السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (2)

{ الحمد لله } الحمد اللفظي لغة الثناء باللسان على الجميل الاختياري على قصد التبجيل ، أي : التعظيم ، سواء أتعلق بالفضائل وهي النعم القاصرة أم بالفواضل وهي النعم المتعدّية فدخل في الثناء الحمد وغيره وخرج باللسان الثناء بغيره كالحمد النفسي وبالجميل الثناء باللسان على غير الجميل ، إن قلنا برأي ابن عبد السلام أن الثناء حقيقة في الخير والشرّ ، وإن قلنا برأي الجمهور وهو الظاهر أنه حقيقة في الخير فقط ففائدة ذلك تحقيق الماهية أو دفع توهم إرادة الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه وبالاختياري المدح ، فإنه يعمّ الاختياري وغيره ، تقول : مدحت اللؤلؤة على حسنها دون حمدتها ، وظاهر قول الزمخشريّ : الحمد والمدح أخوان أنهما مترادفان وبه صرّح في «الفائق » لكن الأوفق ما عليه الأكثر أنهما غير مترادفين بل متشابهان معنى أو اشتقاقاً كبيراً ، والاشتقاق ثلاثة أقسام : كبير ، وأكبر ، وأصغر ، وقد يعبر عنه بالصغير ، فالكبير أن يشترك اللفظان في الحروف الأصول من غير ترتيب كالحمد والمدح ، والأكبر أن يشتركا في أكثر الحروف الأصول كالفلق ، والفلج ، والفلذ ، مع اتحاد في المعنى أو تناسب ، والأصغر أن يشتركا في الحروف الأصول المترتبة كضرب والضرب وبعلى قصد التبجيل ما كان على قصد الاستهزاء والسخرية نحو قوله تعالى : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } ( الدخان ، 49 ) وتناول الظاهر والباطن إذ لو تجرّد الثناء على الجميل عن مطابقة الاعتقاد أو خالفه أفعال الجوارح ، لم يكن حمداً بل تهكم أو تمليح ، وهذا لا يقتضي دخول الجنان والأركان في التعريف لأنّ المطابقة وعدم المخالفة اعتبرا فيه شرطاً لا شطراً وعرفاً فعل ينبىء عن تعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الحامد أو غيره سواء كان ذكراً باللسان أم اعتقاداً ومحبة بالجنان أم عملاً وخدمة بالأركان كما قيل :

أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا

فمورد اللغويّ : هو اللسان وحده ومتعلقه يعمّ النعمة وغيرها ، ومورد العرفي يعمّ اللسان وغيره ومتعلقه يكون النعمة وحدها ، فاللغويّ أعمّ باعتبار المتعلق وأخص باعتبار المورد ، والعرفي بالعكس ، والشكر لغة : هو الحمد عرفاً وعرفاً صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله ، والمدح لغة الثناء باللسان على الجميل مطلقاً على جهة التعظيم ، وعرفاً ما يدلّ على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل ، فالشكر أعمّ من الحمد والمدح من وجه لأنه لا يختص باللسان وأخص منهما من وجه آخر لأنه يختص بالثناء على الإنعام ، وضدّ الحمد الذم ، وضدّ الشكر الكفران ، وضدّ المدح الهجو .

وجملة الحمد لله خبرية لفظاً ؛ إنشائية معنى ، لحصول الحمد بالتكلم بها مع الإذعان لمدلولها ، ويجوز أن تكون موضوعة شرعاً للإنشاء وقيل : خبرية لفظاً ومعنى ، قال بعضهم : وهو التحقيق إذ ليس معنى كونها إنشائية لا أنها جملة إنشاء الحامد الثناء بها وذلك لا ينافي كونها خبرية معنى . ولام لله للملك أو الاستحقاق أو الاختصاص ، وقيل : للتعليل والأولى أنها للاختصاص بالمعنى الأعمّ الصادق بالملك وبالاستحقاق ، لا بالمعنى الأخص المقابل لهما وعلى كل فهي متعلقة بمحذوف هو الخبر حقيقة ، فالحمد مختص بالله كما أفادته الجملة الاسمية سواء أجعلت لام التعريف فيه للاستغراق كما عليه الجمهور وهو ظاهر ، أم للجنس كما عليه الزمخشري ؛ لأنّ لام لله للاختصاص كما مرّ فلا فرد منه لغيره أم للعهد كالتي في قوله تعالى : { إذ هما في الغار } ( التوبة ، 40 ) كما نقله ابن عبد السلام وأجازه الواحديّ على معنى أن الحمد الذي حمد الله به نفسه وحمده به أنبياؤه وأولياؤه مختص به والعبرة بحمد من ذكر فلا فرد منه لغيره ، وأولى الثلاثة الجنس ، زاد بعضهم أو للكمال كما أفاده سيبويه في الداخلة على الصفات كالرحمن الرحيم ، قال البيضاويّ : إذ الحمد في الحقيقة كله له إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال : { وما بكم من نعمة فمن الله } ( النحل ، 53 ) انتهى .

فإن قيل : بل هو موليه مطلقاً بغير وسط ، أجيب : بأن المراد بالوسط من تصل إليه النعمة أوّلاً ثم تنتقل منه إلى غيره لا أنه وسط في التأثير .

فأن قيل : لم خص الحمد بالله ولم يقل الحمد للخالق أو نحو من بقية الصفات أجيب : بأن لا يتوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف ، قال البيضاوي : وفيه إشعار بأنه تعالى حيّ قادر مريد عالم إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه .

{ رب العالمين } أي : مالك جميع الخلق من الإنس والجنّ والملائكة والدوابّ وغيرهم ، إذ كل منها يطلق عليه عالم ، يقال : عالم الإنس وعالم الجنّ إلى غير ذلك ، وسمي المالك بالرب لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كقوله تعالى : { ارجع إلى ربك } ( يوسف ، 50 ) والعالمين اسم جمع عالم بفتح اللام وليس جمعاً له لأنّ العالم عامّ في العقلاء وغيرهم والعالمين مختص بالعقلاء والخاص لا يكون جمعاً لما هو أعم منه ، قاله ابن مالك وتبعه ابن هشام في «توضيحه » ، وذهب كثير إلى أنه جمع عالم على حقيقة الجمع ثم اختلفوا في تفسير العالم الذي جمع هذا الجمع فذهب أبو الحسن إلى أنه أصناف الخلق العقلاء وغيرهم وهو ظاهر كلام الجوهريّ ، وذهب أبو عبيدة إلى أنه أصناف العقلاء فقط وهو الإنس والجن والملائكة .

وقيل : عنى به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث أنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير ووجه اشتمال الصغير وهو الإنسان على نظائر ما في الكبير وهو ما سوى الله تعالى أنّ تفاصيله شبيهة بتفاصيل العالم الكبير ، إذ الكبير ينقسم إلى ظاهر محسوس كالعالم الملك وهو ما ظهر للحواس وتكون بقدرة الله تعالى بعضه من بعض وتضمنه التغيير وإلى باطن معقول كعالم الملكوت وهو ما أوجده سبحانه وتعالى بالأمر الأزلي بلا تدريج وبقي على حالة واحدة من غير زيادة فيه ولا نقصان منه ، وإلى عالم الجبروت وهو ما بين العالمين مما يشبه أن يكون في الظاهر من عالم الملك فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت ، والإنسان كذلك ينقسم إلى ظاهر محسوس كاللحم والعظم والدم ، وإلى باطن كالروح والعقل والإرادة والقدرة ، وإلى ما هو مشابه لعالم الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس والقوى الموجودة بأجزاء البدن .

فإن قيل : لم جمع جمع قلة مع أنّ المقام يستدعي الإتيان بجميع الكثرة أجيب : بأنّ فيه تنبيهاً على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه تعالى .