إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (2)

[ تفسير الحمد لله ]

{ الحمد للَّهِ } الحمد هو : النعتُ بالجميل على الجميل ، اختيارياً كان أو مبدأً له ، على وجه يُشْعِرُ بتوجيهه إلى المنعوت وبهذه الحيثية يمتازُ عن المدحِ ، فإنَّهُ خالٍ عنها ، يرشدك إلى ذلك ما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول في قولك : حمدته ومدحته ، فإن تعلق الثاني بمفعوله على منهاج تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها ، وأما الأولُ فتعلقه بمفعوله مُنْبئ عن معنى الإنهاء ، كما في قولك : كَلَّمْتُه ، فإنه مُعْرَبٌ عما تفيده لام التبليغ في قولك : قلتُ له ، ونظيرُه شَكَرْتُه وعبدتُه وخدمتُه ، فإن تعلّق كلَ منها منبئ عن المعنى المذكور ، وتحقيقُه : أن مفعول كلِّ فعلٍ في الحقيقة هو الحدث الصادرُ عن فاعله ولا يُتصور في كيفية تعلق الفعل به - أيَّ فعل كان - اختلافٌ أصلاً . وأما المفعولُ به الذي هو محلُّه وموقِعُه ، فلما كان تعلقه به ووقوعُه عليه على أنحاءَ مختلفةٍ حسبما تقتضيه خصوصياتُ الأفعال بحسب معانيها المختلفة ، فإن بعضها يقتضي أن يلابسه ملابسةً تامَّةً مؤثرة فيه كعامة الأفعال ، وبعضها يستدعي أن يلابسَه أدنى ملابسة .

إما بالانتهاء إليه كالإعانة مثلاً ، أو بالابتداءِ منه كالاستعانة مثلاً ، اعتبر في كل نحو من أنحاءِ تعلّقِه به كيفية لائقةٌ بذلك النحو ، مغايرةٌ لما اعتبر في النحْوَيْنِ الأخيرين .

فنظمُ القسمِ الأول من التعلق في سلك التعلقِ بالمفعولِ الحقيقي مراعاةً لقوة الملابسة ، وجَعْلُ كلّ واحدٍ من القسمين الأخيرين من قبيل التعلق بواسطة الجارّ المناسب له ، فإن قولَكَ أعنتُه مشعرٌ بانتهاء الإعانةِ إليه ، وقولك استعنتُه بابتدائها منه ، وقد يكون لفعلٍ واحدٍ مفعولان يتعلق بأحدهما على الكيفية الأولى ، وبالآخَرِ على الثانية أو الثالثة ، كما في قولك حدثني الحديث ، وسألني المالَ ، فإن التحديثَ مع كونه فعلاً واحداً قد تعلّقَ بك على الكيفية الثانية ، وبالحديث على الأولى ، وكذا السؤال فإنه فعل واحد ، وقد تعلّق بك على الكيفية الثانية وبالمال على الأولى .

ولا ريب في أن اختلافَ هذه الكيفيات الثلاثِ وتبايُنَها واختصاصَ كلّ من المفاعيلِ المذكورةِ بما نُسِبَ إليه منها مما لا يُتصور فيه تردُّدٌ ولا نَكيرٌ وإن كان لا يتضحُ حقَّ الاتضاح إلا عند الترجمة والتفسير ، وأن مدارَ ذلك الاختلاف ليس إلا اختلافَ الفعل أو اختلاف المفعول ، وإذ لا اختلاف في مفعول الحمد والمدح تَعَيَّنَ أن اختلافهما في كيفيةِ التعلق ، لاختلافهما في المعنى قطعاً . هذا وقد قيلَ : المدحُ مطلقٌ عن قيدِ الاختيار ، يُقال : مدحتُ زيداً على حُسْنِهِ ورشاقةِ قَدِّهِ ، وأيًّا ما كان فليس بينهما ترادفٌ ، بل أُخوّةٌ من جهةِ الاشتقاق الكبير ، وتناسبٌ تام في المعنى كالنصر والتأييد فإنهما يتناسبان معنىً من غير ترادفٍ لما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول ، وإنما مرادفُ النصر الإعانة ، ومرادف التأييد التقوية ، فتدبر .

ثم إن ما ذُكِرَ من التفسير هو المشهورُ من معنى الحمد ، واللائقُ بالإرادة في مقام التعظيم ، وأما ما ذُكِرَ في كُتُبِ اللغةِ من معنى الرضى مطلقاً كما في قوله تعالى : { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } [ الإسراء ، الآية : 79 ] وفي قولهم : لهذا الأمر عاقبةٌ حميدةٌ ، وفي قول الأطباء : بُحْرَانٌ محمود ، مما لا يختص بالفاعل فضلاً عن الاختيار فبمعزل عن استحقاق الإرادة هاهنا استقلالاً ، أو استتباعاً بحملِ الحمدِ على ما يعم المعنيين ، إذ ليس في إثباته له عز وجل فائدةٌ يُعْتَدُ بها . وأما الشكْرُ فهو مقابلة النعمة بالثناء وإدآب الجوارح ، وعقدُ القلبِ على وصفِ المنعم بنعت الكمال كما قال من قال :

أفادتكم النَّعْمَاءُ مني ثلاثة *** يدي ولساني والضميرَ المُحجبا

فإذن هو أعمُّ منهما من جهة ، وأخص من أخرى . ونقيضُهُ الكفران ، ولما كان الحمد من بين شُعَبِ الشكر أَدْخَلَ في إشاعةِ النعمةِ والاعتدادِ بشأنِها ، وأدلَّ على مكانها لِما في عمل القلب من الخفاء ، وفي أعمال الجوارحِ من الاحتمال ، جُعِلَ الحمدُ رأسَ الشكر ، ومِلاكاً لأمره في قوله عليه السلام : « الحمدُ رأسُ الشُّكرِ ، ما شكرَ الله عبدٌ لم يحمدْهُ »

وارتفاعُهُ بالابتداء ، وخبرُه الظرف ، وأصلُه النَصْبُ كما هو شأن المصادر المنصوبة بأفعالها المُضمرة التي لا تكاد تُستعمل معها ، نحو شُكراً وعجباً ، كأنه قيل : نحمد الله حمداً بنون الحكاية ، ليوافق ما في قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة ، الآية : 5 ] لاتحاد الفاعل في الكل ، وأما ما قيل من أنه بيانٌ لحمدِهم له تعالى ، كأنَّهُ قيل : كيف تحمَدون ؟ فقيل : إياكَ نعبد فمع أنه لا حاجةَ إليه مما لا صحةَ له في نفسِهِ ، فإنَّ السؤالَ المقدرَ لا بدَّ أنْ يكون بحيثُ يقتضيهِ انتظامُ الكلامِ وتنساقُ إليه الأذهانُ والأفهامُ ، ولا ريبَ في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفيةِ اللائقةِ لا يَخْطُرُ ببالِ أحدٍ أن يسألَ عن كيفيتهِ على أنَّ ما قُدِرَ من السؤال غيرُ مطابقٍ للجواب ، فإنه مسوقٌ لتعيين المعبود ، لا لبيان العبادة ، حتى يُتَوَهم كونُه بياناً لحمدهم والاعتذارُ بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفيةُ الحمد تعكيسٌ للأمرِ ، وتَمَحّلٌ لتوفيق المُنَّزَل المقرَّرِ بالموهومِ المُقدّر .

وبعدَ اللُّتَيا والتي إنْ فُرِضَ السؤال من جهتِهِ عز وجل فأتَتْ نُكْتَة الالتفاتِ التي أجمع عليها السلف والخلف ، وإن فُرِضَ من جهةِ الغيرِ يختلُ النظام لابتناءِ الجوابِ على خطابِهِ تعالى ، وبهذا يتضحُ فسادَ ما قيل : إنه استئنافٌ جواباً لسؤال يقتضيه إجراءُ تلك الصفات العظامِ على الموصوف بها ، فكأنه قيل : ما شأنُكم معه وكيف توجُّهكم إليه ، فأجيب بحصْر العبادة والاستعانة فيه ، فإن تناسِيَ جانبِ السائل بالكلية وبناءَ الجواب على خِطابه عز وعلا مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله .

والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أنَّهُ استئنافٌ صدرَ عن الحامد بمحضِ ملاحظةِ اتصافِهِ تعالى بما ذُكِرَ من النعوت الجليلةِ الموجبة للإقبال الكليّ عليه ، من غير أن يتوسط هناك شيء آخرُ كما ستحيط به خُبرا ، وإيثارُ الرفعِ على النصب الذي هو الأصلُ للإيذان بأن ثبوتَ الحمد له تعالى لذاته لا لإثبات مُثبت ، وأن ذلك أمرٌ دائمٌ مستمرٌ لا حادثٌ متجددٌ كما تفيده قراءةُ النصب ، وهو السر في كون تحية الخليل للملائكة عليهم التحيةُ والسلام أحسنَ من تحيتهم له في قوله تعالى : { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } [ هود ، الآية 69 ] وتعريفُه للجنس ، ومعناه الإشارةُ إلى الحقيقة من حيث هي حاضرةٌ في ذهن السامع ، والمراد تخصيصُ حقيقةِ الحمدِ به تعالى المستدعي لتخصيص جميعِ أفرادِها به سبحانه على الطريق البرهاني ، لكن لا بناءً على أن أفعال العبادِ مخلوقةٌ له تعالى ، فتكونَ الأفرادُ الواقعة بمقابلة ما صدر عنه من الأفعال الجميلة راجعةً إليه تعالى ، بل بناءً على تنزيل تلك الأفراد ودواعيها في المقام الخطابيّ منزلةَ العدم كيفاً وكماً .

وقد قيل : للاستغراق الحاصل بالقصد إلى الحقيقة من حيث تحققُها في ضمن جميع أفرادها ، حسبما يقتضيه المقام ، وقرئ : الحمدُ لُلَّهِ بكسر الدال إتباعاً لها باللام ، وبضم اللام إتباعاً لها بالدال ، بناء على تنزيل الكلمتين لكثرة استعمالهما مقترنتين منزلة كلمةٍ واحدة ، مثل المِغِيرة ومُنْحَدُرُ الجبل .

[ تفسير رب العالمين ]

{ رَبّ العالمين } بالجر على أنه صفة لله ، فإن إضافته حقيقيةً مفيدةٌ للتعريف على كل حال ، ضرورةَ تعيُّن إرادة الاستمرار ، وقرئ منصوباً على المدح ، أو بما دلت عليه الجملةُ السابقة ، كأنه قيل : نحمد الله ربَّ العالمين ولا مساغَ لنصبه بالحمد لقلة أعمال المصدر المُحلى باللام ، وللزوم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر ، والرب : في الأصل مصدرٌ بمعنى التربية وهي تبليغُ الشيءِ إلى كماله شيئاً فشيئاً ، وُصف به الفاعل مبالغةً كالعدل .

وقيل : صفة مشبهة ، من ربَّه يرُبُّه ، مثل نمَّه يُنمُّه ، بعد جعله لازماً بنقله إلى فعُل بالضم ، كما هو المشهور ، سُمّي به المالكُ لأنه يحفظ ما يملِكه ويربيه ، ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كربُّ الدار وربُّ الدابة ، ومنه قوله تعالى : { فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } [ يوسف ، الآية 41 ] وقوله تعالى : { ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ } [ يوسف ، الآية 50 ] وما في الصحيحين من أنه عليه السلام قال : « لا يَقُل أحدُكم أطعِمْ ربك ، وضِّئ ربَّك ، ولا يَقُلْ أحدُكم ربِّي ، ولْيَقُل سَيّدي ومولاي » .

فقد قيل : إن النهيَ فيه للتنزيه ، وأما الأربابُ فحيث لم يمكن إطلاقُه على الله سبحانه جاز في إطلاقه الإطلاق والتقييد ، كما في قوله تعالى : { أأرباب مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ } [ يوسف ، الآية 39 ] . و ( العالم ) اسمٌ لما يُعْلَم به ، كالخاتَم والقالَب ، غلب فيما يُعْلَم به الصانعُ تعالى من المصنوعات أي في القَدْرِ المشترك بين أجناسها وبين مجموعِها ، فإنه كما يُطلق على كل جنسٍ جنسٌ منها في قولهم عالم الأفلاك ، وعالمُ العناصر ، وعالمُ النبات ، وعالم الحيوان ، إلى غير ذلك ، يطلق على المجموع أيضاً ، كما في قولنا العالم بجميع أجزائه مُحْدَث ، وقيل : هو اسم لأولي العلم من الملائكة والثقلين وتناولُه لما سواهم بطريق الاستتباع .

وقيل : أريد به الناسُ فقط ، فإنَّ كلَّ واحدٍ منهم من حيث اشتمالُه على نظائِر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يُعلم بها الصانع ، كما يُعلم بما في كل عالَم على حِيالِه ، ولذلك أمُر بالنظر في الأنفس كالنظر في الآفاق ، فقيل : { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات ، الآية 21 ] والأول هو الأحق الأظهر ، وإيثارُ صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس ، والتعريفُ لاستغراق أفراد كلَ منها بأسرها ، إذ لو أفرد لربما تُوهِّم أن المقصود بالتعريف هو الحقيقة من حيث هي ، أو استغراقُ أفرادِ جنسٍ واحد على الوجه الذي أشير إليه في تعريف الحمد ، وحيث صح ذلك بمساعدة التعريف نُزِّلَ العالم - وإن لم يُطلق على آحاد مدلوله - منزلة الجمع ، حتى قيل : إنه جمعٌ لا واحد له من لفظه ، فكما أن الجمعَ المعَرَّفَ يستغرق آحادَ مُفرَدِه وإن لم يصدُقْ عليها كما في مثل قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران ، الآية 134 ] أي كلَّ محسن ، كذلك العالمُ يشملُ أفرادَ الجنسِ المسمَّى به ، وإن لم يُطلق عليها ، كأنها آحادُ مفردِه التقديريّ ، ومن قضية هذا التنزيلِ تنزيلُ جمعِه منزلةَ جمعِ الجمع ، فكما أن الأقاويلَ تتناول كلَّ واحد من آحادِ الأقوال ، يتناول لفظُ العالمين كلَّ واحد من آحادِ الأجناس التي لا تكاد تُحصى .

روي عن وهْب بن منبه أنه قال : «لله تعالى ثمانيةَ عشرَ ألفَ عالَم ، والدنيا عالم منها » وإنما جُمِع بالواو والنون مع اختصاصِ ذلك بصفاتِ العُقلاء وما في حكمها من الأعلام لدلالته على معنى العَلَم ، مع اعتبار تغليبِ العقلاء على غيرهم . واعلم أن عدم إطلاقِ اسم العالَم على كل واحد من تلك الآحادِ ليس إلا باعتبار الغلَبة والاصطلاح ، وأما باعتبار الأصل فلا ريب في صحة الإطلاقِ قطعاً لتحقّق المصداقِ حتماً ، فإنه كما يُستدل على الله سبحانه بمجموع ما سواه ، وبكل جنسٍ من أجناسِه يُستدل عليه تعالى بكل جزءٍ من أجزاءِ ذلك المجموع ، وبكل فردٍ من أفراد تلك الأجناس ، لتحقّق الحاجةِ إلى المؤثِّر الواجب لذاته في الكُلِّ ، فإنَّ كل ما ظهرَ في المظاهر - مما عزَّ وهانَ - وحضَرَ في هذه المحاضر كائناً ما كان دليلٌ لائح على الصانع المجيد ، وسبيلٌ واضح إلى عالم التوحيد ، وأما شمولُ ربوبيته عز وجل للكل فمما لا حاجة إلى بيانه ، إذ لا شيءَ مما أحدق به نطاقُ الإمكان والوجود من العُلويات والسُفليات والمجرّدات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو في حدّ ذاته بحيث لو فُرض انقطاعُ آثارِ التربية عنه آناً واحداً لما استقر له القرار ، ولا اطمأنت به الدار ، إلا في مطمورة العدم ومهاوي البوار ، لكن يُفيضُ عليه من الجناب الأقدس ، تعالى شأنُه وتقدس ، في كل زمانٍ يمضي ، وكل آنٍ يمر وينقضي ، من فنون الفيوضِ المتعلقةِ بذاته ، ووجودِه وصفاتِه وكمالاتِه مما لا يحيطُ به فَلَكُ التعبير ولا يعلمه إلا العليمُ الخبير ، ضرورةَ أنه كما لا يستحق شيءٌ من الممكنات بذاتِه الوجودَ ابتداءً لا يستحقه بقاءً ، وإنما ذلك من جناب المُبدئ الأول عز وعلا ، فكما لا يُتصور وجودُه ابتداءً ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الأصلي ، لا يتصور بقاؤُه على الوجود - بعد تحققه بعِلَّته - ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الطارئ ، لما أن الدوام من خصائص الوجودِ الواجبي ، وظاهرٌ أن ما يتوقف عليهما وجودُه من الأمور الوجودية التي هي عِلَلُهُ وشرائِطُه وإن كانت متناهيةً لوجوب تناهي ما دخلَ تحتَ الوجود ، لكنِ الأمورُ العدميةُ التي لها دخلٌ في وجوده وهي المعبَّر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك ، إذْ لا استحالة في أن يكون لشيءٍ واحدٍ موانعُ غيرُ متناهية يتوقف وجودُه أو بقاؤه على ارتفاعها ، أو بقائها على العدم مع إمكان وجودها في نفسها ، فإبقاءُ تلك الموانِع التي لا تتناهى على العدم تربيةٌ لذلك الشيءِ من وجوهٍ غيرِ متناهية .

وبالجملة فآثارُ تربيتِه عز وجل الفائضةُ على كل فرد من أفراد الموجودات في كل آنٍ من آنات الوجود غيرُ متناهية ، فسبحانه ما أعظمَ شأنَه لا تلاحظه العيونُ بأنظارها ، ولا تطالعُه العقولُ بأفكارها ، شأنُه لا يُضاهى ، وإحسانُه لا يتناهى ، ونحن في معرفته حائِرون ، وفي إقامة مراسمِ شكرِه قاصرون ، نسألك اللهم الهدايةَ إلى مناهج معرفتِك ، والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك ، لا نُحصي ثناءً عليك لا إله إلاّ أنت ، نستغفرُك ونتوب إليك .