روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (2)

فقال جل شأنه : { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } وهو أول الفاتحة وآخر الدعوات الخاتمة كما قال تعالى : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] :

كأن الحب دائرة بقلبي *** فأوله وآخره سواء

وقد قيل للجنيد قدس سره ما النهاية ؟ فقال الرجوع إلى البداية وفيه أسرار شتى ، والحمد على المشهور هو : الثناء باللسان على الجميل سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل ، قالوا ولا بد لتحققه من خمسة أمور : محمود به ومحمود عليه وحامد ومحمود وما يدل على اتصاف المحمود بصفة فالأول صفة تظهر اتصاف الشيء بها على وجه مخصوص ويجب كونه صفة كمال ولو ادعاء إذ المناط التعظيم ولا فرق عند الإمام الرازي قدس سره بين كونه ثبوتياً أو سلبياً متعدياً أو غير متعد بل ولا بين كونه صادراً عن المحمود باختياره أو لا كما قرره العلامة الدواني وصدر الأفاضل في حواشي «التجريد » و«المطالع » وجزم به المحقق الملا خسرو ، وادعى أنه الأشهر إلا أن العلامة في «شرح التهذيب » نقل عن البعض وجوب كونه اختيارياً واختاره كما في المحمود عليه ، فكما لم يسمع الحمد على رشاقة القد وصباحة الخد لم يسمع الحمد بهما وعدم حمد اللؤلؤة كما يمكن كونه من جهة حال المحمود عليه يمكن كونه من جهة المحمود فجعله دليلاً على أحدهما فقط تحكم ، الثاني ما يقع الثناء بإزائه ويقابله بمعنى أن المثنى عليه لما اتصف به أظهر كماله ولولاه لم يتحقق ذلك ، فهو كالعلة الباعثة وقد يكون الشيء الواحد محموداً به وعليه معاً كأن رأي من ينعم أو يصلي فأظهر اتصافه بذلك فهناك يتحقق الأمران لحيثيتين ويجب أن يكون كمالاً على نحو ما سبق ، وظاهر كلام الجمهور أنه أعم من كونه فعلاً صادراً من المحمود أو كيفية قائمة به ويفهم كلام الإمام اختيار الأول ، واشترط أن يكون حصوله من المحمود باختياره ، واستشكل الحمد على صفاته تعالى الذاتية سواء جعلت عين ذاته أو زائدة عليها ، وأجيب بأن الحمد عليها بتنزيلها منزلة الاختياري لكون ذاته كافية فيها ، أو بأن المراد بالفعل الاختياري المنسوب إلى الفاعل المختار سواء كان مختاراً فيه أو لا .

وقيل : إنها صادرة بالاختيار بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، لا بمعنى صحة الفعل والترك أو بمعناه والصفات صادرة بالاختيار وسبقه عليها ذاتي فلا يلزم حدوثها ، وقيل : إنه بالنظر إلى حمد البشر فالمراد ما جنسه اختياري كما قيل في قيد اللسان ، وأورد على الأول مع ما فيه أنه إنما يحسن إذا كان المعتاد من الأفعال الاختيارية كون فاعلها مستقلاً في إيجادها من غير احتياج إلى شيء آخر من آلة وغيرها ليظهر استقامة التنزيل ، وليس كذلك فإن العمل الاختياري يحتاج إلى العلم والقدرة والكثير إلى آلة وأسباب وعلى الثاني أنه خلاف المتبادر وعلى الثالث أن هذا المعنى ادعاه الحكماء حين قالوا بقدم العالم للإيجاب فلزمهم أن لا يكون لموجده إرادة وقالوا إن صدق الشرطية لا يقتضي وجود مقدمها ولا عدمه فمقدم الأولى بالنسبة إلى وجود العالم دائم الوقوع ومقدم الثانية دائم اللاوقوع ؛ ولهذا أطلق عليه الصانع وهو من له الإرادة وهو صرح ممرد من قوارير لأن ما بالإرادة يصح وجوده بالنظر إلى ذات الفاعل فإن أريد بالدوام الدوام مع صحة وقوع النقيض فهو مخالف لما صرحوا به من إيجاب العالم بحيث لا يصح عدم وقوعه منه وإن أريد مع امتناع الوقوع فليس هناك من الإرادة إلا لفظها ومتعلقها لا محيص عن حدوثه والعالم عندهم قديم واختيار الشق الأول ثم القول بأن الصادر عن الموجب بالذات ليس واجباً كذلك بل ممكن بذاته والقدم زماني لا ذاتي وصحة وقوع النقيض لا يقتضي الوقوع إذا أحجم القلم عنه إنما يظهر في العالم ويبقى ما نحن فيه من الصفات ولا أقدم على إطلاق القول بإمكانها لاحتياجها للذات واستنادها إليها وعلى الرابع أن اتصاف الصفات بالصدور لو انشرحت لتوجيهه الصدور يبقى الإشكال في صفة القدرة ولا قدرة لدعوى صدورها بالاختيار وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه فلا حسم وعلى الخامس أن هاتيك الصفات مقدسة عن أن تشرك مع صفة البشر في جنس وأين الأزلي من الزائل ؟ على أنه ما فيه خلاف المنساق إلى الذهن ولكثرة المقال والقيل لم يشترط بعضهم في المحمود عليه أن يكون اختيارياً لأنه الباعث على الحمد ، وأي مانع من أن لا يكون كذلك ومن ذلك : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } [ الإسراء : 9 7 ] وعند الصباح يحمد القوم السري ، وجاورته فما حمدت جواره :

والصبر يحمد في المواطن كلها *** إلا عليك فإنه مذموم

والحق الحقيق بالاتباع أن الحمد اللغوي لا يكون إلا على الأفعال الاختيارية والحمد على الصفات الذاتية إما لغوي راجع لما يترتب عليها من الآثار الاختيارية ، أو عرفي ولا ضرر في تعلقه بها ، وما ذكر من الأمثلة ونحوها فالحمد فيها مجاز عن الرضا ، ويقال في الآية زيادة عليه أن محموداً حال من الضمير المنصوب أو نعت لمقاماً والمعنى محموداً فيه النبي لشفاعته أو الله تعالى لتفضله عليه بالإذن وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه . والثالث : وهو من يتحقق منه الحمد وشرطه أن يكون معظماً بثنائه للمحمود ظاهراً وباطناً كما حققه الصدر نعم لا يلزم اعتقاد اتصاف المحمود بالجميل عند المحققين ، بل الشرط عدم اقترانه ثبوت تحقير فيدخل الوصف بما قطع بانتفائه ولا يناقضه كما قال الدواني توجيه الشريف اشتراط التعظيمين بأنه إذا عري عن مطابقة الاعتقاد لم يكن حمداً بل سخرية لأنه أراد بالاعتقاد لازمه ، وهو إنشاء التعظيم لا معناه الحقيقي فإن الحمد قد يكون إنشائياً ولا معنى لمطابقة الاعتقاد فيه لأن ما لا يتعلق به الاعتقاد لا يوصف حقيقة بمطابقته إذ المتبادر منها الاتحاد في الإيجاب والسلب أو ما يستلزمه أو يؤول إليه وذا لا يوجد إلا في القضايا ولذا لا تسمع أحداً يقول : إن التصور يطابقه بل لو قال قائل إن مفهوم اضرب يطابق الاعتقاد ضرب عنه صفحاً وربما نسب لما يكره وحمل المطابقة على هذا أقرب من التزام اتصاف التصورات بالمطابقة واللامطابقة إذ ليس فيه سوى الملزوم وإرادة اللازم مع أن أهل العرف العام قد يطلقون الاعتقاد بهذا المعنى فيقولون فلان له اعتقاد في فلان ويريدون ما أردنا ولا بعد فيه لأن الناس يعدون الوصف بالجميل المعلوم الانتفاء إذا كان كذلك مدحاً وحمداً كما في كثير من القصائد . وأما الجواب : بأن الواصف يعتقد الاتصاف ، وبأن المراد معان مجازية واتصاف المنعوت بها معتقد فيرده أن الأول خلاف البديهة والثاني خلاف الواقع ، والجواب عن الأول بأنه لو كان خلاف البديهة لم يقصد العقلاء إفادته ولم يكن اللفظ مستعملاً في معناه الحقيقي ، وعن الثاني بأنه لو كان خلاف الواقع لما كان مستعملاً في معناه المجازي فيلزم أن لا يكون ذلك الكلام حقيقة ولا مجازاً كلام نشأ من ضيق الصدر إذ لا يلزم من عدم اعتقاد المدلول أن لا يكون الكلام مستعملاً فيه ، فالأخبار الغير المعتقدة كقول السني الخفي حاله : العبد خالق لأفعاله مستعمل في حقيقته غير معتقد بل جميع الأكاذيب التي يعتمدها أهلها كذلك ثم إن المجيب حمل أن الأول خلاف البديهة على أن مضمون تلك الأخبار خلافها وفرع عليه أنه يلزم أن لا يقصد العقلاء إفادته ويرد عليه المنع ، فإن الأكاذيب التي يعتمدها العاقل قد تخالف البديهة مع قصد إفادتها لغرض ما كالتغليظ أو التنكيت أو الامتحان أو للتخيل كما في كثير من القضايا حتى قال بعض المحققين : لا يلزم أن يكون ذلك الكلام حقيقة ولا مجازاً وفيه تأمل الرابع : المحمود وقد علمت ما يشترط فيه .

الخامس : وهو ذكر ما يدل على اتصاف المحمود بالمحمودية ، وقد اشتهر تقييده باللسان وأريد به جارحة النطق ، ولما كان الواقع كون آلة التكلم في الغالب هي تلك الجارحة خصوه بها ، فلو فقد إنسان لسانه فأثنى بحروفه الشفوية أو خلق النطق في بعض جوارحه فأثنى به كما شوهد في مقطوع جميع اللسان فهو حمد ، وقضية التقييد أن لا يكون الصادر عمن لا جارحة له حمداً ، وقد قال تعالى : { وَإِن مّن شيء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] وأما حمد الله تعالى نفسه نفسه مثلاً فذهب الأكثر إلى أنه إخبار باستحقاق الحمد وأمر به أو مقول على ألسنة العباد أو مجاز عن إظهار الصفات الكمالية الذي هو الغاية القصوى من الحمد ومال السيد إلى الأخير . وقال الدواني : كون الحمد في حقه سبحانه مجازاً بعيد عن قاعدة أهل الحق من إثبات الكلام له حقيقة والقول مساوق للكلام ، فالأظهر أن الحصر في اللسان إضافي لمقابلة الجنان والأركان والمراد الأمر الذي مصدره اللسان غالباً أو هو قيد غالبي يسوغ الاستعمال فيه واللفظ قد يكون موضوعاً في أصل اللغة لعام ويشتهر في بعض مخصوص بحيث يصير فيه حقيقة عرفية وسبب الاشتهار إما كثرة تداول ذلك الفرد كما في الدابة وإما عدم الاطلاع على فرد آخر فيستعمله أهل اللسان في ذلك الفرد حتى إذا استمر ولم يطلع على إطلاقه على فرد آخر ظن أنه موضوع لخصوصه كما في الميزان فإنه في الأصل موضوع لآلة الوزن ، ثم من لم يطلع إلا على ما له لسان وعمود ربما يجزم بأنه موضوع له فقط ولا يدري أن وراء ذلك موازين( {[77]} ) ومثل هذا يجري في كثير من الألفاظ ، والأمر في المشتقات لا يكاد يخفى على من له أدنى فطنة لظهوره بالرجوع إلى قاعدة الاشتقاق وفي غيرها ربما يشتبه على الجماهير ، وبذلك يفوت كثير من حقائق الكتاب والسنة فإن أكثرهما وارد على أصل اللغة ، وعلى ذلك فقس الحمد فإن حقيقته عندهم إظهار صفات الكمال ، ولما كان الإظهار القولي أظهر أفراده وأشهرها عند العامة شاع استعمال لفظ الحمد فيه حتى صار كأنه مجاز في غيره مع أنه بحسب الأصل أعم بل الإظهار الفعلي أقوى وأتم فهو بهذا الاسم أليق وأولى كما هو شأن القول بالتشكيك وفرقوا بين الحمد والمدح بأمور .

أحدها : أن الحمد يختص بالثناء على الفعل الاختياري لذوي العلم ، والمدح يكون في الاختياري وغيره ولذوي العلم وغيرهم كما يقال مدحت اللؤلؤة على صفائها . وثانيها وثالثها : أن الحمد يشترط صدوره عن علم لا ظن ، وأن تكون الصفات المحمودة صفات كمال والمدح قد يكون عن ظن وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما .

رابعها : أن في الحمد من التعظيم والفخامة ما ليس في المدح وهو أخص بالعقلاء والعظماء وأكثر إطلاقاً على الله تعالى . وخامسها : أن الحمد إخبار عن محاسن الغير مع المحبة والإجلال ، والمدح إخبار عن المحاسن ، ولذا كان الحمد إخباراً يتضمن إنشاء والمدح خبراً محضاً . وسادسها : أن الحمد مأمور به مطلقاً ففي الأثر : «من لم يحمد الناس لم يحمد الله » والمدح ليس كذلك : «أحثوا في وجوه المداحين التراب » ويشعر كلام الزمخشري في «الكشاف والفائق » بترادفهما ، ففي الأول أنهما أخوان وجعل فيه نقيض المدح أعني الذم نقيضاً للحمد وفي الثاني الحمد المدح والوصف بالجميل فالمدح عنده مخصوص بالاختياري وتأول المدح بالجمال وصباحة الوجه واحتمال أن يراد من الأخوين ما يكون بنيهما اشتقاق كبير بأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب كجبذ وجذب ، وأن الأدباء يجوزون التعريف بالأعم ، والنقيض هناك بالمعنى اللغوي ، ويجوز أن يكون شيء واحد نقيضاً لشيئين بينهما عموم وخصوص بهذا المعنى لا ينفي ما قلناه ، بل إذا أنصفت تكاد تجزم بأن الزمخشري قائل بالترادف ، ولا تستفزك هذه الاحتمالات لأنها كسراب بقيعة ، نعم هذا القول بعيد منه وهو شيخ العربية وفتاها فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن المدح يكون على غير الاختياري ، وكأنه لذلك لم يقل عز شأنه المدح لله كما قالوا إظهاراً لأن الله تعالى فاعل مختار وفي ذلك من الترغيب والترهيب المناسبين لمقام البعثة والتبليغ ما لا يخفى .

وأما الشكر : فهو أيضاً مغاير للحمد إلا أن بعضهم خصه بالعمل والحمد بالقول ، وبعض جعله على النعم الظاهرة ، والآخر على النعم الباطنة ، وادعى آخرون اختصاصه بفعل اللسان كالحمد في المشهور إلا أنه على النعمة وإليه يشير كلام الراغب( {[78]} ) ، والمعروف أنه ما كان في مقابلتها قولاً باللسان وعملاً وخدمة بالأركان واعتقاداً ومحبة بالجنان ، وقول الطيبي إن هذا عرف أهل الأصول فإنهم يقولون شكر المنعم واجب ويريدون منه وجوب العبادة وهي لا تتم إلا بهذه الثلاثة وإلا فالشكر اللغوي ليس إلا باللسان غير طيب فإن ظاهر الكتاب والسنة إطلاق الشكر على غير اللسان قال تعالى : { اعملوا ءالَ دَاوُود شكرا } [ سبأ : 3 1 ] وروى الطبراني( {[79]} ) عن النواس بن سمعان : «أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء سرقت فقال لئن ردها الله تعالى عليّ لأشكرن ربي ، فلما ردت قال الحمد لله فانتظروا هل يحدث صوماً أو صلاة فظنوا أنه نسي فقالوا له : فقال : ألم أقل الحمد لله ؟ » فلو لم يفهموا رضي الله تعالى عنهم إطلاق الشكر على العمل لم ينتظروه ، وزاد بعضهم في أقسام الشكر رابعاً وهو شكر الله تعالى بالله فلا يشكره حق شكره إلا هو ذكره صاحب «التجريد » وأنشد :

وشكري ذوي الإحسان بالقلب تارة *** وبالقول أخرى ثم بالعمل الأثنى

وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي *** ولا بلساني بل به شكرنا عنا

والذي أطبق عليه الناس التثليث وعلى كل حال بينه وبين الحمد عموم وخصوص من وجه والحمد أقوى شعبة لأن حقيقته إشاعة النعمة والكشف عنها كما أن كفرانها إخفاؤها وسترها وتلك بالقول أتم لأن الاعتقاد أمر خفي في نفسه وعمل الجوارح وإن كان ظاهراً إلا أنه يحتمل خلاف ما قصد به وكم فرق بين حمدت الله وشكرته ومجدته وعظمته وبين أفعال العبادة وهي كلها موافقة للعادة ولسان الحال أنطق من لسان المقال أمر ادعائي كما هو المعروف في أمثاله ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : " الحمد رأس الشكر ما شكر الله تعالى عبد لا يحمده " وهو وإن كان فيه انقطاع إلا أن له شاهداً( {[80]} ) يتقوى به وإن كان مثله فحيث كان النطق يجلي كل مشتبه وكان الحمد أظهر الأنواع وأشهرها حتى إذا فقد كان ما عداه بمنزلة العدم شبهه صلى الله عليه وسلم بالرأس الذي هو أظهر الأعضاء وأعلاها والأصل لها والعمدة في بقائها وكأنه لهذا أتى به الرب سبحانه ليكون الرأس للرئيس ويفتتح النفيس بالنفيس أو لأنه لو قال جل شأنه الشكر لله كان ثناءً عليه تعالى بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل والحمد لله ليس كذلك فهو أعلى كعباً وأظهر عبودية ويمكن أن يقال إن الشكر على الإعطاء وهو متناه والحمد يكون على المنع وهو غير متناه فالابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له على جانب من الحسن لا نهاية له ودفع الضر أهم من جلب النفع فتقديمه أحرى ، وأيضاً مورد الحمد في المشهور خاص ومتعلقه عام ، والشكر بالعكس مورداً ومتعلقاً ففي إيراده دونه إشارة قدسية ونكتة على ذوي الكثرة خفية وإلى الله ترجع الأمور وكأنه لمراعاة هذه الإشارة لم يأت بالتسبيح مع أنه مقدم على التحميد إذ يقال سبحان الله والحمد لله على أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس فإن الأول يدل على كونه سبحانه وتعالى مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والثاني يشير إلى كونه محسناً إلى العباد ولا يكون محسناً إليهم إلا إذا كان عالماً قادراً غنياً ليعلم مواقع الحاجات فيقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه ولا يشغله حاجة نفسه عن حاجة غيره ، وإن أبيت -ولا أظن- قلنا كل تسبيح حمد وليس كل حمد تسبيحاً لأن التسبيح يكون بالصفات السلبية فحسب والحمد بها وبالثبوتية على ما سلف فهو أعم منه بذلك الاعتبار( {[81]} ) فافتتح به لأنه لجمعيته وشموله أوفق بحال القرآن وتقديم التسبيح هناك لغرض آخر ولكل مقام مقال والتعريف هنا للجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو مثله في قول لبيد يصف العير وأتنه :

وأرسلها العراك ولم يذدها *** ولم يشفق على نفض( {[82]} ) الدخال

وعليه جمع منهم الزمخشري حتى قال والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم وقد صار هذا معترك الأفهام ومزدحم أفكار العلماء الأعلام ، فقيل : إنه مبني على مسألة خلق الأعمال فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة كانت المحامد عليها راجعة إليهم ، فلا يصح تخصيص المحامد كلها به تعالى ورد بأن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص أفراده أيضاً إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وصح هذا عندهم لأن الأفعال الحسنة التي يستحق بها الحمد إنما هي بإقدار الله تعالى وتمكينه فبهذا الاعتبار يرجع الأمر إليه كله ، وأما حمد غيره فاعتداد بأن النعمة جرت على يده ، وقيل إنه جعل الجنس في المقام الخطابي منصرفاً إلى الكامل كأنه كل الحقيقة ورد بأنه يجوز في الاستغراق أيضاً بأن يجعل ما عدا محامده كالعدم فلا فرق بين اختصاص الجنس والاستغراق في منافاتهما ظاهراً لمذهبه ودفعهما بالعناية ، وقيل مبناه على أن المصادر نائبة مناب الأفعال وهي لا تعدو دلالتها عن الحقيقة إلى الاستغراق ورد بأن ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة القرائن ، وقيل إنما اختاره بناءً على أنه المتبادر الشائع لا سيما في المصادر وعند خفاء القرائن ، ورد بأن المحلى بلام الجنس في المقامات الخطابية يتبادر منه الاستغراق وهو الشائع هناك مطلقاً وأي مقام أولى بملاحظة الشمول والاستغراق من مقام تخصيص الحمد به سبحانه تعظيماً ، فقرينة الاستغراق كنار على علم فالحق أن سبب الاختيار هو أن اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام ومستلزم لاختصاص جميع الأفراد فلا حاجة في تأدية المقصود من إثبات الحمد له تعالى وانتفائه عن غيره إلى أن يلاحظ بمعونة الأمور الخارجية ، بل نقول على ما اختاره يكون اختصاص الأفراد بطريق برهاني فيكون أقوى من إثباته ابتداء وفيه أن فهم اختصاص الجنس من جوهر الكلام يدل على سرعته وهو معنى التبادر وقد رده ، وأيضاً إذا كان الاختصاص بطريق برهاني فلا شبهة في خفائه فأين النار وأين العلم ؟ وقيل غير ذلك ولا يبعد أن يقال : إن اختيار الزمخشري كون التعريف للجنس وكون القول بالاستغراق وهم لا يبعد أن يكون رعاية لنزغة اعتزالية وأن يكون لنكتة عربية لأنه جعل أصل المعنى نحمد الله حمداً ، وزعم أن { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } بيان لحمدهم ، كأنه قيل : كيف تحمدوني فقيل إياك نعبد ، ثم سئل وأجاب فقيل في توجيه ذلك أنه لما كان معناه نحمد الله حمداً كان إخباراً عن ثبوت حمد غير معين من المتكلم له تعالى على أن المصدر للعدد ، فاتجه أن يقال كيف تحمدونه أي بينوا كيفية حمدكم فإنها غير معلومة فبين بقوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } الخ أي نقول هذه الكلمات ونحمده بهذا الحمد فورد السؤال عن التعريف ؛ لأن المناسب للإبهام ثم البيان التنكير وأجاب أنه لتعريف الجنس من حيث وجوده في فرد غير معين ولذا بين ، وقيل لما كان المعنى نحمد حمداً كان المصدر للتأكيد فيكون دالاً على الحقيقة من غير دلالة على الفردية والسؤال المقدر عن كيفية صدور تلك الحقيقة ، والجواب : أنا نحمد حمداً مقارناً لفعل الجوارح وفعل القلب ولا نقتصر على مجرد القول ، ثم أورد بأنه يكفي لإفادة هذا المصدر المنكر فما فائدة التعريف ؟ فأجاب بأنه تعريف للجنس للإشارة إلى الماهية المعلومة للمخاطب من حيث هي ، وعلى هذين التوجيهين يكون اختياره الجنس ومنعه الاستغراق لرعاية مذهبه والاختصاص على الأول اختصاص الفرد وعلى الثاني اختصاص الجنس باعتبار الكمال ولا يخفى سقوط اعتراض السعد حينئذٍ بأن الاختصاصين متلازمان وكل منهما مخالف لمذهبه ظاهراً موافق له تأويلاً فلا يكون رعاية المذهب موجباً لاختيار الجنس دون الاستغراق ولا يرد ما أورد السيد على الثاني من أنه كما يجوز الحمل على الجنس باعتبار الكمال على مذهبه يجوز الحمل على الاستغراق باعتبار تنزيل محامد غيره منزلة العدم لأن فيه تطويل المسافة والالتجاء إلى معونة المقام من غير حاجة ، وقيل حاصل الجواب عن كيفية صدور تلك الحقيقة بتخصيص العبادة المشتملة على الحمد وغيره لأن انضمام غيره معه نوع بيان لكيفيته أي حال حمدنا أنا نجمعه بسائر عبادات الجوارح والاستعانة في المهمات ونخص مجموعها بك وتقدير السؤال والجواب بحاله وحينئذٍ لا يصح أن يكون الاختيار للرعاية لأن الاختصاصين متلازمان بل لأن الحمد مصدر ساد مسد الفعل ، وهو لا يدل إلا على الحقيقة فكذا ما ينوب منابه وإن كان معرفة ليصح بيانه بإياك نعبد والحمل على الاستغراق يبطل النيابة إذ يصير الكلام مسوقاً لبيان العموم ولا يصح البيان ، وهذا الاختيار مستفاد من جعل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } بياناً لحمدهم ولعل الذي دعاه إليه ترك العاطف فظن أنه لذلك لا يكون إلا بياناً وهو من التعكيس ؛ لأن جعل الصدر متبوعاً للعجز أولى من العكس فالمحققون المحقون على تعميم الحمد وأن الفصل( {[83]} ) لأن الكلام الأول جار على المدح للغائب بسبب استحقاقه كل الحمد والثاني جار على الحكاية عن نفس الحامد وبيان أحواله بين يدي الباطن الظاهر والأول الآخر ، فترك العطف للتفرقة بين الحالتين لا للبيان ، ويدل على ذلك أن أحسن الالتفات أن يكون النقل من إحدى الصيغتين إلى الأخرى في سياق واحد لمعلوم واحد ولا بيان له على البيان على أن جعل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } بياناً ربما يناقض ما ادعاه من أن الشكر بالقلب والجوارح واللسان والحمد بالأخير لأن العبادة تكون بها كلها فيلزم أن يكون الحمد كذلك وأيضاً الذهاب إلى فسحة الالتفات والقول بأن قوله { الحمد } الخ وارد على الشكر اللساني و { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } مشعر بالشكر بالجوارح و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } مؤذن بالشكر القلبي أولى من الفرار إلى مضيق القول بالبيان ، وأيضاً في تعقيب هذه الصفات للحمد إشعار بأن استحقاقه له لاتصافه بها وقد تقرر أن في اقتران الوصف المناسب بالحكم إشعاراً بالعلية ، وههنا الصفات بأسرها تضمنت العموم فينبغي أن يكون العموم في الحمد أيضاً لأن الشكر يقتضي المنعم والمنعم عليه والنعمة ، فالمنعم هو الله تعالى والاسم الأعظم جامع لمعاني الأسماء الحسنى ما علم منها وما لم يعلم والمنعم عليه العالمون وقد اشتمل على كل جنس مما سمي به وموجب النعم الرحمن الرحيم ، وقد استوعب ما استوعب فإذن لا يستدعي تخصيص الحكم بالبعض سوى التحكم أو التوهم ، هذا وأنا لو خليت وطبعي لا أمنع أن تكون أل للحقيقة من حيث هي كما في قولهم الرجل خير من المرأة أو لها من حيث وجودها في فرد غير معين كما في أدخل السوق أو لها في جميع الأفراد وهو الاستغراق كما في : { إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ } [ العصر : 2 ] والقول بأن هذا المقام آب عن الاستغراق لأن اختصاص حقيقة الحمد به تعالى أبلغ من اختصاص أفرادها جمعاً وفرادى لاستلزام الأول الثاني وسلوك طريقة البرهان أقضى لحق البلاغة ، وأيضاً أصل الكلام نحمد الله تعالى حمداً وحمدنا بعض لا كل وفي اختصاص الجنس إشعار بأن حمد كل حامد لكل محمود حمد لله تعالى على الحقيقة لأنه إنما حمده على الصفات الكمالية المفاضة عليه من الفياض الحق جل وعلا ، فهو فعله على الحقيقة والحمد على الفعل الجميل ، والمعتزلي وإن قال بالاستقلال لا يمنع أن الإقدار والتمكين منه تعالى فيمكنه من هذا الوجه أن يعمم عند المقتضى له ، وقد صرح بهذا الزمخشري أول التغابن ( 1 ) فقال في قوله تعالى : { لَهُ الملك وَلَهُ الحمد } قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى ثم قال : وأما حمد غيره فاعتداد بأن نعمة الله تعالى جرت على يده وقد يقال أيضاً على أصله إن الحمد المستغرق لا يجوز أن يختص بل الحمد الحقيقي الكامل الذي يقتضيه إجراء هذه الصفات فاللام للحقيقة ، ويراد أكمل أنواعها فهو من باب { ذلك الكتاب } [ البقرة : 2 ] وحاتم الجود لأنه الذي يحق أن يطلق عليه الحقيقة حتى كأنه كلها لا لأنها للاستغراق في المقام الخطابي وتنزيل غير ذلك منزلة العدم فإنه تطويل للمسافة مع قصرها كلام لا أقبله وإن جل قائله ويعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال كيف ومن سنة الله تعالى التي لا تبديل لها إجراء الكلام على سبيل الخطابة وإن كان برهانياً فهي أكثر تأثيراً في النفوس وأنفع لعوام الناس كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] فالتحرز عن الاستغراق احترازاً عن المقام الخطابي ذهول عن مقرئ كلام الله تعالى ، ثم لما كان المقام مقتضياً لدقائق النعم وروادفها لم يكن تنزيل الحمد الغير الكامل منزلة العدم من مقتضيات المقام وتصريح الزمخشري في التغابن بالتعميم ممنوع للتفرقة بين استغراق أفراد الحمد الخارجية والذهنية الحقيقية والمجازية الكاملة وغير الكاملة وبين اختصاص حقيقة الحمد كما يشعر به قوله ، وذلك لأن الملك على الحقيقة له وكذلك الحمد فكما أنه لا ينفي الملك عن غيره مطلقاً فكذلك لا ينفي الحمد عنه كذلك فإن من أصل المعتزلة أن نعمة الله تعالى جارية على يد العبد لكنه موجد لانعمامه ، فله حمد يليق بإيجاده ولله تعالى حمد يليق بتمكينه وإفاضته وهو الحمد الكامل المختص به عز شأنه لا ذاك ، وفي «الكشاف » ما يؤيد( {[84]} ) ما قلناه لمن أمعن النظر ، وأما حديث إن اختصاص حقيقة الحمد أبلغ من اختصاص الأفراد لاستلزام الأول الثاني فيجاب عنه بأن اختصاص الأفراد الخارجية والذهنية كما قررنا مستلزم لاختصاص الحقيقة أيضاً إذ لم يبق لها فرد غير مختص فأين توجد ؟ فالاستلزام متعاكس على أن حقيقة الحمد يصدق عليها الحمد فهي فرد من أفراده كما قال الدامغاني ، فإذا خصص جميع أفراد الحمد به اختص حقيقته أيضاً وكون الأصل نحمد الله تعالى حمداً ليس بقاطع احتمال الاستغراق الآن فقد تغير الحال ، وأنت إذا تأملت بعد يرتفع عنك سجاف الإشكال ، ولست أقول إن الحمد أينما وقع يفيد ذلك بل إذا دعا المقام إليه أجبناه ولهذا فرقوا بين هذا الحمد وحمد الإنعام إذ عموم الربوبية وشمول الرحمة واستمرار الملك هنا تقتضي استغراق الأفراد توفية لحق هذه السورة وحرصاً على التئام نظمها بخلاف ما في تلك السورة ، فإن العمومات مفقودة فيها ومن الغريب : أن بعضهم جعلها للعهد ، قال الفاكهي : سمعت شيخنا أبا العباس المرسي يقول : قلت لابن النحاس ما تقول في الألف واللام في الحمد أجنسية هي أم عهدية ؟ فقال : يا سيدي قالوا إنها جنسية فقلت له الذي أقول : إنها عهدية ، وذلك أن الله تعالى لما علم عجز خلقه عن كنه حمده حمد نفسه بنفسه في أزله نيابة عن خلقه قبل أن نحمده فقال أشهدك أنها للعهد ، واستأنس له بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : " اللهم لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وأغرب من هذا ما ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وليس بالغريب عندهم أن الحمد لله على حد الكبرياء لله و { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } [ الأعراف : 4 5 ] فهو الحامد والمحمود والجميع شؤونه ولهم كلام غير هذا ، والكل يسقى بماء واحد ، وعن إمامنا الماتريدي روّح الله تعالى روحه أنه جعل هذا حمداً من الله تعالى لنفسه قال وإنما حمد نفسه ليعلم الخلق ولا ضير في ذلك لأنه سبحانه هو المستحق لذاته والحقيق بما هنالك إذ لا عيب يمسه ولا آفة تحل به .

ثم إن الحمد : فيما تواتر مرفوع وهو مبتدأ خبره { لِلَّهِ } وقرأ الحسن البصري وزيد بن علي ( الحمد لله ) باتباع الدال اللام وإبراهيم بن عبلة وأهل البادية بالعكس ، وجاز ذلك استعمالاً مع أن الاتباع إنما يكون في كلمة واحدة لتنزيلهما لكثرة استعمالهما مقترنين منزلة الكلمة الواحدة ، واختلف في الترجيح مع الإجماع على الشذوذ فقيل قراءة إبراهيم أسهل لأمرين أحدهما : أن اتباع الثاني للأول أيسر من العكس وإن ورد كما في مد وشد وأقبل وأدخل لأنه جار مجرى السبب والمسبب وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب ، وثانيهما : أن ضمة الدال إعراب وكسرة اللام بناء وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء المطرد غلبة الأقوى الأضعف وقيل : إن قراءة الحسن أحسن لأن الأكثر جعل الثاني متبوعاً لأن ما مضى فات ، ولأن جعل غير اللازم تابعاً للازم أولى والاستقامة عين الكرامة وكأنه لتعارض الترجيح قال الزمخشري : وأشف القراءتين قراءة إبراهيم ، فعبر بأشف وهو من الأضداد ، وقرأ هارون بن موسى ( الحمد لله ) بالنصب وعامة بني تميم وكثير من العرب ينصبون المصادر بالألف واللام وهو بفعل محذوف قدروه نحمد بنون الجماعة لأنه مقول على ألسنة العباد ومناسب لنعبد ونستعين لا بنون العظمة لعدم مناسبته لمقام العبادة المقتضي لغاية التذلل والخضوع ويجوز أن يكون من باب :

وإن حدثوا عنها فكلي مسامع *** وكلي إذا حدثتهم ألسن تتلو

وحمل الغزالي قدس سره حديث " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " على ذلك ، وأرفع القراءات قراءة الرفع لدلالة الجملة الاسمية على الثبوت والدوام بقرينة المقام بخلاف الفعلية فإنها تدل على التجدد والحدوث وإن كان هناك ظرف فإن قدر متعلقه اسما فهو ظاهر وإلا فقد قيل الخبر الفعلي إنما يفيد الحدوث إذا كان مصرحاً به على أنه قيل لا تقدير ، وما ذكره النحاة لأمر صناعي اقتضاه كقولهم الظرفية اختصار الفعلية ، وقيل إن الجملة الاسمية بمجردها لا تدل على ذلك بل مع انضمام العدول وإن أعجبك فالتزمه فقد قيل بالعدول هنا ولكن ليس هذا في كلام الشيخ عبد القاهر( {[85]} ) بل من تدبر كلامه في بحث الحال من «الدلائل » دفع بأقوى دليل الحال الذي عرض للناظرين ، وقولهم المضارع يفيد الاستمرار أرادوا به الاستمرار التجددي في المستقبل لا في جميع الأزمنة فلا ينافي ما قلنا ، واختار الجملة الاسمية ههنا إجابة لداعي المقام ، وقد قال غير واحد إن أصل هذا المصدر النصب لأن المصادر أحداث متعلقة بمحالها فيقتضي أن تدل على نسبتها إليها والأصل في بيان النسبة في المتعلقات الأفعال فينبغي أن تلاحظ معها ويؤيد ذلك كثرة النصب في بعضها والتزامه في بعض آخر وقد تنزل منزلة أفعالها فتسد مسدها وتستوفي حقها لفظاً ومعنى فيكون ذكرها معها كالشريعة المنسوخة يستنكرها المتدين بعقائد اللغة .

وبقي ههنا أمور : الأول اختلف في جملة الحمد هل هي إخبارية أم إنشائية ؟ فالذي عليه معظم العلماء أنها إخبارية كما يقتضيه الظاهر لما يلزم على الإنشاء من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ؛ ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود واللازم باطل فالملزوم مثله ولا يرد أن القصد إحداث الحمد لا الإخبار بثبوته لأن الإخبار بثبوت جميع المحامد لله تعالى هو عين الحمد كما أن قولك الله واحد عين التوحيد ، وألف العلامة البخاري في الانتصار لذلك ، ورد من زعم أنها إنشائية وأطال فيه واهتم برده ابن الهمام وذكر أن ما ذكر باطل لأن اللازم من المقارنة انتفاء وصف الواصف لا الاتصاف إذ الحمد إظهار الصفات لا ثبوتها ، وأيضاً المخبر بالحمد لا يقال له حامد إذ لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخباره اسم قطعاً فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم ، فلو كان الحمد إخباراً محضاً لم يقل لقائل الحمد لله حامد وهو باطل نعم يتراءى لزوم أن يكون كل مخبر منشئاً حيث كان واصفاً للواقع ومظهراً له وهو توهم فإن الحمد مأخوذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه التعظيم وهذا ليس جزء ماهية الخبر فاختلفت الحقيقتان فالجملة إنشائية لا محالة ، وقال الملا خسرو( {[86]} ) هي وأمثالها إخبارية لغة ونقلها الشارع للإنشاء لمصلحة الأحكام واعترض على إنشائيتها بأن الاستغراق ينافيه ويستلزم كون الحامد منشئاً لكل حمد ومن المحال إنشاء الحمد القائم بغيره ، وأجيب( {[87]} ) بأنه لا منافاة ولا استلزام ، ويكفي كونه منشئاً للإخبار بأن كل حمد ثابت له ومحمود به ، والذي ارتضيه أنها إخبارية كما عليه المعظم ويد الله تعالى مع الجماعة والمراد الإخبار بأن الله تعالى مستحق الحمد كما قال سبحانه : { ولَهُ الحمد في الأولى والآخرة } [ القصص : 0 7 ] والمتكلم بها عن اعتقاد واصف ربه سبحانه بالجميل ومعظم له جل شأنه ، فيقال له حامد لذلك لا لمحض الإخبار بما فيه لفظ الحمد بل إذا غير الصيغة إلى ما ليس فيها ذلك اللفظ مما هو مشتمل على الوصف بالجميل بقصد التعظيم قيل له أيضاً حامد فللحمد صيغ شتى وعبارات كثيرة حتى جعل منها الإقرار بالعجز عن الحمد ، وقد نقل أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك والشكر من آلائك ؟ فقال : يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني ، فما ذكره ابن الهمام أولاً من أن المخبر بالحمد لا يقال له حامد إن أراد أن المخبر من حيث إنه مخبر لا يقال له ذلك فمسلم والدليل تام لكنا بمعزل عن هذه الدعوى وإن أراد أن المخبر مطلقاً ولو قصد التعظيم لا يقال له ذلك فممنوع ولا تقريب في الدليل كما لا يخفى ، وما ذكره ثانياً من قوله : نعم الخ يعلم دفعه من خبايا زوايا كلامنا ، وما ذكره الملا خسرو يرد عليه أن النقل في أمثال ما نحن فيه بلا ضرورة ممنوع ولا تظن من كلامي هذا أني أمنع أن يكون الحمد بحملة إنشائية رأساً معاذ الله ولكني أقول : إن الجملة هنا إخبارية وإن الحمد يصح بها بناءً على ما ذكرناه والبحث بعد محتاج إلى تحرير ولعل الله تعالى يوفقه لنا في مظانه والظن بالله تعالى حسن .

الثاني : أنه شاع السؤال عن معنى كون حمد العباد لله تعالى مع أن حمدهم حادث وهو سبحانه القديم ولا يجوز قيام الحادث به وأجيب بأن المراد تعلق الحمد به تعالى ولا يلزم من التعلق القيام كتعلق العلم بالمعلومات فلا يتوجه الإشكال أصلاً ، وقيل إن الحمد مصدر بناء المجهول فيكون الثابت له عز شأنه هو المحمودية وصيغة المصدر تحتمل ذلك وغيره ولهذا جعل بعضهم في الحمد لله أوائل الكتب اثنين وأربعين احتمالاً( {[88]} ) وقيل وهو من الغرابة بمكان أن اللام للتعليل أي الحمد ثابت لأجل الله تعالى الثالث : أنه أتى باسم الذات في الحمدلة لئلا يتوهم لو اقتصر على الصفة اختصاص استحقاقه الحمد بوصف دون وصف وذلك لأن اللام على ما قيل للاستحقاق فإذا قيل الحمد لله يفيد استحقاق الذات له ، وإذا علق بصفة أفاد استحقاق الذات الموصوفة بتلك الصفة له والاختصاص إفادة التعريف ولكون الاختصاص كذلك حكماً باطلاً في نفسه جعل متوهماً لا لأن تعليق الحكم بالوصف يدل على العلية لا على الاختصاص لأنه مستفاد من تعريف المسند إليه ، ومعنى الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحت مستحقاً له فإن استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل ، وسمي ذاتياً لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مستنداً إلى صفة من الصفات المخصوصة كان مسنداً إلى الذات .

وقد قسم بعض ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم الحمد باعتبار صدوره إلى قسمين فمصدره باعتبار الفرق من محلين ومنبعه من عينين فإن وجد من الحق وصدر من الوجود المطلق فتارة يكون على الذات بانفرادها ووحدتها وغيبتها في عماء هويتها وتارة بكمال إطلاقها في وجودها وتارة بتنزلاتها إلى حظيرات شهودها وتارة بكمال أوصافها ونعوتها وتارة بكمال آثارها وأفعالها ، وتارة يثني على أوصافها من حيث الجملة ، وتارة من حيث التفصيل فيثني على العلم من حيث إحاطته بكل معلوم من حق وخلق وغيب وشهادة وملك وملكوت وبرزخ وجبروت واستقلاله بالوجود من غير مدة ولا مادة ولا معلم ولا مفيد وتقدسه عن النقص وتنزهه عما يخطر في الوهم وكذلك على سائر الصفات بما يليق بها ويجب لها ، وإن وجد من الخلق والوجود المقيد فتارة يكون على ذات الحق وتارة على صفاته وتارة على أسمائه ومرة على أفعاله وطوراً على أسراره وكرة على لطيف صنعه وخفي حكمته في أفعاله وآثاره وذلك بحسب مبلغ الناس في العلم ومنتهاهم في العقل والفهم { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } [ الأنعام : 19 ] و { لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 0 11 ] و { سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 80 1 ] وإذا اعتبر الجمع كان الكل منه وإليه { وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى } [ النجم : 2 4 ] فلا حامد ولا محمود سواه .

أوري بسعدى والرباب وزينب *** وأنت الذي يعنى وأنت المؤمل

وهناك يرتفع كل إشكال وينقطع كل مقال .

وإنما قدم الحمد على الاسم الكريم لاقتضاء المقام مزيد اهتمام به لكونه بصدد صدور مدلوله فهو نصب العين وإن كان ذكر الله تعالى أهم في نفسه والأهمية تقتضي التقديم إلا أن المقتضى العارض بحسب المقام أقوى عند المتكلم وتأخير ما قدم هنا في نحو قوله تعالى : { وَلَهُ الحمد فِي السموات } [ الروم : 8 1 ] لغرض آخر سيأتيك مع أمور أخر في محله إن شاء الله تعالى .

والرب في الأصل مصدر بمعنى التربية( {[89]} ) وهي تبليغ الشيء إلى كماله بحسب استعداده الأزلي شيئاً فشيئاً ، وكأنها من ربا الصغير كعلا إذا نشأ فعدي بالتضعيف ووصف به للمبالغة الحقيقية والصورية فالتجوز فيه إما عقلي من قبيل :

*فإنما هي إقبال وإدبار*

أو لغوي كاسأل القرية وقيل هو صفة مشبهة . وفي «شرح التسهيل » أنه ممنوع والظاهر أنه من مبالغة اسم الفاعل أو هو اسم فاعل وأصله رأب فحذفت ألفه كما قالوا رجل بار وبر قاله أبو حيان . ويؤيده إضافته إلى المفعول وقد ذكروا أن الصفة المشبهة تضاف إلى الفاعل ويطلق أيضاً على الخالق والسيد والملك والمنعم والمصلح والمعبود والصاحب إلا أن المشهور كونه بمعنى التربية فلهذا قال بعض المحققين : إنه حقيقة فيه لأن التبادر أمارتها وفي البواقي إما مجاز أو مشترك والأول أرجح لأن في جميعها يوجد معنى التربية ووجود العلاقة أمارة المجاز ولأن اللفظ إذا دار بين المجاز والاشتراك يحمل على المجاز كما تقرر في مبادئ اللغة وحمله الزمخشري هنا على معنى المالك ولعل ما اخترناه خير منه لأنه بعد تسليم أنه حقيقة في ذلك يؤدي إلى أن يكون { مالك يَوْمِ الدين } تكراراً لدخوله في { رَبّ العالمين } وإن قلنا بالتخصيص بعد التعميم يحتاج إلى بيان نكتة إدراج الرحمن الرحيم بينهما ولا تظهر لهذا العبد على أن مختارنا أنسب بالمقام لأن التربية أجل النعم بالنسبة إلى المنعم عليه وأدل على كمال فعله تعالى وقدرته وحكمته ، تدلك على ذلك الآثار وما فيها من الأسرار .

واستطيب بعضهم ما اختاره الطيبي من وجوب حمل الرب على كلا مفهوميه والقدر المشترك المتصرف ألزم وسبيل إعمال المشترك في كلا مفهوميه إذا اتفقا في أمر سبيل الكناية من أنها لا تنافي إرادة التصريح مع إرادة ما عبر عنه ، وإذا اختلف سبيل الحقيقة والمجاز وعلى كل حال( {[90]} ) لا يطلق لغة على غيره تعالى إطلاقاً مستفيضاً إلا مقيداً بإضافة ونحوها مما يدل على ربوبية مخصوصة ، وقول ابن حلزة في المنذر بن ماء السماء :

وهو الرب والشهيد على يو *** م الخيارين( {[91]} ) والبلاء بلاء

نادر . واستظهر الإمام السيوطي أن المراد نفي إطلاقه على غيره تعالى شرعاً والشعر جاهلي وفي كلام الجوهري ما يؤيده ، وقال الشهاب : لو كان بمعنى غير المالك جاز مع القرينة إطلاقه على غيره تعالى ، وجوز بعضهم إطلاقه منكراً كما في قوله النابغة :

نحث إلى النعمان حتى نناله *** فدى لك من رب طريفي وتالدي

وكره بعضهم إطلاقه مقيداً بالإضافة إلى عاقل كرب العبد لإيهام الاشتراك ، وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : «لا يقل أحدكم أطعم ربك وضئ ربك ولا يقل أحد ربي وليقل سيدي ومولاي »( {[92]} ) وأجابوا عن قول يوسف عليه السلام : { ارجع إلى رَبّكَ } [ يوسف : 0 5 ] و { إِنَّهُ رَبّى } [ يوسف : 3 2 ] ونحوه بأنه مثل : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا } [ يوسف : 00 1 ] مخصوص جوازه بزمانه و { العالمين } في المشهور جمع عالم واعترض بأنه يعم العقلاء وغيرهم وعالمون خاص بالعقلاء ، وأجيب بكونه جمعاً له بعد تخصيصه بهم وهو في حكم الصفات كما سيعلم بتوفيقه تعالى من تعريفه أو نقول بالتغليب وقيل نزل من ليس له العلم لكونه دالاً على معنى العلم منزلة من له العلم فجمع بالواو والنون كما في : { أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] { وَرَأَيْتَهُمْ لي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] وقيل : هو اسم جمع على وزن السلامة ولا نظير له ، وفيه نظر لأن الاسم الدال على أكثر من اثنين إن كان موضوعاً للآحاد المجتمعة دالاً عليها دلالة تكرار الواحد بالعطف فهو الجمع ، وإن كان موضوعاً للحقيقة ملغى فيه اعتبار الفردية فهو اسم الجنس الجمعي كتمر وتمرة ، وإن كان موضوعاً لمجموع الآحاد فهو اسم جمع سواء كان له واحد كركب أو لا كرهط فانظر أي التعريفات صادقة عليه وفي الكشف لو قيل عالم وعالمون كعرفة وعرفات لم يبعد ، وفيه أنه أبعد بعيد لأنه قياس فيما يعرف بالسماع على أن للعالمين آحاداً يسمى كل منها عالماً فلا مرية في كونه جمعاً له بخلاف عرفات فإنه ليس لها آحاد كل منها عرفة .

والعالم كالخاتم اسم لما يعلم به وغلب فيما يعلم به الخالق تعالى شأنه وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، ويطلق على مجموع الأجناس وهو الشائع كما يطلق على واحد منها فصاعداً فكأنه اسم للقدر المشترك وإلا يلزم الاشتراك أو الحقيقة والمجاز والأصل نفيهما ، ولا يطلق على فرد منها فلا يقال عالم زيد كما يقال عالم الإنسان ولعله ليس إلا باعتبار الغلبة والاصطلاح ، وأما باعتبار الأصل فلا ريب في صحة الإطلاق قطعاً لتحقق المصداق حتماً فإنه كما يستدل على الله سبحانه وتعالى بمجموع ما سواه وبكل جنس من أجناسه يستدل عليه تعالى بكل جزء من أجزاء ذلك المجموع وبكل فرد من أفراد تلك الأجناس لتحقق الحاجة إلى المؤثر الواجب لذاته في الكل فإن كل ما ظهر في المظاهر مما عز وهان وحضر في هذه المحاضر كائناً ما كان لإمكانه وافتقاره دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى عالم التوحيد :

فيا عجباً كيف يعصي الإل*** ه أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية*** تدل على أنه واحد

وإنما أتى الرب سبحانه بالجمع المعرف لأنه لو أفرد وعرف بلام الاستغراق لم يكن نصاً فيه لاحتمال العهد بأن يكون إشارة إلى هذا العالم المحسوس ؛ لأن العالم وإن كان موضوعاً للقدر المشترك إلا أنه شاع استعماله بمعنى المجموع كالوجود في الوجود الخارجي وقد غلب استعماله في العرف بهذا المعنى في العالم المحسوس لإلف النفس بالمحسوسات فجمع ليفيد الشمول قطعاً لأنه حينئذٍ لا يكون مستعملاً في المجموع حتى يتبادر منه هذا العالم المحسوس فيكون مستعملاً في كل جنس ؛ إذ لا ثالث فيكون المعنى رب كل جنس سمي بالعالم والتربية للأجناس إنما تتعلق باعتبار أفرادها فيفيد شمول آحاد الأجناس المخلوقة كلها نظراً إلى الحكم ، وحديث أن استغراق المفرد( {[93]} ) أشمل على ما فيه أمر فرغ عنه ولا ضرر لنا منه كما لا يخفى على المتأمل .

وبعضهم خص { العالمين } بذوي العلم من الملائكة والثقلين ورب أشرف الموجودات رب غيرهم قال الإمام الأسيوطي : وعليه هو مشتق من العلم وعلى القول بالعموم من العلامة ، وفيه أن الكل في كل محتمل والتخصيص دعوى من غير دليل وقيل هم الجن والإنس لقوله تعالى : { لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] وقيل هم الإنس لقوله تعالى : { أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين } [ الشعراء : 165 ] وهو المنقول عن جعفر الصادق والمأخوذ من بحر أهل البيت ورب البيت أدرى . ولعل الوجه فيه الإشارة إلى أن الإنسان هو المقصود بالذات من التكليف بالحلال والحرام وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ولأنه فذلكة جميع الموجودات ونسخة جميع الكائنات المنقولة من اللوح الرباني بالقلم الرحماني ، ومن هذا الباب ما نسب لباب مدينة العلم كرم الله وجهه :

دواؤك فيك وما تبصر*** وداؤك منك وما تشعر

وتزعم أنك جرم صغير*** وفيك انطوى العالم الأكبر

ومن تأمل في ذاته وتفكر في صفاته ظهرت له عظمة باريه وآيات مبديه { وَفِى الأرض ءايات لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 0 2 ، 1 2 ] بل من عرف نفسه فقد عرف ربه والمناسب للمقام هنا العموم والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام { وَلَوْ أَنَّمَا في الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } [ لقمان : 7 2 ] وروي في بعض الأخبار «أن الله تعالى خلق مائة ألف قنديل وعلقها بالعرش والسموات والأرض وما فيهن حتى الجنة والنار في قنديل واحد ولا يعلم ما في باقي القناديل إلا الله تعالى » . وقال كعب الأحبار : لا يحصي عدد العالمين إلا الله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 1 3 ] وما من ذرة من ذرات العوالم إلا وهي في حيطة تربيته سبحانه بل ما من شيء مما أحاط به نطاق الإمكان والوجود من العلويات والسفليات والمجردات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو في حد ذاته بحيث لو فرض انقطاع آثار التربية عنه آناً واحداً لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم ومهاوي البوار ، لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي ، وكل آن يمر وينقضي من فنون الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وصفاته وكمالاته ما لا يحيط بذلك فلك التعبير ولا يعلمه إلا اللطيف الخبير ؛ ضرورة أنه كما لا يستحق شيء من الممكنات بذاته الوجود ابتداءً لا يستحقه بقاء ، وإنما ذلك من جناب المبدأ الأول عز وعلا فكما لا يتصور وجوده ابتداءً ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارئ ؛ لما أن الدوام من خصائص الوجود الواجبي ، وظاهر أن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن كانت متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده وهي المعبر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية يتوقف وجوده أو بقاؤه على ارتفاعها أي بقائها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها ، فإبقاء تلك الموانع التي لا تتناهى على العدم تربية لذلك الشيء من وجوه غير متناهية ، وبالجملة آثار تربيته تعالى واضحة المنار ساطعة الأنوار فسبحانه من رب لا يضاهي ومنان لا يحصي كرمه ولا يتناهى ونحن في تيار بحر جوده سابحون وعن إقامة مراسم شكره قاصرون ، وما أحسن قول بعض العارفين أنه تعالى يملك عباداً غيرك وأنت ليس لك رب سواه ثم إنك تتساهل في خدمته والقيام في وظائف طاعته كأن لك رباً بل أرباباً غيره وهو سبحانه يعتني بتربيتك حتى كأنه لا عبد له سواك فسبحانه ما أتم تربيته وأعظم رحمته ، وإنما كان الجمع بالواو والنون مع أنه في المشهور جمع قلة والظاهر مستدع لجمع الكثرة تنبيهاً على أن العوالم وإن كثرت قليلة بل أقل من القليل في جنب عظمة الله تعالى وكبريائه :{ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 7 6 ] على أن جمع القلة كثيراً ما يوصله المقام إلى جمع الكثرة على أن بعض المحققين المحقين من أرباب العربية ذهب إلى أن الجمع المذكر السالم صالح للقلة والكثرة فاختر لنفسك ما يحلو .

وقد أشار سبحانه وتعالى بقوله : { رَبّ العالمين } إلى حضرة الربوبية التي هي مقام العارفين وهي اسم للمرتبة المقتضية للأسماء التي تطلب الموجودات فدخل تحتها العليم والسميع والبصير والقيوم والمريد والملك وما أشبه ذلك ؛ لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات يطلب ما يقع عليه فالعليم يقتضي معلوماً والقادر مقدوراً والمريد مراداً إلى غير ذلك والأسماء التي تحت اسم الرب هي الأسماء المشتركة بين الحق والخلق والأسماء المختصة بالخلق اختصاصاً تأثيرياً فمن القسم الأول : العليم مثلاً فإن له وجهين وجه يختص بالجناب الإلهي ومنه يقال : يعلم نفسه ووجه ينظر إلى المخلوقات ومنه يقال : يعلم غيره ومن القسم الثاني : الخالق ونحوه من الأسماء الفعلية فله وجه واحد ومنه يقال : خالق للموجودات ولا يقال : خالق لنفسه ، تعالى عن ذلك وهذا القسم من الأسماء تحت اسمه الملك ومنه يظهر الفرق بينه وبين الرب ، وأما الفرق بين الرب والرحمن فهو أن الرحمن عندهم اسم لمرتبة اختصت بجميع الأوصاف العلية الإلهية سواء انفردت الذات به كالعظيم والفرد أو حصل الاشتراك أو الاختصاص بالخلق كالقسمين المتقدمين فهو أكثر شمولاً من الرب ومن مرتبة الربوبية ينظر الرحمن إلى الموجودات وأما اسمه تعالى الله : فهو اسم لمرتبة ذاتية جامعة وفلك محيط بالحقائق وهو مشير إلى الألوهية التي هي أعلى المراتب وهي التي تعطي كل ذي حق حقه وتحتها الأحدية وتحتها الواحدية وتحتها الرحمانية وتحتها الربوبية وتحتها الملكية ولهذا كان اسمه الله أعلى الأسماء وأعلى من اسمه الأحد فالأحدية أخص مظاهر الذات لنفسها والألوهية أفضل مظاهر الذات لنفسها أو لغيرها ومن ثم منع أهل الله تعالى تجلي الأحدية ولم يمنعوا تجلي الألوهية لأن الأحدية ذات محض لا ظهور لصفة فيها فضلاً عن أن يظهر فيها مخلوق فما هي إلا للقديم القائم بذاته .

ومما قررنا يعلم سر كثرة افتتاح العبد دعاءه بيارب يا رب مع أنه تعالى ما عين هذا الاسم الكريم في الدعاء ونفى ما سواه بل قال سبحانه : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } [ الإسراء : 0 11 ] وقال : { وَللَّهِ الأسماء الحسنى فادعوه بِهَا } [ الأعراف : 0 18 ] وقال أرباب الظاهر : الداعي لا يطلب إلا ما يظنه صلاحاً لحاله وتربية لنفسه فناسب أن يدعوه بهذا الاسم ونداء المربي في الشاهد بوصف التربية أقرب لدر ثدي الإجابة وأقوى لتحريك عرق الرحمة ، وعند ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يختلف الكلام باختلاف المقام فرقاً وجمعاً ، وعندي وهو قبس من أنوارهم أن الأرواح أول ما شنفت آذانها وعطرت أردانها بسماع وصف الربوبية كما يشعر بذلك قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 2 17 ] فهم ينادونه سبحانه بأول اسم قررهم به فأقروا وأخذ به عليهم العهد فاستقاموا واستقروا فهو حبيبهم الأول ومفزعهم إذا أشكل الأمر وأعضل :

تركت هوى سعدى وليلى بمعزل *** وعدت إلى مصحوب أول منزل

ونادتني الأهواء مهلاً فهذه *** منازل من تهوى رويدك فانزل

وقريب من هذا ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره الأنور مما حاصله : أن الله تعالى لما أوجد الكلمة المعبر عنها بالروح الكلي إيجاد إبداع وأعماه عن رؤية نفسه ، فبقي لا يعرف من أين صدر ولا كيف صدر فحرك همته لطلب ما عنده ولا يدري أنه عنده :

قد يرحل المرء لمطلوبه *** والسبب المطلوب في الراحل

{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 61 ] فأخذ في الرحلة بهمته فأشهده الحق ذاته ، فعلم ما أودع الله تعالى فيه من الأسرار والحكم وتحقق عنده حدوثه وعرف ذاته معرفة إحاطية فكانت تلك المعرفة غذاء معيناً يتقوت به وتدوم حياته فقال له عند ذلك التجلي الأقدس ما اسمي عندك ؟ فقال : أنت ربي فلم يعرفه إلا في حضرة الربوبية وتفرد القديم بالألوهية فإنه لا يعرفه إلا هو فقال له سبحانه أنت مربوبي وأنا ربك أعطيتك أسمائي وصفاتي ، ولا يحصل لك العلم إلا من حيث الوجود ، ولو أحطت علماً بي لكنت أنت أنا ولكنت محاطاً لك وأمدك بالأسرار الإلهية وأربيك بها فتجدها مجعولة فيك فتعرفها ، وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بها إذ لا طاقة لك أن تحمل مشاهدتها إذ لو عرفتها لا تحدت الانية وأين المركب من البسيط ، ولا سبيل إلى قلب الحقائق إلى آخر ما قال ، ويعلم منه إشارة سر افتتاح الأوصاف في الفاتحة برب العالمين ، وفيه أيضاً مناسبة لحال البعثة وإرساله صلى الله عليه وسلم إلى من أرسل إليه ؛ لأن ذلك أعظم تربية للعباد ورمز خفي إلى طلب الشفقة والرأفة بالخلق كيف كانوا لأن الله تعالى ربهم أجمعين .

داريت أهلك في هواك وهم عدا*** ولأجل عين ألف عين تكرم

وقد قرئ ( رب العالمين ) بالنصب ونسب ذلك إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ، وقد اختلف في توجيهه فقيل نصب على القطع ويقدر العامل هنا أمدح للمقام أو أذكر لا أعني لأن ذلك إذا لم يكن المنعوت متعيناً كما في شرح «العمدة » وضعف بالاتباع بعد القطع في النعت وأجيب بأن الرحمن بدل لا نعت ،

وروي أنه قرئ بنصب ( الرحمن الرحيم ) فلا ضعف حينئذ ، وقيل بفعل مقدر دل عليه الحمد وليس على التوهم كما توهم أبو حيان فضعفه بزعمه أنه من خصائص العطف ، وقيل بالحمد المذكور ، واعترض بأن فيه إعمال المصدر المحلى باللام ، وبأنه يلزم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر الأجنبي ، وأجيب عن الأول بأن سيبويه وهو هو جوز إعمال المحلى مطلقاً والظرف تكفيه رائحة الفعل نعم منعه الكوفيون مطلقاً وجوزه على قبح الفارسي وبعض البصريين وفصل البعض بين ما تعاقب أل فيه الضمير فيجوز ومالا فلا ، وعن الثاني بأن هذا الخبر كان معمولاً لهذا المبتدأ في موضع المفعول كما تقول حمداً له فليس بأجنبي صرف على أن المبتدأ والخبر لاتحادهما معنى كشيء واحد فلا أجنبي .

وحكي عن بعض النحاة جواز الإعمال مطلقاً ، وقيل بالنداء ، ولا يخفى ما فيه من اللبس والفصل والالتفات الذي لا يكاد لخلوه عما يأتي إن شاء الله تعالى يلتفت إليه ، وقيل رب فعل ماض ، وفيه أن أمره مضارع في البعد لما تقدم ، وأن الجملة لا تكون صفة والحالية غير حسنة الحال مع أنه قرئ بنصب ما بعد والمناسب المناسبة ، وأهون الأمور عندي أولها بل يكاد يقطع الظاهر بالقطع .


[77]:لموازين المياه وغيرها من موازين الحكمة اهـ منه.
[78]:قال الشكر هو الثناء على المحسن اهـ منه.
[79]:والحديث الآتي أيضا فيه دلالة على هذا فافهم اهـ منه.
[80]:فعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم سأل ربه فقال يا رب ما جزاء من حمدك؟ قال الحمد مفتاح الشكر والشكر يعرج به إلى رب العرش رب العالمين قال فما جزاء من سبحك؟ قال لا يعلم تأويل التسبيح إلا رب العالمين" اهـ منه.
[81]:فعن محمد بن النصر قال قال آدم عليه السلام: يا رب شغلتني بكسب يدي فعلمني شيئا فيه مجامع الحمد والتسبيح فأوحى الله تبارك وتعالى إليه إذا أصبحت فقل ثلاثا وإذا أمسيت فقل ثلاثا الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده فذلك مجامع الحمد والتسبيح اهـ منه.
[82]:المعروف في كتب اللغة نغص.
[83]:وهو ترك العاطف اهـ منه.
[84]:فإنه قال: وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه وتعالى _إلى قوله_ دليل على أن من كانت هذه صافته لم يكن أحق منه بالحمد اهـ منه.
[85]:فإنه قال في بحث الحال من الدلائل زق لطيف تمس الحاجة في علم البلاغة إليه، بيانه أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئا فشيئا، وأما الفعل فموضوعه على أن يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئا بعد شيء فإذا قلت زيد منطلق فقد أثبت الانطلاق فعلا له من غير أن تجعله يتجدد ويحدث منه شيئا فشيئا بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك زيد طويل وعمرو قصير، فكما لا تقصد ههنا إلى أن تجعل الطول والقصر يتجدد وبحدث بل توجيهما وتثبتهما فقط وتقضى بوجودهما على الإطلاق كذلك لا يتعرض في قولك زيد منطلق لأكثر من إثباته لزيد، وأما الفعل فإنك تقصد فيه إلى ذلك، فإن قلت زيد ينطلق فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً فجزءاً وجعلته يزاوله ويوجبه اهـ فليحفظ اهـ منه. يقول مصححه محمد منير الدمشقي: فتشت في كتاب الدلائل في بحث الحال فلم أجد هذا الكلام هناك ولعله سقط من النسخة المطبوعة.
[86]:وقال الزمخشري إنه خبر عدل به عن الأمر كما في حواشي البيضاوي للإمام السيوطي اهـ منه.
[87]:المجيب محيي الدين الكافيجي اهـ منه.
[88]:فإن للحمد معنيين مشهورين لغوي وعرفي وعلى كلا التقديرين إما إن يراد المعنى المبني للفاعل أو المعنى المبني للمفعول أو الحاصل بالمصدر، ويجوز أن يراد ما يطلق عليه لفظ الحمد ليعم الكل ولام التعريف يحتمل أن يكون للاستغراق وأن يكون للجنس وأن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى الفرد الكامل ولام لله يحتمل أن يكون لاختصاص الصفة بالموصوف وأن يكون لاختصاص المتعلق بالمتعلق، فهناك اثنان وأربعون احتمالا حاصلة من ضرب الثلاثة في اثنين أولا وضرب الثلاثة في سبعة ثانيا وضرب الاثنين في أحد وعشرين ثالثا فتأمل اهـ منه.
[89]:وقيل أصله رباه تربية فجعلت الباء ياء اهـ منه.
[90]:ولا يضر إطلاق الجمع ففي التنزيل (أأرباب متفرقون) إذ لا اشتباه اهـ منه.
[91]:والخياران اسم بلدين اهـ منه.
[92]:قل هذا الحديث منسوخ فافهم اهـ منه.
[93]:قال الطيبي: فإن قلت ليس هذا مخالفا لقولهم: الاستغراق في المفرد أشمل، قلت: لا لأنهم يريدون أن الجمع قد يحتمل غير الشمول في بعض المقامات، والمفرد وإن دل على الشمول والاستغراق لكن الغرض استغراق الأجناس المختلفة فلو أفرد وقيل رب العالم لاحتمل الاستغراق شمول أفراد كل ما يصح عليه إطلاق اسم العالم فلا يعلم نصوصية تعدد الأجناس وكثرتها كالجن والإنس والملائكة وغيرها كما يعلم من الجمعية فجمع ليشمل المعنى اهـ منه.