربتني فضعت ربوبُ( {[23]} )
وهذه الاستعمالات قد تتداخل ، فالرب على الإطلاق الذي هو رب الأرباب على كل جهة هو الله تعالى .
و { العالمين } جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى ، يقال لجملته عالم ، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم ، وبحسب ذلك يجمع على العالمين ، ومن حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر حسن جمعها( {[24]} ) ، ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده ، كذا قال الزجاج .