البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (2)

{ الحمد } الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها باللسان وحده ، ونقيضه الذم ، وليس مقلوب مدح ، خلافاً لابن الأنباري ، إذ هما في التصريفات متساويان ، وإذ قد يتعلق المدح بالجماد ، فتمدح جوهرة ولا يقال تحمد ، والحمد والشكر بمعنى واحد ، أو الحمد أعم ، والشكر ثناء على الله تعالى بأفعاله ، والحمد ثناء بأوصافه ثلاثة أقوال ، أصحها أنه أعم ، فالحامد قسمان : شاكر ومثن بالصفات .

{ لله } اللام : للملك وشبهه ، وللتمليك وشبهه ، وللاستحقاق ، وللنسب ، وللتعليل ، وللتبليغ ، وللتعجب ، وللتبيين ، وللصيرورة ، وللظرفية بمعنى في أو عند أو بعد ، وللانتهاء ، وللاستعلاء مثل : ذلك المال لزيد ، أدوم لك ما تدوم لي ، ووهبت لك ديناراً ،

{ جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } ، الجلباب للجارية ، لزيد عم ، { لتحكم بين الناس } ، قلت لك ، ولله عيناً ، من رأى ، من تفوق ، { هيت لك } { ليكون لهم عدواً وحزناً } { القسط ليوم القيامة } كتب لخمس خلون ، لدلوك الشمس ، { سقناه لبلد ميت } { يخرون للأذقان }

{ رب العالمين } الرب : السيد ، والمالك ، والثابت ، والمعبود ، والمصلح ، وزاد بعضهم بمعنى الصاحب ، مستدلاً بقوله :

فدنا له رب الكلاب بكفه . . . ***بيض رهاف ريشهن مقزع

وبعضهم بمعنى الخالق العالم لا مفرد له ، كالأنام ، واشتقاقه من العلم أو العلامة ، ومدلوله كل ذي روح ، قاله ابن عباس ، أو الناس ، قاله البجلي ، أو الإنس والجن والملائكة ، قاله أيضاً ابن عباس ، أو الإنس والجن والملائكة والشياطين ، قاله أبو عبيدة والفراء ، أو الثقلان ، قاله ابن عطية ، أو بنو آدم ، قاله أبو معاذ ، أو أهل الجنة والنار ، قاله الصادق ، أو المرتزقون ، قاله عبد الرحمن بن زيد ، أو كل مصنوع ، قاله الحسن وقتادة ، أو الروحانيون ، قاله بعضهم ، ونقل عن المتقدمين أعداد مختلفة في العالمين وفي مقارها ، الله أعلم بالصحيح .

والجمهور قرأوا بضم دال الحمد ، وأتبع ابراهيم بن أبي عبلة ميمه لام الجر لضمة الدال ، كما أتبع الحسن وزيد بن علي كسرة الدال لكسرة اللام ، وهي أغرب ، لأن فيه إتباع حركة معرب لحركة غير إعراب ، والأول بالعكس .

وفي قراءة الحسن احتمال أن يكون الإتباع في مرفوع أو منصوب ، ويكون الإعراب إذ ذاك على التقديرين مقدراً منع من ظهوره شغل الكلمة بحركة الإتباع ، كما في المحكى والمدغم .

وقرأ هارون العتكي ، ورؤبة ، وسفيان بن عيينة الحمد بالنصب .

والحمد مصدر معرف بأل ، إما للعهد ، أي الحمد المعروف بينكم لله ، أو لتعريف الماهية ، كالدينار خير من الدرهم ، أي : دينار كان فهو خير من أي درهم كان ، فيستلزم إذ ذاك الأحمدة كلها ، أو لتعريف الجنس ، فيدل على استغراق الأحمدة كلها بالمطابقة .

والأصل في الحمد لا يجمع ، لأنه مصدر .

وحكى ابن الأعرابي : جمعه على أحمد كأنه راعى فيه جامعه اختلاف الأنواع ، قال :

وأبلج محمود الثناء خصصته ***بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي

وقراءة الرفع أمكن في المعنى ، ولهذا أجمع عليها السبعة ، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى ، فيكون قد أخبر بأن الحمد مستقر لله تعالى ، أي حمده وحمد غيره .

ومعنى اللام في لله الاستحقاق ، ومن نصب ، فلا بد من عامل تقديره أحمد الله أو حمدت الله ، فيتخصص الحمد بتخصيص فاعله ، وأشعر بالتجدد والحدوث ، ويكون في حالة النصب من المصادر التي حذفت أفعالها ، وأقيمت مقامها ، وذلك في الأخبار ، نحو شكراً لا كفراً .

وقدر بعضهم العامل للنصب فعلاً غير مشتق من الحمد ، أي أقول الحمد لله ، أو الزموا الحمد لله ، كما حذفوه من نحو اللهم ضبعاً وذئباً ، والأول هو الصحيح لدلالة اللفظ عليه .

وفي قراءة النصب ، اللام للتبيين ، كما قال أعني لله ، ولا تكون مقوية للتعدية ، فيكون لله في موضع نصب بالمصدر لامتناع عمله فيه .

قالوا سقياً لزيد ، ولم يقولوا سقياً زيداً ، فيعملونه فيه ، فدل على أنه ليس من معمول المصدر ، بل صار على عامل آخر .

قرأ زيد بن علي وطائفة { رب العالمين } بالنصب على المدح ، وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها ، وضعفت إذ ذاك .

على أن الأهوازي حكى في قراءة زيد بن علي أنه قرأ { رب العالمين ، الرحمن الرحيم } بنصب الثلاثة ، فلا ضعف إذ ذاك ، وإنما تضعف قراءة نصب رب ، وخفض الصفات بعدها لأنهم نصوا أنه لا اتباع بعد القطع في النعوت ، لكن تخريجها على أن يكون الرحمن بدلاً ، ولاسيما على مذهب الأعلم ، إذ لا يجيز في الرحمن أن يكون صفة ، وحسن ذلك على مذهب غيره ، كونه وصفاً خاصاً ، وكون البدل على نية تكرار العامل ، فكأنه مستأنف من جملة أخرى ، فحسن النصب .

وقول من زعم أنه نصب رب بفعل دل عليه الكلام قبله ، كأنه قيل نحمد الله رب العالمين ، ضعيف ، لأنه مراعاة التوهم ، وهو من خصائص العطف ، ولا ينقاس فيه .

ومن زعم أنه نصبه على البدل فضعيف للفصل بقوله الرحمن الرحيم ، ورب مصدر وصف به على أحد وجوه الوصف بالمصدر ، أو اسم فاعل حذفت ألفة ، فأصله راب ، كما قالوا رجل بار وبر ، وأطلقوا الرب على الله وحده ، وفي غيره قيد بالإضافة نحو رب الدار .

وأل في العالمين للاستغراق ، وجمع العالم شاذ لأنه اسم جمع ، وجمعه بالواو والنون أشذ للإخلال ببعض الشروط التي لهذا الجمع ، والذي أختاره أنه ينطلق على المكلفين لقوله تعالى : { إن في ذلك لآيات للعالمين } ، وقراءة حفص بكسر اللام توضح ذلك .