النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (2)

قوله عز وجل : { الحَمْدُ لِلِّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .

أما { الحمد لله } فهو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله ، والشكرُ الثناء عليه بإنعامه ، فكلُّ شكرٍ حمدٌ ، وليسَ كلُّ حمدٍ شكراً ، فهذا فرقُ ما بين الحمد والشكر ، ولذلك جاز أن يَحْمِدَ الله تعالى نفسه ، ولم يَجُزْ أن يشكرها .

فأما الفرق بين الحمد والمدح ، فهو أن الحمد لا يستحق إلا على فعلٍ حسن ، والمدح قد يكون على فعل وغير فعل ، فكلُّ حمدٍ مدحٌ وليْسَ كل مدحٍ حمداً ، ولهذا جاز أن يمدح الله تعالى على صفته ، بأنه عالم قادر ، ولم يجز أن يحمد به ، لأن العلم والقدرة من صفات ذاته ، لا من صفات أفعاله ، ويجوز أن يمدح ويحمد على صفته ، بأنه خالق رازق لأن الخلق والرزق من صفات فعله لا من صفات ذاته .

وأما قوله : { رب } فقد اختُلف في اشتقاقه على أربعة أقاويل :

أحدها : أنه مشتق من المالك ، كما يقال رب الدار أي مالكها .

والثاني : أنه مشتق من السيد ، لأن السيد يسمى ربّاً ، قال تعالى :

{ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً }{[9]} يعني سيده .

والقول الثالث : أن الرب المدَبِّر ، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ : { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ }{[10]} وهم العلماء ، سموا ربَّانيِّين ، لقيامهم بتدبير الناس بعلمهم ، وقيل : ربَّة البيت ، لأنها تدبره .

والقول الرابع : الرب مشتق من التربية ، ومنه قوله تعالى :

{ وَرَبَآئِبُكُمُ اللاَّتِي في حُجُورِكُمْ }{[11]} فسمي ولد{[12]} الزوجة ربيبة ، لتربية الزوج لها .

فعلى هذا ، أن صفة الله تعالى بأنه رب ، لأنه مالك أو سيد ، فذلك صفة من صفات ذاته ، وإن قيل لأنه مدبِّر لخلقه ، أو مُربِّيهم ، فذلك صفة من صفات فعله . ومتى أدْخَلت عليه الألف واللام . اختص الله تعالى به دون عباده ، وإن حذفتا منه ، صار مشتركاً بين الله وبين عباده .

وأما قوله : { العالمين } فهو جمع عَالم ، لا واحد له من لفظه ، مثل : رهط وقوم ، وأهلُ كلِّ زمانٍ{[13]} عَالَمٌ ، قال العجاج :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .  ***   فَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا الْعَالَمِ{[14]}

واختُلِف في العالم ، على ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنّه ما يعقِل : من الملائكة ، والإنس والجنِّ ، وهذا قول ابن عباس .

والثاني : أن العالم الدنيا وما فيها .

والثالث : أن العالم كل ما خلقه الله تعالى في الدنيا والآخرة ، وهذا قول أبي إسحاق الزجَّاج .

واختلفوا في اشتقاقه على وجهين :

أحدهما : أنه مشتق من العلم ، وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لما يعقل .

والثاني : أنه مشتق من العلامة ، لأنه دلالة على خالقه ، وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لكُلِّ مخلوقٍ{[15]} .


[9]:- آية 41- يوسف.
[10]:- آية 44- المائدة.
[11]:- آية 23-النساء.
[12]:- فسمي ولد الزوجة. هكذا في الأصول، ولعل الصواب: فسميت بنت الزوجة ربيبة.
[13]:- هذا قول الحسين بن فضل واستشهد له بقوله تعالى: "أتأتون الذكران من العالمين" الآية 165 من الشعراء.
[14]:- خندق اسم قبيلة من العرب. وذكر الشنقيطي أن العجاج كان ينشد "العالم" بالهمز: (العألم) والتسكين: "العالم".
[15]:- تفسير قوله تعالى: "الرحمن الرحيم" سبق في تفسير البسملة.