{ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
قولُه تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } .
الحمدُ{[153]} : الثناءُ على الجَمِيل سواءٌ كانت نِعْمةً مْبْتدأة إلَى أَحَدٍ أَمْ لاَ .
يُقال : حَمَدْتُ الرجلَ على ما أَنْعَمَ به ، وحمدتُه على شَجَاعته ، ويكون باللسانِ وَحْدَهُ ، دون عمل الجَوَارِح ، إذْ لا يُقالُ : حمدت زيداً أيْ : عملت له بيدي عملاً حسناً ، بخلاف الشكر ؛ فإنه لا يكونُ إلاّ على نعمةٍ مُبْتَدأةٍ إلى الغير .
يُقال : شَكَرْتُه على ما أعطاني ، ولا يُقالُ : شكرتُه على شَجَاعَتِه ، ويكون بالقلبِ ، واللِّسَانِ ، والجَوَارح ؛ قال الله تعالى :
{ اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً }
[ سبأ : 13 ] وقال الشاعرُ : [ الطويل ] .
37- أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً- *** -يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحجَّبَا{[154]}
فيكونُ بين الحَمْدِ والشُّكْرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجه .
وقيل : الحمدُ هو الشكر ؛ بدليلِ قولِهم : " الحمدُ لِلَّهِ شُكْراً " .
وقيل : بينهما عُمومٌ وخصوص مُطْلق .
والحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ .
وقيلَ : الحمدُ : الثناءُ عليه تعالى [ بأوصافِه ، والشكرُ : الثناءُ عليهِ بِأَفْعَاله ]{[155]} فالحامِدُ قِسْمَانِ : شاكِرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجَمِيلة .
وقيل : الحمدُ مَقْلُوبٌ من المَدْحِ ، وليس بِسَدِيدٍ - وإِنْ كان منقولاً عن ثَعْلَب ؛ لأنَّ المقلوبَ{[156]} أقلُّ اسْتِعْمالاً من المقلوب منه ، وهذان مُسْتَوِيَان في الاستعمالِ ، فليس ادعاءُ قلبِ أَحَدِهَما مِنَ الآخر أَوْلَى من العَكْس ، فكانا مادّتين مُسْتَقِلَّتَيْن .
وأيضاَ فإنه يمتنعُ إطلاقُ المدْحِ حيثُ يَجُوزُ إطلاقُ الحَمْد ، فإنه يُقالُ : حمدتُ الله - تعالى - ولا يقال : مَدَحْتُه ، ولو كان مَقْلُوباً لما امتنع ذلك .
ولقائلٍ : أَنْ يَقُولَ : منع من ذلك مانِعٌ ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك .
وقال الرَّاغِبُ{[157]} : " الحَمْدُ لله " : الثناءُ بالفَضِيلَةِ ، وهو أخصُّ من المدحِ ، وأَعَمُّ من الشُّكْرِ ، فإنَّ المدْحَ يقال فيما يكونُ من الإنسانِ باختيارِه ، وما يكونُ منه بغَيْرِ اختيار ، فقد يُمْدَح الإنسان بطول قَامَتِهِ ، وصَبَاحة وجهه ، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه ، والحمدُ يكونُ في الثَّاني دُونَ الأوّلِ .
قال ابنُ الخَطِيبِ - رحمه الله تعالى - : الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمَدْحِ من وجوه :
أحدها : أن المَدْحَ قد يحصلُ لِلْحَيِّ ، ولغيرِ الحَيِّ? أَلاَ تَرَى أَنَّ من رَأَى لُؤْلُؤَةً في غايةِ الحُسْنِ ، فإنه يَمْدَحُها ؟ فثبت أَنَّ المدحَ أَعمُّ من الحمدِ .
الثَّاني : أن المدحَ قد يكونُ قَبْلَ الإِحْسَانِ ، وقد يكونُ بعدَه ، أما الحمدُ فإنه لا يكونُ إلاَّ بعد الإحسان .
الثالث : أنَّا المدحَ قَدْ يكونُ مَنْهِياً عنه ؛ قال عليه الصلاةُ والسلامُ : " احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهِ المَدَّاحِينَ{[158]} " أما الحمدُ فإنه مأمورٌ به مُطْلَقاً ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ " {[159]} .
الرابعُ : أنَّ المدحَ عبارةٌ عنِ القولِ الدَّالُّ على كونه مُخْتَصاً بنوع من أنواع الفَضَائل .
وأمّا الحمدُ فهو القولُ الدّالُّ على كونه مُخْتَصًّا بِفَضِيلة مُعَيَّنَةٍ ، وهي فضيلةُ الإنعامِ والإحسان ، فثبت أنَّ المدحَ أعمُّ من الحمدِ .
وأَمَّا الفرقُ بين الحمدِ والشُّكْرِ ، فهو أَنَّ الحمدَ يَعُمُّ إذا وَصَلَ ذلك الإنْعَامُ إليك أَوْ إلَى غَيْرِك ، وأما الشُّكْرُ ، فهو مُخْتَصٌّ بالإنعامِ الواصلِ إليك .
وقال الرَّاغِبُ - رحمه الله - : والشكرُ لا يُقالُ إلاَّ في مُقَابلة نعمة ، فكلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ ، وليس كُلُّ حمدٍ شُكْراً ، وكل حمد مَدْحٌ ، وليس كُلُّ مَدْحٍ حَمداً .
ويقال : فُلانٌ مَحْمُودٌ إذَا حُمِد ، ومُحَمَّدٌ وُجِدَ مَحْمُوداً ، ومحمد كثرت خصالُه المحمودَةُ .
واحمدُ أَيْ : أَنَّه يَفُوقُ غَيْرَه في الحَمْدِ .
والألفُ : واللام في " الحَمْد " قِيل : للاستغراقِ .
وقيل : لتعريفِ الجِنْس ، واختاره الزَّمَخْشَرِيُّ ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
38- . . . . . . . . . . . . . . . . . . - *** -إلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ{[160]}
وقيل : للعَهْدِ ، ومنع الزمخشريُّ كونَها للاستغراقِ ، ولم يُبَيّنْ وجهةَ ذلك ، ويشبه أن يُقالَ : إنَّ المطلوبَ من العبدِ إنشاء الحَمْدِ ، لا الإخبار به ، وحينئذٍ يَسْتَحيلُ كونها للاستغراقِ ، إذْ لا يمكنُ العَبْد أن ينشىءَ جميعَ المَحَامِدِ منه ومن غيرِه ، بخلاف كونها للجِنْسِ .
والأصلُ في " الحَمْدِ " المصدريةُّ ؛ فلذلك لا يُثَنَّى ، ولا يُجْمَعُ .
وحكى ابنُ الأَعْرَابِيِّ{[161]} جَمْعَهُ على " أَفْعُل " ؛ وأنشد : [ الطويل ]
39- وَأَبْيَضَ مَحْمُودِ الثَّنَاءِ خَصَصْتُهُ- *** -بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي{[162]}
وقرأ الجُمْهُورُ{[163]} : " الحَمْدُ لِلَّه " برفْعِ الدّال وكسرِ لاَمِ الجَرِّ ، ورفعُهُ على الابتداءِ ، والخبرُ الجارُّ والمجرورُ بعده يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ وهو الخَبَرُ في الحقيقة .
ثم ذلك المحذوفُ إنْ شئتَ قَدَّرْتَهُ [ اسْماً ، وهو المُخْتارُ ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتَهُ ]{[164]} فِعْلاً أَي : الحمدُ مُسْتَقِرٌّ لله ، واسْتَقَرَّ لِلَّه .
والدليلُ على اختيارِ القَوْلِ الأَوَّلِ : أَنَّ ذَلك يَتَعَيّنُ في بَعْضِ الصورِ ، فلا أَقَلَّ مِنْ ترجيحِه في غَيْرِها ، وذلك أنّك إذا قُلْتَ : " خرجتُ فإِذَا في الدَّار زَيْدٌ " و " أمَّا في الدارِ فَزَيْدٌ " يتعيّنُ في هاتَيْن الصُّورَتَيْنِ [ أن يقدر بالاسم ]{[165]} ؛ لأَنَّ " إذا " الفُجائية وأَمَّا التَّفصِيلِيَّةُ لا يَلِيهِمَا إلاَّ المبتدأُ . وقد عُورِضَ هذا اللَّفظُ بأنه يَتَعيَّنُ تقدير الفِعْلِ في بعض الصُّورِ ، وهو ما إِذا وَقَعَ الجَارُّ والمجرورُ صِلَةً لموصولٍ ، نحو : الَّذِي في الدارِ فليكن رَاجِحاً في غيره ؟
والجوابُ : أَنَّ ما رجحنا به من باب المبتدإِ ، أَو الخبر ، وليس أَجْنَبِيًّا ، فكان اعتباره أَوْلَى ، بخلاف وقوعه صِلةً ، [ والأول غيرُ أَجْنَبِيٍّ ]{[166]} .
ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قاعدةٍ -ها هنا- لعُمُومِ فائدتها ، وهي أَنَّ الجار والمجرور والظرف إذا وَقَعا صلةً أو صِفَةً ، أو حالاً ، أو خبراً تعلقا بمحذوفٍ ، وذلك المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كَوْناً مُطلقاً : فأمّا قول الشاعر : [ الطويل ]
40 - لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاَكَ عَزَّ ، وَإِنْ يَهُنْ- *** -فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كَائِنُ{[167]}
وأما قولُه تبارك وتَعَالى : { فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [ النمل : 40 ] فلم يقصدْ جعل الظَّرفِ كائناً فلذلك ذكر المتعلّقَ به ، ثم ذلك المحذوفُ يجوزُ تقديرُه باسمٍ أَوْ فعلٍ إلاّ في الصلَةِ ، فإنه يتعيّنُ أن يكونَ فِعْلاً{[168]} . واختلفُوا : أَيُّ التقديرَيْنِ أَوْلَى فيما عدا الصور المستثناة ؟
فقومٌ رجّحُوا تقديرَ الفِعْلِ ، [ وقومٌ رجَّحُوا تقدير الاسمِ ]{[169]} ، وقد تقدمَ دليلُ الفريقين .
وقُرِئَ{[170]} شَاذًّا بنصب الدالِ من " الحَمْد " ، وفيه وجهان :
أظهرُهُما : أنه منصوبٌ على المصدريَّةِ ، ثم حُذِف العاملُ ، ونابَ المصدرُ مَنَابه ؛ كقولِهِم في الأخبار : " حمداً ، وشكراً لا كُفْراً " والتقدير : " أَحمد الله حمداً " ، فهو مصدرٌ نَابَ عن جملةٍ خبريَّةٍ .
وقال الطَّبَرِيُّ{[171]} - رحمه الله تعالى - : " إنَّ في ضمنِهِ أَمْرَ عبادِه أَنْ يُثْنُوا به عليه ، فكأَنَّه قال : " قولوا : الحَمْد للهِ " وعلى هذا يَجِيءُ قُولُوا : إِيَّاكَ " .
فعلى هذه العبارة يكونُ من المصادِر النائبَةِ عن الطَّلبِ لا الخبرِ ، وهو محتملٌ للوجْهَيْنِ ، ولكنْ كونُهُ خَبَرِيًّا أَوْلَى من كونه طَلَبياً ، ولا يجوزُ إظهار الناصب ، لئلاَّ يجمعَ بين البدلِ والمُبْدَلِ مِنْه .
والثاني : أنه منصوبٌ على المَفْعُولِ بهِ ، أَي : اقْرَءُوا الحَمْدَ ، أَو اتْلُوا الحَمْدَ ؛ كقولهم : " اللَّهُمَّ ضَبُعاً وَذِئْباً " ، أَي : اجْمَعْ ضَبُعاً ، والأوّلُ أَحْسَنُ ؛ للدَّلالَةِ اللفظيةِ .
وقراءَةُ الرفْعِ أمكنُ ، وأَبْلَغُ مِنْ قراءَةِ النَّصب ، لأنَّ الرفعَ في باب المَصَادِر التي أَصْلُها النِّيَابَةُ عَنْ أَفْعَالِها يدل على الثُّبُوتِ والاستقرَارِ ، بخلافِ النَّصْبِ ، فإنه يدلُّ على التجددِ والحُدوثِ ، ولذلك قال العلماء - رحمهم الله - : إن جوابَ إِبْرَاهِيمَ - عليه الصلاة والسّلام - في قوله تَعَالَى حكايةً عنه :
{ قَالَ سَلاَمٌ }[ هود : 69 ] أَحْسَنُ من قولِ الملائكة :
{ قَالُواْ سَلاَماً }[ هود : 69 ] امتثالاً لقولِه تعالى :
{ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ }[ لنساء : 86 ] .
و " لله " على قراءةِ النصبِ{[172]} يتعلّقُ بمحذوفٍ لا بالمصدرِ ، لأنَّها للبيانِ ، تقديرهُ : أَعْنِي لله ، كقولِهم : " سُقْياً له ورَعياً لك " تقديرُه : " أَعْنِي له ولك " ، ويدلُّ على أنَّ اللام تتعلّقُ في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر ، أنَّهم لم يُعْمِلُوا المصدر المتعدِّي في المجرور باللام ، فينصبوه به فيقُولُوا : سُقْياً زيداً ، ولا رَعْياً عمراً ، فدلَّ على أنه ليس مَعْمولاً للمصدرِ ، ولذلك غَلِطَ من جعل قولَه تَعَالَى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ }[ محمد : 8 ] ، مِنْ بَابِ الاشْتِغَالِ ؛ لأنَّ " لَهُمْ " لا يتعلّقُ ب " تَعْساً " كما مَرَّ .
ويحتملُ أَنْ يُقالُ : إن اللام في " سُقياً لك " ونحوِهِ مقويةٌ لتعدِيَةِ العامل ؛ لكونِهِ فَرْعاً فيكون عاملاً فيما بعده .
وقُرِئَ{[173]} : - أَيْضاً - بِكَسْرِ الدَّال ، ووجهُهُ : أَنَّها حركةُ إِتباعٍ لكسرَةِ لاَمِ الجَرِّ بعده ، وهي لُغَةُ " تَمِيم " ، وبَعْضِ " غَطَفَان " ، يُتْبِعُونَ الأوّل للثَّاني ؛ للتَّجَانُسِ . ومنه : [ الطويل ]
41- . . . . . . . . . . . . . . . - *** -اضْرِبِ السَّاقَيْنُ أُمُّكَ هَابِلُ{[174]}
بضمِ نُونِ التّثنِيَةِ لأجل ضمّةِ الهَمْزَةِ ، ومثلُه : [ البسيط ]
42- وَيْلِمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً- *** -وَلاَ كَهَذَا الَّذِي في الأَرْضِ مَطْلُوبُ{[175]}
الأصل : وَيْلٌ لأُمِّهَا ، فحذفَ اللاَّمَ الأُولَى ، واستثقَلَ ضَمَّةَ الهمزةِ بعد الكَسْرَةِ ، فنقلَها إلى اللام بعد سَلْبِ حَرَكَتِها ، وحذَفَ الهَمْزَةَ ، ثم أَتْبَعَ اللاَّمَ المِيمَ ، فصار اللفظ : " وَيْلِمِّهَا " .
ومِنْهم مَنْ لا يُتْبِعُ ، فيقول : " وَيْلُمِّهَا " بِضَمِّ اللاَّمِ ، قال : [ البسيط ]
43 - وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيْطَ مِنْ دَمِهَا- *** -فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلافٌ وتَبْديلُ{[176]}
ويحتملُ أَنْ تَكُونَ هذه القراءةُ مِنْ رَفْعٍ ، وأَنْ تَكُونَ مِنْ نَصْبٍ ، لأنَّ الإعرابَ مُقَدَّرٌ مَنَعَ من ظُهُورِهِ حَرَكَةُ الإتباعِ .
وقرئ أيضاً{[177]} : " لُلَّهِ " بضم لاَمِ الجَرِّ ، قَالُو : وهي إتباعٌ لحركةِ الدَّالِ وفضّلها الزمخشريُّ على قراءة كَسْرِ الدَّالِ ، مُعَلِّلاً لذلك بِأَنَّ إتباعَ حركَةِ الإعرابِ أَحْسَنُ مِنَ العَكْسِ ، وهي لغةُ بَعْضِ " قَيْس " ، يُتْبِعُون الثانِي نحو : " مُنْحَدُر ومُقُبِلِينَ " بضم الدَّال والقاف لأجل الميم ، وعليه قرئ{[178]} :{ مُرُدفين } [ الأنفال : 9 ] بِضَمِّ الراءِ ، إِتْباعاً لِلْمِيمِ .
فهذه أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ في " الحَمْدُ لِلَّهِ " .
ومعنى لام الجَرِّ - هنا - الاستحقاقُ أَيْ : الحمدُ مستحقٌّ لله - تعالى - ولها معانٍ أخر نَذْكُرُها وهي :
المُلْكُ : المالُ لِزَيْدٍ . والاستحقاقُ : الجُل لِلْفَرَسِ . والتَّمْلِيكُ : نحو : وهبتُ لَكَ وَشِبْهُهُ نحو :{ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً }[ الشورى : 11 ] لتسكنوا إليها .
والنسب : نحو : لِزَيْدٍ عَمٌّ .
والتعليلُ : نحو :{ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ }[ النساء : 105 ] ،
وللتعجُّبِ في القَسَمِ خاصَّةً ؛ كقوله : [ البسيط ]
44- لِلَّهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ- *** -بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ وَالآسُ{[179]}
والتَّبْيِينُ نحو قولِه تَعَالَى :{ هَيْتَ لَكَ }[ يوسف : 23 ] .
والصيرورةُ : نحو قولِهِ تَعَالَى :{ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً }[ القصص : 8 ] .
والظرفية إِمَّا بِمَعْنَى " فِي " : كقوله تعالى :{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ }[ الأنبياء : 47 ] ، أَوْ بِمَعْنَى " عِنْدَ " : كقولِهم : " كَتَبْتُهُ لِخَمْسٍ " ، أيْ : عِنْدَ خَمْسٍ ، أَوْ بِمَعْنَى " بَعْدَ " : كقوله تعالى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [ الإسراء : 78 ] أيْ : بَعْدَ دُلُوكها .
والانتهاءُ : كقوله تعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَِجَلٍ مُّسَمًّى } [ الرعد : 2 ] .
والاستعلاءُ : نحو قوله تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ }[ الإسراء : 109 ] .
وقد تُزَادُ باطّرادِ في معمول الفعلِ مُقدَّماً عليه ؛ كقولِه تَعَالى :{ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] ، [ وإذا ] كان العامِلُ فرعاً ، نحو قوله تعالى :{ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } هود : 107 ] .
وَبِغَيْرِ اطرادٍ ؛ نحو قوله في ذلك البيت : [ الوافر ]
45- فَلَمَّا أَنْ تَوَاقَفْنَا قَلِيلاً- *** -أَنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَمَيْنَا{[180]}
وأما قولُه تَعَالَى :{ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم }[ النمل : 72 ] ، فقِيل : على التَّضْمِينِ ، وقِيلَ : هي زَائِدَةٌ .
ومن الناسِ مَنْ قال : تقديرُ الكَلام : قُولُوا : الحمد لله .
قال ابنُ الخَطِيب : - رحمه الله تعالى - : وهذا عندي ضعيفٌ ؛ لأنْ الإضمارَ إنما يُصَار إليه ليصحّ الكلامُ ، وهذا الإضمار يُوجِبُ فسادَ الكَلام ، والدليل عليه : أن قوله - تعالى - " الحَمْدُ لِلَّهِ " إخبارٌ عن كونِ الحَمْدِ حقًّا [ لله تعالى ] وملَكاً له ، وهذا كَلاَمٌ تام في نفسه ، فلا حاجةَ إلى الإضمار .
وأيضاً فإن قولَه : " الحمد لله " يدلُّ على كونِهِ مُسْتَحقاً للحمدِ بحسب ذاته ، وبحسبِ أَفْعالِه ، سواءٌ حَمَدُوه أَوْ لَمْ يَحْمِدُوه .
قال ابنُ الخَطِيب{[181]} : - رحمه الله تعالى - : " الحَمْدُ لِلَّه ثمانيةُ أَحْرُفٍ ، وأبوابُ الجَنَّةِ ثمانية [ أبواب ]{[182]} ، فمن قال : " الحمد لله " بصفاءِ قَلْبِهِ استحقَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ الثمانية " والله أعلم .
تمسّكَ الجَبْرِيَّةُ والقدريَّةُ بقوله تعالى : " الحمدُ لِلَّهِ " أما الجبريةُ فقد تمسَّكوا به من وجوه :
الأولُ : أَنَّ كُلَّ مَنْ كَان فِعْلهُ أشْرَفَ وأَكْمَل ، وكانت النعمةُ الصادِرَةُ عنه أَعْلَى وأفضل ، كان استحقاقُه للحمدِ أكثرَ ، ولا شك أنَّ أَشْرَفَ{[183]} المخلُوقَاتِ هو الإيمانُ ، فلو كان الإيمانُ فِعْلاً للعبد ، لكان استحقاقُ العبدِ للحمدِ أَوْلَى وأجلَّ مِنِ اسْتِحْقاقِ الله له ، ولما لم يكنْ كذلك ، علمنا أنَّ الإيمانَ حَصَلَ بخلقِ الله - تعالى - لا بِخَلْقِ العَبْدِ .
الثاني : أجمعتِ الأمّةُ على قولِهم : " الحمدُ لِلَّهِ على نعمةِ الإيمانِ " ، فلو كان العَبْدُ فاعلاً للإيمانِ لَكَان قولُهم : " الحمد للَّه على نعمة الإيمان " ؛ باطلاً ، فإنَّ حمد الفاعِل على ما لا يَكُون فِعْلاً له باطلٌ قَبِيحٌ ؛ لقوله تعالى :{ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ }
الثالثُ : أَن قوله تعالى : " الحمدُ للهِ " يدلُّ ظاهِرُهُ على أنَّ كُلَّ الحمدِ لله ، وانه لَيْسَ لِغَيْر الله - تعالى - حَمْدٌ أَصْلاً ، وإنما يكونُ كلُّ الحمدِ لله تعالى إذا كان كُلُّ النِّعمِ من اللهِ تعالى ، والإيمانُ أَفْضَلُ النعم ، فوجب أَنْ يكونَ الإيمانُ من الله تعالى .
الرابعُ : أَن قولَهُ{[184]} : " الحَمد لله " مَدْحٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ{[185]} ، ومدحُ النَّفْسِ قَبيحٌ فيما بين الخَلْقِ ، فلما بدأ كتابَهُ بمدحِ النفْسِ ، دَلَّ ذلك على أَنَّ حالَهُ بخلافِ حَالِ الخلقِ ، وأَنَّه يَحْسُن منه ما يقبحُ من الخَلْقِ ، وذلك يدلُّ على أنه - تبارك وتعالى - مقدَّسٌ عن أن تُقَاس أفعالُه على أَفعالِ العِبَادِ .
الخامسُ : عند المعتزلةِ أفعالُه - تعالى - يجبُ أَنْ تكونَ حَسَنةً ، ويجبُ أَنْ تكونَ لها صفةٌ زائِدَةٌ على الحُسْنِ ، وإلا كان عبثاً ، وذلك في حقه تعالى محالٌ ، والزائدةُ على الحُسْنِ إمَّا [ أن تَكُونَ ]{[186]} واجِبةً ، وإما أن تكونَ من باب التَّفَضُّلِ .
أما الواجبُ فهو مثلُ إِيصالِ الثواب ، والعوض إلى المُكَلَّفِين .
وأما الذي يكونُ من باب التفضل ، فهو مثلُ أنَّه يزيد على قَدْرِ الواجِبِ على سبيلِ الإحْسَانِ .
فنقولُ : هذا يَقْدّحُ في كونه - تعالى - مستحقاً للحمد ، ويُبْطِلُ صحَّةَ قولنا : الحمدُ لله .
وتقريرهُ أن نقولَ : أما أداةُ الواجِباتِ ، فإنه لا يفيد استحقاقَ الحَمْدِ ، ألا ترى أنَّ مَنْ كان له على غيره دَيْنُ دِينارٍ ، فأدّاه ، فإنه لا يَسْتَحِقُّ الحمدَ ، فلو أوجبنا على الله تعالى فعلاً ، لكان ذلك الفعلُ مخلصاً [ له ]{[187]} عن الذَّمِّ ، ولا يُوجِبُ استحقاقه للحمد .
وأما فِعْلُ التفضُّلِ فعند الخصم أنه يستفيد بذلكَ مزِيدَ حَمْدٍ ولو لم يصدرْ عنه ذلك الفعلُ ، لما حَصَل له الحمدُ ، فإذا كان كذلك كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره ، وذلك يمنع مِنْ كونه - تعالى - مُسْتحقاً للحمدِ والمدح .
السَّادسُ : قولُه : الحمدُ لله يدلُّ على أنه - تعالى - محمودٌ ، فنقولُ : استحقاقُه للحمد والمدحِ إما أن يكونَ أَمْراً ثابتاً لذاته ، أو ليس تابثا لذاته ، فإنْ كان الأوّل ، امتنَع ثُبوتُه لغيره ، فامتنع - أيضاً - أنْ يكون شَيْءٌ من الأفعالِ موجباً له استحقاق الذم ؛ لأن ما ثبت لِذَاتِهِ امتنع ارتفاعه ، فوجب أَلاَّ يجبَ للعباد عليه شيءٌ مِنَ الأعْواضِ والثَّوَابِ ، وذلك يَهْدِمُ أصولَ المعتزلة .
وأمّا القسم الثَّاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً لذاتِهِ - فنقول : فيلزم منه أن يكونَ ناقِصاً لذاته مُسْتكملاً بغيره ، وذلك على الله - تعالى - محالٌ .
أما قول المعتزلة : إنَّ قَوْلَهُ : " الحَمْدُ لِلَّهِ " لا يتم إلاَّ على قولِنَا ؛ لأن المستحقَّ للحمدِ على الإطْلاقِ هو الذي لا قَبِيحَ في فِعْلِهِ ، ولا جَوْرَ في قَضِيَّتِهِ ، ولا ظُلمَ في أحكامِهِ ، وعندنا أنَّ الله - تعالى - كذلك ؛ فكان مُسْتَحِقًّا لأعظمِ المَحَامِدِ والمدائح .
أمّا على مذهب الجَبْرِ لا قَبِيحَ إلا وهو فِعْلُه ، ولا جَوْرَ إلا وهو حُكْمُه ، ولاَ عَبَثَ إلا وهو صُنْعُه ؛ لأنه يخلقُ الكُفْرَ في الكافر ، ثم يعذبُه عليه ، ويؤلم الحيواناتِ مِنْ غَيْرِ أن يُعَوِّضَهَا ، فكيف يُعْقلُ على هذا التقدِيرِ كونُه مُسْتحقاً للحمد ؟
وأيضاً ذلك الحمد الذي يستحقه الله - تعالى - بسبب الإلهيَّة ؛ إِمَّا أن يستحِقَّهُ على العبدِ ، أَوْ عَلَى نفسه ، فإن كان الأول وجب كونُ العبدِ قادراً على الفِعْلِ ؛ وذلك يُبْطِلُ القول بالجَبْرِ .
وإنْ كان الثاني كان معناه أن الله تعالى يجب عليه أن يحمد نَفْسَهُ ؛ وذلكَ بَاطِلٌ ، قالوا : فثبت أَنَّ القولَ بالحَمْدِ لا يصحُّ إلا على قولنا .
فَصْل هل وجوب الشكر يثبت بالعقل أو الشرع ؟
اختلفوا في أَنَّ وُجُوبَ الشُّكْرِ ثابِتٌ بالعَقْلِ أَوْ بالسَّمْعِ .
مِنَ الناس مَنْ قال : إنه ثابِتٌ بالسَّمْعِ ، لقوله تبارك وتعالى :{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }[ الإسراء : 15 ] ، ولقوله تبارك وتعالى :{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }[ النساء : 165 ] .
ومِنْهم مَنْ قال : إنه ثَابِتٌ{[188]} قبلَ مَجيء الشرع ، وبعد مجيئه على الإطلاقِ ؛ والدليلُ عليه قولُه تبارك وتعالى : " الحَمدُ لِلَّهِ " وبيانه من وجوه :
الأولُ : أَن قولَه تعالى : " الحمدُ لله " يدلُّ على أن هذا الحمدَ حَقُّهُ ، وملكُه على الإطْلاَقِ ، وذلك يدل على أنّ ثبوت هذا الاستحقاقِ كان قبل مَجِيء الشرْع .
الثاني : أنه تعالى قال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ؛ وقد ثَبَتَ في [ أصُول ]{[189]} الفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ على الوَصْفِ المناسِبِ ، يَدُلُّ على كونِ الحُكْمِ مُعَلَّلاً بذلك الوصف ، فها هنا أثبتَ الحَمْدَ لنفسه ، ووصف نَفْسَهُ بكونِه رَبَّ العالَمِينَ رَحْماناً رَحِيماً بِهِم ، مالكاً لعاقبةِ أمْرِهم في القيامَةِ ، فهذا يدلُّ على أن استحقاقَ الحمدِ ثابتٌ - لله تعالى - في كل الأوقات ، سواءٌ كان قَبْلَ مَجِيء النَّبي ، أو بعده .
قال ابنُ الخَطيب - رحمه الله تعالى - : تَحميدُ اللهِ - تعالى - ليس عبارةً عن قَوْلِنا : الحمدُ لِلَّهِ ؛ لأن قوْلنا : " الحمد للَّه " إخبارٌ عن حُصُولِ الحَمْد ، والإخبارُ عَن الشيءِ مغايرٌ للخَبَرِ عنه ، فنقولُ : حَمْدُ المنعم عبارةٌ عن كُلِّ فِعْلٍ يُشْعِرُ بتعظيم المنعم بسبب كَوْنِهِ مُنْعماً ، وذلك الفعل : إما أن يكونَ فِعْلَ القلبِ ، أو فعل اللّسَانِ ، أوْ فِعل الجوارح .
أمَّا فعلُ القلبِ : فهو أنْ يَعْتَقِدَ فيه كونَهُ مَوْصُوفاً بصفات الكمال والإجْلاَل .
وأما فعل اللِّسان فهو أنْ يذكر ألفاظاً دالَّةً على كونه مَوْصُوفاً بصفات الكمال [ والإجلال ]{[190]} .
[ وأما فعل الجوارح ؛ فهو أنْ يأتي بأفعالٍ دالّةٍ على كَوْنِ المنعمِ مَوصُوفاً بصفات الكمال والإجلال ]{[191]} .
واعلم أن أهل العلم - رحمهم الله - افترقوا في هذا المقام فِرقاً كثيرةً :
فمنهم مَنْ قال : إنه لا يجوزُ عقلاً أنُ يأمرَ الله عَبِيدَه بأن يَحْمَدُوه ، واحتجوا عليه بوجوه :
الأولُ : أن ذلك التحميدَ ، إما أن يكونَ بناءً على إنْعَام وَصَل إليهم ، أَوْ لا بِنَاءَ عليه ، فالأول باطِلٌ ؛ لأن هذا يقتضي أنه - تعالى - طلبَ منهم على إنعامِهِ جَزَاء ومُكافَأةً ، وذلك يقدحُ في كَمَال الكرم ، فإنّ الكريم إذا أنعم لم يُطالِبْ بالمُكَافأة .
وأما الثاني : فهو إِتْعَابٌ لِلْغَيْرِ ابتِداءً ، وذلك يُوجِبُ الظُّلْمَ .
الثاني : قالُوا : إِنَّ الاشتغالَ بهذا الحمدِ مُتْعِبٌ للحامدِ ، وغيرُ نَافِعٍ للمحمُودِ ، لأنه كامِلٌ لذاتِهِ ، والكامل [ لذاته ] يستحيل أن يستكملَ بِغَيْره ، فثبت أنَّ الاشتغال بهذا التحميدِ عَبَثٌ وضَرَرٌ ، فوجب ألا يكونَ مَشروعاً .
الثالثُ : أنَّ مَعْنَى الإِيجَابِ : أنه لَوْ لم يفعلْ لاسْتَحَقَّ العذابَ ، فإيجابُ حَمْدِ الله تعالى معناه : أنه لو لم تشتغلْ بهذا الحمدِ ، لَعَاقَبْتُكَ ، وهذا الحمدُ لا نفعَ لَهُ في حَقِّ اللهِ تبارك وتعالى ، فكان معناه أن هذا الفعلَ لا فَائِدَة فِيه لأحدٍ ، ولو تركته [ لعاقبتك ]{[192]} أَبَدَ الآبادِ ، وهذا لا يَلِيقُ بالحَلِيم الكريم .
والفريقُ الثاني : قَالُوا : الاشتغالُ بِحَمْدِ الله - تعالى - سُوءُ أَدَبٍ من وجوه :
الأولُ : أنه يَجْرِي مَجْرَى مقابلَةِ إحْسَانِ اللهِ بذلك الشُّكر القَلِيلِ .
والثاني : أنَّ الاشتغالَ بالشُّكْرِ لا يتأتى إلاَّ مع استحضارِ تلك النِّعَمِ في القلْبِ ، واشتغالُ القلبِ بالنعم يمنعه من الاسْتِغْرَاق في مَعْرِفَة المُنْعِمِ .
والثالثُ : أنَّ الثناءَ على الله - تعالى - عند وُجْدَانِ النِّعمةِ يدلُّ على أنه إنَّما أَثْنَى عليه ؛ لأجْلِ الفوز بتلك النعم ، وهذا الرَّجُلُ في الحَقِيقَةِ مَعْبُوده ، ومَطْلُوبُه إنما هو تلك النِّعَمِ ، وحظُّ النَّفسِ ، وذلك مقامٌ نَازِلٌ .
وهذانِ مَرْدُودانِ بما تَقَدَّم وبأنَّ أفعالَهُ وأقوالَه وأسماءَهُ لا مدخل للعَقْلِ فيها ، فقد سَمَّى رُوحَه مَاكِراً بقوله تعالى :{ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[ آل عمران : 54 ] ، ومتكبراً وغيرَ ذلك ممَّا تقدّم في أسمائه من قوله تعالى :{ اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }[ البقرة : 15 ] وغَيْرِه .
فإن قِيل : إنما ورد ذلك مِنْ حيثُ المُقَابلة ، قُلْنَا : نُسلِّمُ ، ولكنه قد سمى نفسه به ، ونحن لا يجوزُ لنا تسميتُهُ به .
وأما مِنْ حَيْثُ ورودُه في الشرع ، فقال اللهُ تعالى :{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }[ البقرة : 152 ] .
قولُه تَعَالَى : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
الرَّبُّ : لُغَةً : السيدُ ، والمَالِكُ ، والثَّابِتُ والمَعْبُودُ ؛ ومنه قولُه : [ الطويل ]
46- أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ- *** -لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ{[193]}
والمُصْلِحُ ، وزاد بعضُهم أنه بمعنى : الصّاحبِ ؛ وأنشد القائل : [ الكامل ]
47- قَدْ نَالَهُ رَبُّ الكِلاَبِ بِكَفِّهِ- *** -بِيضٌ رِهَابٌ ريشُهُنَّ مُقزَّعُ{[194]}
والظاهِرُ أَنَّهُ - هنا - بمعنى المَالِك ، فليس هو معنى زائداً .
واختُلِفَ فيه : هل هو في الأصلِ وَصْفٌ أو مصدر ؟
فمنهم من قال : [ هو وَصْفٌ أي صِفَة مشبهة بمعنى " مُرَبٍّ " ]{[195]} ، ثم اختلف هَؤلاءِ في وزنه .
[ فمنهم من قال ]{[196]} : هو على " فَعِل " كقولك : " نَمَّ - يَنُمَّ - فهو نَمٌّ " من النّمام ، بمعنى غَمّاز .
وقيل : وزنه " فَاعِل " ، وأصلُه : " رَابٌّ " ، ثم حُذِفت الألفُ ؛ لكثرةِ الاستعمالِ ؛ لقولِهم : رَجَلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ .
ولقائلٍ أنْ يقولَ : لا نسلم أن " بَرّ " مأخوذ من " بَارّ " بل هما صِفتان مُسْتقلتَانِ ، فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يُدّعَى أنّ " ربًّا " أصله " رابٌّ " .
ومنهم مَنْ : قال إنه مَصْدرٌ " رَبَّهُ - يَرُبُّهُ - رَبًّا " أي : مَلَكَهُ .
قال : " لأنْ يَرُبَّنِي رَجَلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رَجَلٌ من هَوَازِنَ " .
فهو مصدر في معنى الفاعل نحو : " رجل عَدْل وصَوْم " .
ولا يُطْلقُ على غَيْر الباري - تعالى- إلاّ بقيد إضافةٍ ، نحو قوله تعالى : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ }[ يوسف : 50 ] ، ويقولون : " هو رَبُّ الدَّارِ ، ورَبُّ البَعِير " ، وقد قالته الجاهليةُ لِلْمَلِكِ من الناس مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ ؛ قال الحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ{[197]} : [ الخفيف ]
48- وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ- *** -مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاءُ بَلاَءُ{[198]}
وقرأ الجمهورُ : " رَبِّ " مجروراً على النعتِ " لله " ، أو البَدَلِ منه .
وقرِئ مَنْصُوباً{[199]} ، وفيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ :
إِمَّا بِمَا دَلَّ عليه الحمدُ ، تقدِيرُه : " أحمد{[200]} ربَّ العالمين " .
أو على القطع من التبعية ، أو على النِّدَاءِ وهذا أضعفُهَا ، لأنه يُؤَدِّي إلى الفَصْلِ بين الصفة والموصوف .
وقُرِئَ{[201]} مَرْفُوعاً على القَطْعِ من التبعية ، فيكونُ خبراً لمبتدإٍ مَحْذُوفٍ ، أيْ : " هُوَ رَبُّ " وإذْ قد عرض ذِكْرُ القَطْعِ في التَبعيَّةِ ، فلنستطردْ ذِكْرَهُ ، لِعُمومِ فَائِدَتِه فنقول :
اعلمْ أنَّ الموصوفَ إذا كان معلوماً بدون صفته ، وكان الوصفُ مَدْحاً ، أو ذماً ، أو ترحُّماً - جاز في الوَصْفِ الإتباعُ والقطعُ .
والقطعُ : إما على النصْبِ بإضمار فعل لائقٍ ، وإمَّا على الرّفعِ على خَبَرٍ لمبتدإٍ مَحْذُوفٍ ، ولا يجوزُ إظهارُ هذا الناصِبِ ، ولا هذا المبتدإِ ، نحو قولِهم : " الحَمْدُ لله أَهْلَ الحَمْدِ " رُوِيَ بنصبِ " أَهْل " ورفعِه ، أيْ : أعني أَهْلَ ، أو هو أَهلُ الحمدِ .
وإِذا تكررتِ النُّعُوتُ ، والحالةُ هذه ، كُنْتَ مُخَيَّراً بين ثلاثة أوجه :
إما إتباعُ الجَميعِ ، أو قَطْعُ الجَمِيع ، أوْ قَطْعُ البَعْضِ ، وإتباعُ البَعْضِ .
إلاّ أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ ، وقطعتَ البعضَ وجب أَنْ تَبْدَأ بالإتباعِ ، ثُمَّ تأتي بالقَطْعِ من غير عَكْسٍ ، نحو : " مررتُ بزيدٍ الفَاضِلِ الكَرِيمُ " ؛ لِئَلاَّ يلزمَ الفصلُ بين الصفَةِ والموصُوفِ بالجملةِ المَقْطُوعَةِ .
و " العَالَمِينَ " خَفْضٌ بالإضافَةِ ، عَلاَمةُ خفضِه الياءُ ؛ لجريانه مَجْرى جمع المذكرِ السَّالِمِ ، وهم اسْمُ جَمْعٍ ؛ لأنَّ واحِدَهُ مِنْ غَيْرِ لفظه ، ولا يَجوزُ أن يكونَ جمعاً ل " عَالَمٍ " ؛ لأن الصحيح في " عَالَمِ " أن يُطْلَق على كل موجودٍ سوى الباري تَعَالى ، لاشتقاقه من العَلاَمةِ ، بمعنى أنه دالّ على صانِعهِ .
و " عَالَمُون " بصيغة الجمع لا يُطْلق إلا على العُقلاءِ دون غيرهم ، فاستحال أن يكون " عالمون " جمع " عَالَم " ؛ لأنَّ الجمعَ لا يكونُ أخَصَّ مِنَ المُفْرَدِ .
وهذا نظيرُ ما فعله سِيْبَويَه{[202]} - رحمه الله تعالى - في أنَّ " أعراباً " لَيْسَ جَمْعاً ل " عَرَب " ؛ لأنَّ " عرباً " يُطْلَقُ على البَدَوِيِّ دُونَ القروِيّ .
فإن قِيلَ : لِمَ لاَ يَجُوزُ أَنِ يكونَ " عَالَمُونَ " جَمْعاً ل " عَالَم " مُرَاداً به العاقل دُونَ غَيْره ، فيزولَ المحذُورُ المذكور ؟
وأُجِيبَ عنه : بأنه لَوْ جاز ذلك ، لَجَازَ أَنْ يُقالَ : " شَيْئُون " جَمْعُ " شَيْءٍ " مُرَاداً به العاقل دون غيره ، فدل عَدَمُ جَوَازِه على عدم ادّعاءِ ذلك .
وفي الجواب نَظَرٌ ، إذْ لِقائل أنْ يقول : " شيئون " منع منه مانِعٌ آخرُ ، وهو كونهُ لَيْسَ صِفَةً ولا علماً ، فلا يلزَمُ مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ " عَالَمِين " مراداً به العاقل .
ويُؤَيِّدُ هذا ما نَقَلَ الراغِبُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رضى الله تعالى عنهما - أنَّ " عَالَمِين " إنما جمع هذا الجمع ؛ لأن المراد به الملائكةُ والجنُّ والإنْسُ .
وقال الراغِبُ{[203]} أيضاً : " إنَّ العَالَم في الأصل اسم لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ " وجُعِلَ بناؤُه على هذه الصيغَةِ ، لكونه كالآلةِ ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانعه .
وقال الرَّاغِبُ : " وأما جمعُه جَمْعَ السَّلامَةِ ، فلكون الناس في جُمْلَتِهم ، والإنسانُ إذا شَارَك غيرَهُ في اللّفظِ غَلَبَ حُكْمُه " ، فظاهر هذا أَنَّ " العَالَمِين " يطلق على العُقَلاء وغَيْرِهم ، وهو مُخالِفٌ لما تقدّم من اختصاصِهِ بالعقلاء ، كما زعم بعضُهم ، وكلام الراغِبِ هو الأصَحُّ الظّاهرُ .
قال ابنُ الخَطِيبِ{[204]} - رحمه الله تعالى - : " وجوه تَرْبِيَةِ الله لِلْعَبْدِ كثيرةٌ غيرُ مُتَنَاهِيَةٍ ، ونحن نذكر منها أمثلة :
الأولُ : لما وَقَعَتِ النّطفةُ مِنْ صُلْبِ الأَبِ إلى رَحِمِ الأُمِّ ، فَرَبَّاهَا حتى صارت عَلَقَةً أَولاً ، ثم مُضْغَةً ثانيةً ، ثم تولّدت منه أعضاء مُختلفةٌ ، مثلُ العِظَامِ ، والغَضَارِيفِ ، والرّبَاطَاتِ ، والأَوْتَارِ ، والأوردَةِ ، والشرايِين ، ثم اتصل البعضُ بالبعضِ ، ثُمَّ حَصَلَ في كُلِّ واحِدٍ منها نَوْعٌ خَاصٌّ من أنواع القُوَى ، فحصلت القوّةُ الباصرة في العَيْنِ? والسَّامِعَةُ في الأُذُنِ ، والنَّاطِقَةُ في اللِّسانِ ، فسُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ ، وأَسْمَعَ بِعَظْمٍ ، وأَنْطَقَ بِلَحْمٍ " ! .
والثَّاني : أن الحَبَّةَ الواحِدَةَ إذا وقعت في الأرض ، فإذا وصلت نَدَاوةُ الأرضِ إليها ، انتفَخَتْ ولا تنشق من شيء من الجوانِبِ إلاّ مِنْ أَعْلاَها وأسفلها ، مَعَ أنَّ الانتفاخَ حاصلٌ من جميع الجوانب .
أما الشق الأعلى ، فيخرجُ منه الجزءُ الصاعِدُ ، فبعد صعودِهِ يحصُلُ له سَاقٌ ، ثم ينفصِلُ من ذلك الساقِ أَغْصَانٌ كثيرةٌ ، ثم يظهر على تلك الأغصانِ الأَنْوَارُ أوَّلاً ، ثُمَّ الثِّمَار ثانياً ، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكَثَافَةِ ، واللطافة ، وهي القُشُور ، واللّبوبُ ، ثم الأدهان .
وأما الجُزْءُ الغائِصُ من الشجرة ، فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها ، وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة ، ومع غايةِ لُطْفِها ، فإنها تغوص في الأرض الصّلبة اليابسة ، وأودع فيها قُوًى جاذبةً تجذِبُ اللّطيفةَ من الطين إلى نفسها ، والحكمةُ في كُلّ هذه التدبِيرَاتِ تحصيلُ ما يحتاج العبد إليه من الغِذَاءِ ، والإدام ، والفواكه ، والأشربةِ ، والأدْوِيَةِ ؛ كما قال تعالى :{ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً }[ عبس : 25 ، 26 ] .
اختلفوا في { الْعَالَمِينَ } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " هُمُ الجنُّ والإِنْسُ{[205]} ؛ لأنهم المكلّفون بالخِطَابِ " ؛ قال الله تعالى :{ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }[ الفرقان : 1 ] .
وقال قتادةُ{[206]} : والحَسَنُ ، ومُجَاهِدٌ - رضي الله تعالى عنهم - : " جميعُ المخلوقِينَ " ؛ قال تبارك وتعالى :{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ }[ الشعراء : 23 ، 24 ] .
واشْتِقَاقُه من العَلمِ والعَلاَمَةِ ، سُمُّوا بذلك ؛ لِظُهورِ أَثَرِ الصنعة فيهم .
قال أَبُو عُبَيد{[207]} - رحمه الله تعالى - : هم أرْبَعُ أُمَمٍ : الملائكةُ ، والإنسُ ، والجِنُّ ، والشَّيَاطِينُ ، مُشْتَقٌّ من العلم ، ولا يُقَال للبهائِمِ ؛ لأنها لا تَعْقِلُ .
قال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّب{[208]}- رضي الله عنه - : " لِلَّه ألْفُ عَالَمٍ : سِتُّمائةٍ في البَحْرِ ، وأربعمائة في البرِ{[209]} " .
وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان{[210]} - رضي الله عنه - : " ثَمانُونَ أَلْفاً ، أَرْبَعُون ألفا في البَحْرِ ، وأربعونَ ألفاً في البَرِّ " .
وقال وَهْبٌ{[211]} - رضي الله عنه - : " لله ثَمَانِيَةَ عَشرَ ألفَ عَالَمٍ ، الدّنيا عَالَمٌ منها ، وما العمران في الخَرَابِ إلا كفُسْطاطٍ في صَحْرَاء{[212]} " .
وقال كَعْبُ الأحبارِ - رضي الله عنه - : " لا يُحْصي عَدَدَ العَالَمِين إلاّ اللهُ - عز وجل - " ؛ قال تعالى :{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }[ المدثر : 31 ] .