الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (2)

الحمدُ : الثناءُ على الجميل سواءً كان نعمةً مُسْداةً إلى أحدٍ أم لا ، يقال : حَمِدْتُ الرجل على ما أنعم به عليَّ وحَمِدْته على شجاعته ، ويكون باللسان وحدَه دونَ عملِ الجَواح ، إذ لا يقال : حَمِدْت زيداً أي عَمِلْتُ له بيديَّ عملاً حسناً ، بخلافِ الشكر فإنه لا يكونُ إلاَّ نعمةً مُسْدَاةً إلى الغيرِ ، يقال : شكرتُه على ما أعطاني ، ولا يقال : شكرتُه على شجاعته ، ويكون بالقلب واللسان والجوارح ، قال تعالى : { اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] ، وقال الشاعر :

أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ مني ثلاثةً *** يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبا

فيكونُ بين الحمد والشكر عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ . وقيل : الحمدُ هو الشكرُ بدليل قولهم : " الحمدُ لله شكراً " . وقيل : بينهما عمومٌ/ وخصوصٌ مطلقٌ والحمدُ أعمُّ من الشكرِ ، وقيل : الحمدُ الثناءُ عليه تعالى بأوصافه ، والشكرُ الثناءُ عليه بأفعالِه ، فالحامدُ قسمان : شاكرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجميلة . وقيل : الحمدُ مقلوبٌ من المدحِ ، وليس بسديدٍ وإن كان منقولاً عن ثعلب ، لأن المقلوبَ أقلُّ استعمالاً من المقلوب منه ، وهذان مستويان في الاستعمال ، فليس ادِّعاءُ قلبِ أحدِهما من الآخر أَوْلَى من العكس ، فكانا مادتين مستقلتين ، وأيضاً فإنه يَمْتنع إطلاقُ المدحِ حيث يجوزُ إطلاقُ الحمدِ ، فإنه يقال : " حَمِدْتُ الله " ولا يقال مَدَحْته ، ولو كان مقلوباً لَما امتنع ذلك . ولقائلٍ أن يقول : مَنَعَ من ذلك مانعٌ ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك .

وقال الراغب : " الحمدُ لله الثناء [ عليه ] بالفضيلة ، وهو أخصُّ من المدحِ وأعمُّ من الشكر ، يقال فيما يكونُ من الإِنسان باختياره وبما يكونُ منه وفيه بالتسخير ، فقد يُمْدَحُ الإِنسان بطولِ قامتهِ وصَباحةِ وجههِ كما يُمْدَحُ ببذلِ مالِه وشجاعتهِ وعلمهِ ، والحمدُ يكون في الثاني دونَ الأول ، والشكرُ لا يُقال إلا في مقابلةِ نعمة ، فكلُّ شكرٍ حَمْدٌ وليس كل حمدٍ شكراً ، وكلُّ حَمْدٍ مَدْحٌ وليس كلُّ مَدْحٍ حمداً ، ويقال : فلان محمود إذا حُمِد ، ومُحْمَدٌ [ وُجد محموداً ] ومُحَمَّد كَثُرت خصالُه المحمودة ، وأحْمَدُ أي : إنه يفوق غيرَه في الحمد " .

والألفَ واللامُ في " الحَمْد " قيل : للاستغراقِ وقيل : لتعريفِ الجنسِ ، واختاره الزمخشري ، قال الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إلى الماجِدِ القَرْمِ الجَوادِ المُحَمَّدِ

وقيل : للعَهْدِ . وَمَنع الزمخشري كونَها للاستغراق ، ولم يبيِّنْ وجهَ ذلك ، ويُشْبِه أن يقال : إنَّ المطلوبَ من العبد إنشاء الحمد لا الإِخبارُ به وحينئذ يستحيلُ كونُها للاستغراقِ ، إذ لا يُمْكنُ العبدَ أن يُنْشِئَ جميعَ المحامدِ منه ومن غيرِه بخلافِ كونِها للجنسِ .

والأصلُ فيه المصدريةُ فلذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمع ، وحكى ابنُ الأعرابي جمعَه على أَفْعُل وأنشد :

وأَبْلَجَ محمودِ الثناء خَصَصْتُه *** بأفضلِ أقوالي وأفضلِ أَحْمُدي

وقرأ الجمهور : " الحمدُ لِلَّه " برفع الدال وكسر لام الجر ، ورفعُه على الابتداء ، والخبرُ الجار والمجرور بعده فيتعلَّقُ بمحذوف هو الخبرُ في الحقيقة .

ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَه اسماً وهو المختار ، وإنْ شئتَ قدَّرْتَه فِعْلاً ، أي : الحمدُ مستقرٌّ لله أو استقرَّ لله . والدليلُ على اختيار القول الأولِ أنَّ ذلك يتعيَّن في بعض الصور فلا أدلُّ من ترجيحه في غيرها ، وذلك أنك إذا قلت : " خرجت فإذا في الدار زيدٌ " ، و " أمَّا في الدار فزيدٌ " ، يتعيَّن في هاتين الصورتين تقديرُ الاسم ، لأن إذا الفجائية وأمَّا التفصيلية لا يليهما إلا المبتدأ . وقد عورض هذا اللفظُ بأنه يتعيَّن تقديرُ الفعلِ في بعضِ الصور ، وهو ما إذا ما وقع الجارُّ والمجرورُ صلةً لموصولٍ ، نحو : " الذي في الدار " فليكنْ راجحاً في غيره . والجوابُ أن ما رَجَّحْنا به هو من باب المبتدأ والخبر وليس أجنبياً فكان اعتباره أولى ، بخلاف وقوعه صلةً ، والأولُ غيرُ أجنبي .

ولا بُد من ذِكْر قاعدةٍ ههنا لعموم فائدتها ، وهي أنَّ الجارَّ والمجرورَ والظرفَ إذا وَقَعا صلة أو صفة أو حالاً أو خبراً تعلقا بمحذوفٍ ، وذلك المحذوفُ لا يجوز ظهورهُ إذا كان كوناً مطلقاً ، فأمَّا قول الشاعر :

لكَ العِزُّ إنْ مَوْلاكَ عَزَّ وإنْ يَهُنْ *** فأنت لدى بُحْبوحَةِ الهُونِ كائِنُ

فشاذٌّ لا يُلتفَتُ إليه . وأمَّا قوله تعالى : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [ النمل : 40 ] فلم يَقْصِدْ جَعْلَ الظرفِ ثابتاً فلذلك ذكرَ المتعلِّقَ به . ثم ذلك المحذوفُ يجوز تقديرُه باسم أو فعل إلا في الصلة فإنه يتعيَّن أن يكون فعلاً ، وإلاَّ في الصورتين المذكورتين فإنه يتعيَّنُ أَنْ يكونَ اسماً . واختلفوا : أيُّ التقديرين أولى فيما عدا الصورَ المستثناةَ ؟ فقوم رجَّحوا تقديرَ الاسمِ ، وقومٌ رجَّحوا تقديرَ الفعلِ ، وقد تقدَّم دليلُ الفريقين .

وقرئ شاذاً بنصب الدال من " الحمد " ، وفيه وجهان : أظهرهُما أنه منصوبٌ على المصدرية ، ثم حُذِف العاملُ ، وناب المصدرُ مَنَابَه ، كقولهم في الإِخبار : " حمداً وشكراً لا كُفْراً " ، والتقدير : أَحْمَدُ الله حَمْداً فهو مصدرٌ نابَ عن جملة خبرية . وقال الطبري : إن في ضمنه أمرَ عبادِه أن يُثْنوا به عليه ، فكأنه قال : قولوا الحمدَ لله ، وعلى هذا يجييء " قولوا إياك " فعلى هذه العبارة يكون من المصادر النائبة عن الطلب لا الخبر ، وهو محتملٌ للوجهين ، ولكنَّ كونَه خبرياً أَوْلَى من كونه طلبياً ؛ ولا يجوز إظهارُ هذا الناصبِ لِئلاّ يُجْمَع بين البدلِ والمُبْدلِ منه . والثاني : أَنه منصوبٌ على المفعول به أي اقرؤوا الحمدَ ، أو اتلوا الحمدَ ، كقولهم : " اللهم ضَبُعاً وذئْباً " ، أي اجمَعْ ضبُعاً ، والأولُ أحسن للدلالةِ اللفظيةِ .

وقراءةُ الرفع أَمْكَنُ وأَبْلَغُ من قراءة النصب ، لأنَّ الرفعَ في بابِ المصادر التي أصلُها النيابةُ عن أفعالها يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ ، ولذلك قال العلماء : إن جوابَ خليل الرحمن عليه السلام في قوله تعالى حكايةً عنه : { قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] أحسنُ مِنْ قول الملائكة " قالوا سلاماً " ، امتثالاً لقوله تعالى : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } [ النساء : 86 ] .

و " لله " على قراءة النصب يتعلَّق بمحذوفٍ لا بالمصدرِ لأنها للبيان تقديره : أَعْنِي لله ، كقولهم : سُقْياً له وَرَعْياً لك ، تقديرهُ : أعني له ولك ، ويدلُّ على أن اللام تتعلق في هذا النوع بمحذوفٍ لا بنفسِ المصدرِ أنهم لم يُعْمِلوا المصدرِ المتعدي في المجرورِ باللام فينصبوه فيقولوا : / سُقياً زيداً ولا رَعْياً عمراً ، فدلَّ على أنه ليس معمولاً للمصدرِ ، ولذلكَ غَلِظَ مَنْ جعلَ قولَه تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } [ محمد : 8 ] من باب الاشتغالِ لأنَّ " لهم " لم يتعلَّق بِتَعْساً كما مَرَّ . ويحتمل أن يقال : إنَّ اللام في " سُقياً لك " ونحوِه مقويةٌ لتعدية العاملِ لكونِه فَرْعاً فيكونُ عاملاً فيما بعدَه .

وقُرئ أيضاً بكسرِ الدال ، ووجهُه أنها حركةُ إتباعٍ لكسرةِ لامِ الجر بعدها ، وهي لغة تميم وبعض غطفان ، يُتْبِعُون الأول للثاني للتجانس ، ومنه : " اضربِ الساقَيْنُ أُمُّك هابِلُ " ، بضم نون التثنية لأجل ضمِّ الهمزة . ومثله :

وَيْلِمِّها في هواءِ الجَوِّ طالبةً *** ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبٌ

الأصل : ويلٌ لأُِمها ، فَحَذَفَ اللامَ الأولى ، واستثقل ضمَّ الهمزةِ بعد الكسرة ، فَنَقَلها إلى اللام بعد سَلْب حركتها ، وحَذَفَ الهمزةَ ، ثم أَتْبع اللامَ الميمَ ، فصار اللفظ : وَيْلِمِّها ، ومنهم مَنْ لا يُتبع ، فيقول : وَيْلُمِّها بضم اللام ، قال :

وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دمِها *** فَجْعٌ وَوَلْعٌ [ وإخلافٌ وتَبِدِيلُ ]

ويُحتمل أن تكونَ هذه القراءة من رفعٍ وأن تكونَ مِنْ نصبٍ ، لأنَّ الإِعرابَ مقدرٌ مَنَعَ من ظهورِه حركةُ الإِتباعِ .

وقُرئ أيضاً : " لُلَّهِ " بضمِّ لامِ الجرِّ ، قالوا : وهي إتباعٌ لحركة الدالِ ، وفضَّلها الزمخشري على قراءة كسر الدال معتلاً لذلك بأنَّ إتباع حركة البناء لحركة الإِعراب أحسنُ من العكس وهي لغةُ بعضِ قيس ، يُتْبعون الثاني للأول نحو : مُنْحَدُرٌ ومُقُبلِين ، بضمِّ الدالِ والقافِ لأجلِ الميم ، وعليه قُرئ : { مُرْدِفين } [ الأنفال : 9 ] بضمِّ الراءِ إتباعاً للميمِ ، فهذه أربعُ قراءاتٍ في " الحمدُ لله " وقد تقدَّم توجيهُ كلٍّ منها .

ومعنى لام الجر هنا الاستحقاقُ ، أي الحمدُ مستحقٌ لله ، ولها معانٍ أُخَرُ ، نذكرها الآن ، وهي الملك والاستحقاق [ نحو : ] المالُ لزيد ، الجُلُّ للفرس ، والتمليك نحو : وَهَبْتُ لك وشبهِه ، نحو : { جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً }

[ النحل : 72 ] ، والنسب نحو : لزيد عَمُّ " والتعليلُ نحو : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ } [ النساء : 105 ] والتبليغ نحو : قلتُ لك ، والتعجبُ في القسم خاصة ، كقوله :

للهِ يَبْقى على الأيام ذو حِيَدٍ *** بمُشْمَخِرٍّ به الظَّيَّانُ والآسُ

والتبيين نحو : قوله تعالى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، والصيرورةُ نحو قوله تعالى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، والظرفية : إمَّا بمعنى في ، كقوله تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ الأنبياء : 47 ] ، أو بمعنى عِنْد ، كقولهم : " كتبتُه لخمسٍ " أي عند خمس ، أو بمعنى بَعْدَ ، كقوله تعالى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [ الإسراء : 78 ] أي : بعد دلوكها ، والانتهاء ، كقوله تعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ } [ فاطر : 13 ] ، والاستعلاء نحو قوله تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } [ الإسراء : 109 ] أي على الأذقان ، وقد تُزاد باطِّراد في معمول الفعل مقدَّماً عليه كقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] أو كان العاملُ فَرْعاً ، نحوُ قولِه تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] وبغيرِ اطًِّراد نحو قوله :

ولمَّا أَنْ توافَقْنا قليلاً *** أنَخْنا للكلاكِل فارتَمَيْنا

وأمَّا قوله تعالى : { قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] فقيلَ : على التضمين . وقيل هي زائدة .

قوله { رَبِّ الْعَالَمِينَ } : الربُّ لغةً : السيِّدُ والمالك والثابِت والمعبود ، ومنه :

أَرَبٌّ يبول الثُّعْلُبان برأسه *** لقد هانَ مَنْ بالَتْ عليه الثعالبُ

والمُصْلِح . وزاد بعضُهم أنه بمعنى الصاحب وأنشد :

قَدْ ناله ربُّ الكلاب بكفِّه *** بيضٌ رِهافٌ ريشُهُنَّ مُقَزَّعُ

والظاهرُ أنه هنا بمعنى المالك ، فليس هو معنى زائداً ، وقيل : يكون بمعنى الخالق .

واختلف فيه : هل هو في الأصل وصفٌ أو مصدرٌ ؟ فمنهم مَنْ قال : هو وصفٌ ثم اختلف هؤلاء في وزنه ، فقيل : هو على وزن فَعَل كقولك : نَمَّ يَنُمُّ فهو نَمٌّ ، وقيل : وزنه فاعِل ، وأصله رابٌّ ، ثم حُذفت الألف لكثرةِ الاستعمال ، كقولهم : رجل بارٌّ وبَرٌّ . ولِقائلٍ أن يقول : لا نُسَلِّم أنَّ بَرَّاً مأخوذٌ من بارّ بل هما صيغتان مستقلتان فلا ينبغي أن يُدَّعى أن ربَّاً أصله رابٌّ . ومنهم من قال : هو مصدَر ربَّهُ يَرُبُّه رَبَّاً أي مَلَكَه ، قال : " لأَنْ يَرُبَّني رجلٌ من قريش أحبُّ إليَّ أن يَرُبِّني رجلٌ من هوازن " ، فهو مصدَرٌ في معنى الفاعل ، نحو : رجل عَدْلٌ وصَوم ، ولا يُطلق على غير الباري تعالى إلا بقيدِ إضافة ، نحو قوله تعالى : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } [ يوسف : 50 ] ، ويقولون : " هو ربُّ الدار وربُّ البعير " وقد قالَتْه الجاهلية للمَلِك من الناس من غير قَيْدٍ ، قال الحارث بن حلزة :

وهو الربُّ والشهيدُ على يَوْ *** مِ الحِيَارَيْنِ والبلاءُ بلاءُ

وهذا من كفرهم .

وقراءةُ الجمهور مجروراً على النعت لله أو البدل منه ، وقُرئ منصوباً ، وفيه ثلاثةُ أوجه : إمَّا [ منصوبٌ ] بما دَلَّ عليه الحمدُ ، تقديره : أَحْمَدُ ربِّ العالمين ، أو على القطعِ من التبعِيَّة أو على النداء وهذا أضعفُها ؛ لأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف . وقُرئ مرفوعاً على القَطْعِ من التبعيَّة فيكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي هو ربُّ .

وإذا قصد عُرِض ذِكْرُ القَطْعِ في التبعية فلنستطرِدْ ذكرَه لعمومِ الفائدةِ في ذلك : اعلم أن الموصوف إذا كان معلوماً بدون صفتهِ وكانَ الوصفُ مدحاً ، أو ذَمَّاً أو ترحُّماً جاز في الوصفِ [ التابع ] الإِتباعُ والقطعُ ، والقطعُّ إمَّا على النصب بإضمار فعل لائقٍ ، وإمَّا على الرفع على خبر مبتدأ محذوف ، ولا يَجُوز إظهارُ هذا الناصبِ ولا هذا المبتدأ ، نحو قَولِهم : " الحمدُ لله أهلَ الحمدِ " رُوِي بنصب " أهل " ورفعِه ، أي : أعني أهلَ أو هو أهلُ الحمد .

وإذا تكَرَّرت النعوتُ والحالةُ هذه كنتَ مخيَّراً بين ثلاثةِ أوجهٍ : إمّا إتْباعِ الجميع أو قطعِ الجميعِ أو قطعِ البعض وإتباعِ البعضِ ، إلا أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ وقَطَعْتَ البعضَ وجب أن تبدأَ بالإِتباع ، ثم تأتي بالقَطْعِ من غير عكسٍ ، نحو : مَرَرْتُ بزيد الفاضلِ الكريمُ ، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الصفة والموصوف بالجملة المقطوعة .

والعالمين : خفضٌ بالإِضافةِ ، علامةُ خفضِه الياءُ لجريانه مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ ، وهو اسمُ جمع لأن واحدَه من غير لفظِه ، ولا يجوز أن يكونَ جمعاً لعالَم ، لأنَّ الصحيحَ في " عالَم " أنه يُطلَقُ على كلِّ موجودٍ سوى الباري تعالى ، لاشتقاقِه من العَلامة بمعنى أنه دالٌّ على صانعه ، وعالَمون بصيغة الجمع لا يُطلق إلا على العقلاء دونَ غيرهم ، فاستحالَ أن يكونَ عالَمون جمع عالَم ؛ لأن الجمع لا يكون أخصَّ من المفرد ، وهذا نظيرُ ما فعله سيبويه في أنَّ " أعراباً " ليس جمعاً لِ " عَرَب " لأن عَرَباً يُطلق على البَدَويّ والقَرويّ ، وأعراباً لا يُطلق إلاَّ على البدوي دون القروي . فإنْ قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون " عالَمون " جمعاً ل " عالَم " مُراداً به العاقلُ دونَ غيره فيزولَ المحذورُ المذكورُ ؟ أُجيبَ عن هذا بأنه لو جاز ذلك لجاز أن يقال : شَيْئون جمع شَيء مراداً به العاقلُ دونَ غيره ، فدلَّ عدمُ جوازِه على عَدم ادِّعاء ذلك . وفي الجواب نظرٌ ، إذ لقائلٍ أن يقول : شَيْئون مَنَعَ مِنه مانعٌ آخرٌ وهو كونُه ليس صفةً ولا علماً ، فلا يلزم مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ " عالَمين " مراداً به العاقلُ ، ويؤيِّد هذا ما نقل الراغب عن ابن عباس أن " عالَمين " إنما جُمع هذا الجمعَ لأنَّ المرادَ به الملائِكةُ والجنُّ والإِنسُ ، وقال الراغبُ أيضاً : " إن العالَم في الأصل اسمٌ لما يُعْلَم به كالطَابَع اسمٌ لما يُطْبَعُ به ، وجُعِل بناؤه على الصيغةِ لكونِه كالآلة ، فالعالَمُ آلةٌ في الدلالة على صانعهِ " ، وقال الراغب أيضاً : " وأمَّا جَمْعُه جَمْعَ السلامةِ فلكونِ الناسِ في جملتِهم ، والإِنسانُ إذا شارك غيره في اللفظِ غَلَب حكمُه " ، وظَاهرُ هذا أن " عالَمين " يُطلَق على العُقلاءِ وغيرهم ، وهو مخالفٌ لِما تقدَّم من اختصاصِه بالعُقلاءِ ، كما زَعَم بعضُهم ، وكلامُ الراغبِ هو الأصحُّ الظاهرُ .