الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (2)

قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ }

. . . على نفسه ، نعيماً منه على خلقه . ولفظه خبر ومعناه أمر ، تقريره : قولوا : الحمد لله . قال ابن عباس : يعني : الشكر منه ، وهو من الحمد . . . . والحمد لله نقيض الذم . وقال ابن الأنباري : هو مقلوب عن المدح كقوله : جبل وجلب ، و : بض وضبّ .

واختلف العلماء في الفرق بين الحمد والشكر ، فقال بعضهم : الحمد : الثناء على الرجل بما فيه من الخصال الحميدة ، تقول : حمدت الرجل ، إذا أثنيت عليه بكرم أو [ حلم ] أو شجاعة أو سخاوة ، ونحو ذلك . والشكر له : الثناء عليه أو لآله .

فالحمد : الثناء عليه بما هو به ، والشكر : الثناء عليه بما هو منه .

وقد يوضع الحمد موضع الشكر ، فيقال : حمدته على معروفه عندي ، كما يقال : شكرته ، ولا يوضع الشكر موضع الحمد ، [ ف ] لا يقال : شكرته على علمه وحلمه .

والحمد أعمّ من الشكر ؛ لذلك ذكره الله فأمر به ، فمعنى الآية : الحمد لله على صفاته العليا وأسمائه الحسنى ، وعلى جميع صنعه وإحسانه إلى خلقه .

وقيل : الحمد باللسان قولاً ، قال الله :

{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } [ الإسراء : 111 ] ، وقال :

{ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } [ النمل : 59 ] والشكر بالأركان فعلاً ، قال الله تعالى :

{ اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] .

وقيل : الحمد لله على ما حبا وهو النعماء ، والشكر على ما زوى وهو اللأواء .

وقيل : الحمد لله على النعماء الظاهرة ، والشكر على النعماء الباطنة ، قال الله تعالى :

{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [ لقمان : 20 ] .

وقيل : الحمد ابتداء والشكر . . . .

حدّثنا الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري لفظاً ، حدّثنا إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي ، حدّثنا محمد بن علي الترمذي ، حدّثنا عبد الله بن العباس الهاشمي ، حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو ( بن العاص ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده " .

وحدّثنا الحسن بن محمد ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن هارون الفقيه ، حدّثنا عبد الله بن محمود السعدي ، حدّثنا علي بن حجر ، حدّثنا شعيب بن صفوان عن مفضّل بن فضالة عن علي بن يزيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه سئل عن { الحمد لله } قال : كلمة شكر أهل الجنة .

في إعراب { الْحَمْدُ للَّهِ }

وقد اختلف القرّاء في قوله : { الْحَمْدُ للَّهِ } ، فقرأت العامّة بضمّ الدال على الابتداء ، وخبره فيما بعده . وقيل : على التقديم والتأخير ، أي لله الحمد .

وقيل : على الحكاية . وقرأ هارون بن موسى الأعور ورؤبة بن العجاج بنصب الدال على الإضمار ، أي أحمد الحمد ؛ لأن الحمد مصدر لا يثنّى ولا يجمع . وقرأ الحسن البصري بكسر الدال ، أتبع الكسرة الكسرة . وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة الشامي بضم الدال واللام ، أتبع الضمة الضمّة .

{ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قرأ زيد بن علي : { رَبَّ الْعَالَمِينَ } بالنصب على المدح ، وقال أبو سعيد ابن أوس الأنصاري : على معنى أحمد ربّ العالمين . وقرأ الباقون { رَبِّ الْعَالَمِينَ } بكسر الباء ، أي خالق الخلق أجمعين ومبدئهم ومالكهم والقائم بأمورهم ، والرب بمعنى السيّد ، قال الله تعالى :

{ اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } [ يوسف : 42 ] أي سيّدك ، قال الأعشى :

واهلكن يوماً ربّ كندة وابنه *** وربّ معبين خبت وعرعر

وربّ عمر والرومي من رأس حضية *** وأنزلن بالأسباب رب المشقرة

يعني : رئيسها وسيّدها .

ويكون بمعنى المالك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أربُّ إبل أنت أم رب غنم ؟ " . فقال : من كل قد آتاني الله فأكثر وأطنب " وقال طرفة :

كقنطرة الرومي أقسم ربها *** لتكتنفنّ حتى تشاد بقرمد

وقال النابغة :

وإن يك ربّ أذواد فحسبي *** أصابوا من لقائك ما أصابوا

ويكون بمعنى الصاحب ، قال أبو ذؤيب :

فدنا له رب الكلاب بكفّه *** بيض رهاب ريشهن مقزع

ويكون بمعنى المرعى ، يقول : ربّ يربّ ربابة وربوباً ، فهو ربّ ، مثل برّ وطب ، قال الشاعر :

يربّ الذي يأتي من العرف إنه *** إذا سئل المعروف زاد وتمّما

ويكون بمعنى المصلح للشيء ، قال الشاعر :

كانوا كسالئة حمقاء إذحقنت *** سلاءها في أديم غير مربوب

أي غير مصلح .

وقال الحسين بن الفضل : الرب : اللبث من غير إثبات أحد ، يقال : ربّ بالمكان وأربّ ، ولبث وألبث إذا أقام وفي الحديث أنه كان يتعوّذ بالله من فقر ضرب أو قلب قال الشاعر :

ربّ بأرض تخطّاها الغنم لب بأرض ما تخطاها الغنم

وهو الاختيار ؛ لأن المتكلمين أجمعوا على أنّ الله لم يزل ربّاً وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبي يقول : سئل أبو بكر محمد بن موسى الواسطي عن الرب ، فقال : هو الخالق ابتداءً ، والمربي غذاءً ، والغافر انتهاءً . ولا يقال للمخلوق : هو الرب ، معرّفاً بالألف واللام ، وإنما يقال على الإضافة : هو رب كذا ؛ لأنه لا يملك الكل غير الله ، والألف واللام تدلاّن على العموم . وأمّا العالمون فهم جمع عالَم ، ولا واحد له من لفظه ، كالأنام والرهط والجيش ونحوها .

واختلفوا في معناه ، حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن ، أخبرنا أبو إسحاق بن أسعد بن الحسن بن سفيان عن جدّه عن أبي نصر ليث بن مقاتل عن أبي معاذ الفضل بن خالد عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم عن الربيع بن أنس عن شهر بن حوشب عن أبي بن كعب قال : العالمون هم الملائكة ، وهم ثمانية عشر ألف ملكاً منهم أربعة آلاف وخمسمائة ملك بالمشرق ، وأربعة آلاف وخمسمائة ملك بالمغرب ، وأربعة آلاف وخمسمائة ملك بالكهف الثالث من الدنيا ، وأربعة آلاف وخمسمائة ملك في الكهف الرابع من الدنيا ، مع كل ملك من الأعوان ما لا يعلم عددهم إلاّ الله عزّ وجلّ ومن ورائهم أرض بيضاء كالرخام .

. . . مسير الشمس أربعين يوماً ، طولها لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ مملوءة ملائكة يقال لهم الروحانيون ، لهم زجل بالتسبيح والتهليل ، لو كشف عن صوت أحدهم لهلك أهل الأرض من هول صوته فهم العالمون ، منتهاهم إلى حملة العرش .

وقال أبو معاذ [ النحوي ] : هم بنو آدم .

وقال أبو هيثم خالد بن يزيد : هم الجن والإنس ؛ لقوله تعالى :

{ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] ، وهي رواية عطية العوفي وسعيد بن جبير عن ابن عباس .

وقال الحسين بن الفضل : العالمون : الناس ، واحتجّ بقوله تعالى :

{ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 165 ] .

وقال العجاج : بخلاف هذا العالم .

وقال الفراء وأبو عبيدة : هو عبارة عمن يعقل ، وهم أربع أمم : الملائكة ، والجن ، والإنس ، والشياطين ، لا يقال للبهائم : عالم . وهو مشتق من العلم ، قال الشاعر :

ما إن سمعت بمثلهم في العالمينا

وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : هم أهل التنزيه من الخلق . وقال عبد الرَّحْمن بن زيد ابن أسلم : هم المرتزقون . وقال الخضر بن إسماعيل : هو اسم الجمع الكثير ، قال ابن الزبعري :

إني وجدتك يا محمد عصمة *** للعالمين من العذاب الكارث

وقال أبو عمرو بن العلاء : هم الروحانيون . وهو معنى قول ابن عباس : كل ذي روح دبّ على وجه الأرض . وقال سفيان بن عيينة : هو جمع للأشياء المختلفة .

وقال جعفر بن محمد الصادق : " العالمون : أهل الجنة وأهل النار " . وقال الحسن وقتادة ومجاهد : هو عبارة عن جميع المخلوقات ، واحتجوا بقوله :

{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } [ الشعراء : 23 - 24 ] .

واشتقاقه على هذا القول من ( العلم ) و ( العلامة ) ؛ لظهورهم ولظهور أثر الصنعة فيهم ثم اختلفوا في مبلغ العالمين وكيفيتهم ، فقال سعيد بن المسيب : لله ألف عالم ؛ منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر . وقال الضحاك : فمنهم ثلاثمائة وستون عالماً حفاة عراة لا يعرفون مَن خالقهم ، وستون عالماً يلبسون الثياب . وقال وهب : لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم ، الدنيا عالم منها ، وما العمارة في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء . وقال أبو سعيد الخدري : إن لله أربعين ألف عالم ، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد . وقال أبو القاسم مقاتل بن حيان : العالمون ثمانون ألف عالم ؛ أربعون ألفاً في البرّ وأربعون ألفاً في البحر . وقال مقاتل بن سليمان : لو فسّرت { الْعَالَمِينَ } ، لاحتجت إلى ألف جلد كل جلد ألف ورقة . وقال كعب الأحبار : لا يحصي عدد العالمين إلاّ الله ، قال الله :

{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدّثر : 31 ] .