والحمد لله معناه الثناء الكامل . والشكر( {[235]} ) الشامل لله يكون لأفعاله الحسنة وفضائله الكاملة ، والحمد أعم من الشكر وأمدح . ورفعه بالابتداء ، " وَلِلَّهِ " في موضع الخبر تقديره : " الحمد ثابت لله " أو " مستقر لله " . فاللام متعلقة بهذا المحذوف الذي قامت اللام وما بعدها مقامه( {[236]} ) .
والنصب( {[237]} ) جائز في الحمد في الكلام على المصدر ، لكن الرفع فيه أعم لأن معناه إذا رفعتَه جميع " الحمد مني ومن جميع الخلق لله " وإذا نصبت فمعناه : " أحمد الله حمداً " ، فإنما هو حمد منك لله لا غير( {[238]} ) . فالرفع يدل على أن الحمد منك ومن غيرك لله ، فهو أعم وأكمل ، فلذلك أجمع القراء على رفعه في جميع ما وقع في القرآن من لفظ ( الْحَمْدُ لِلهِ ) ، إذ لم يكن/ قبله عامل( {[239]} ) فإذا كان " الحمد " مبتدأ ، و " لله " خبر ، وهو في اللفظ بمنزلة قولك : " المال لزيد " في حكم الإعراب ، وليس مثله في المعنى لأنك إذا قلت : " الحمد لله " أخبرت بهذا ، وأنت معتمد أن تكون حامداً لله داخلاً في جملة الحامدين طالباً للأجر على قولك ، مقراً إذا رفعته أن جميع الحمد منك ومن غيرك لله متقرباً بذلك إلى الله ، متعرضاً لعفوه مظهراً( {[240]} ) ما في قلبك بلسانك ، شاهداً بذلك للهز ولست تخبر أحداً بشيء يجهله ، فأنت غير مخبر على الحقيقة بشيء استقر علمه عندك ، وليس ذلك العلم عند غيرك . وإذا قلت : " المال لزيد " ، فأنت مخبر بما استقر علمه عندك مما ليس علمه عند غيرك . فاعرف الفرق بينهما .
فأما علة حذف الألف الثانيةن " الله " في الخط ففيها أيضاً اختلاف .
قال قطرب( {[241]} ) : " حذف استخفافاً إذ( {[242]} ) كان طرحها من الخط لا يلبس .
وقيل : إنما حذفت الألف على لغة مَن يقول قال : " الله/ بغير مد ، كقول الشاعر :
أَقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ الله( {[243]} ) .
وقيل : حذفت الثانية لأن الأولى( {[244]} ) تكتفي( {[245]} ) عنها ، وتدل عليها( {[246]} ) .
وقيل : إنما حذفت لئلا يشبه خط " اللات " في قول من وقف عليه( {[247]} ) بالهاء .
فأما حذف ألف( {[248]} ) ( الرَّحْمَنِ ) من الخط( {[249]} ) فلكثرة الاستعمال والاستخفاف ، ولأن المعنى لا يشكل بغيره( {[250]} ) .
وقدم ( الرَّحْمَانِ ) على ( الرَّحِيمِ ) لأن " الرحمن " اسم شريف مبني للمبالغة لا يتسمى به غير الله جل ذكره ، والرحيم قد يوصف به الخلق فأخر لذلك .
وقيل : الرحيم ، ولم يقل : الراحم ، لأن فعيلا فيه مبالغة أيضاً تقارب مبالغة الرحمن( {[251]} ) ، فقرن بالرحمن دون الراحم( {[252]} ) إذ الراحم لا مبالغة في بنيته لأنه يوصف بالراحم مَن رحم مرة( {[253]} ) في عمره ، ولا يوصف بالرحيم إلا مَن تكررت منه الرحمة .
وقيل : إنما قدم الرحمن على الرحيم لأن النبي عليه السلام كان يكتب في كتبه( {[254]} ) " باسمك اللهم " حتى نزل( {[255]} ) : ( بِسْمِ اللَّهِ مُجْرَاهَا )( {[256]} ) فكتب ( بِسْمِ اللَّهِ ) ، حتى نزل : ( قُلُ ادْعُوا اللَّهَ أَوُ ادْعُوا الرَّحْمَنَ )( {[257]} ) ، فكتب ( بِسْمِ اللَّهِ ) ، فسبق نزول الرحمن . ثم نزل : ( وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )( {[258]} )( {[259]} ) . فكتب ذلك على ترتيب ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم( {[260]} ) .
وقال ابن مسعود( {[261]} )/ " كنا نكتب زماناً باسمك اللهم " حتى نزلت : ( أَوُ ادْعُوا الرَّحْمَنَ ) ، فكتبنا " بسم الله الرحمن " / فلما نزلت " التي في النمل كتبناها( {[262]} ) " .
ومعنى ( الرَّحْمَنِ ) : الرفيق بخلقه ، ومعنى : ( الرَّحِيمِ )( {[263]} ) العاطف على خلقه بالرزق وغيره( {[264]} ) .
وقيل : إنما جيء بالرحيم( {[265]} ) ليعلم الخلق أن ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) على اجتماعهما لم يتسم( {[266]} ) بهما غير الله جل ذكره ، لأن الرحمن على انفراده قد تسمى به مسيلمة( {[267]} ) الكذاب لعنه الله( {[268]} ) ، و( الرَّحِيمِ ) على انفراده( {[269]} ) قد يوصف به المخلوق . فكرر الرحيم بعد الرحمن( {[270]} ) ، وهما صفتان لله أو اسمان ، ليعلم الخلق ما( {[271]} ) انفرد به الله تعالى ذكره( {[272]} ) من اجتماعهما له ، وما ادعى بعضه بعض خلقه( {[273]} ) .
وهذا القول هو معنى قول عطاء( {[274]} ) لأنه قال : " لما اختُزِلَ( {[275]} ) الرحمن من أسمائه( {[276]} ) –أي تسمى به غيره- ، صار لله الرحمن الرحيم " ( {[277]} ) .
والألف واللام في ( الرَّحِيمِ ) للتعريف ، وإنما اختيرا( {[278]} ) للتعريف ، لأن الهمزة تختل بالتسهيل والحذف والبدل وبإلقاء حركتها على ما قبلها ، واللام تدغم في أكثر الحروف وكلاهما من الحروف الزوائد .
وفي وصل ( الرَّحِيمِ ) ب( الْحَمْدُ ) ، عند النحويين ثلاثة أوجه :
-أحدها( {[279]} ) : أن تقول " الرَّحِيمُ . الحَمْدُ لله " ( {[280]} ) فتكسر( {[281]} ) الميم وتقف عليها وتقطع ألف الحمد . وهذا مستعمل عند القراء حسن ، وهو مروي( {[282]} ) عن النبي صلى الله عليه وسلم روته أم سلمة( {[283]} ) .
- والثاني( {[284]} ) : أن تقول : " الرَّحِيمِ الحَمْدُ لله " ، فتَصِل الألف وتعرب الرحيم بحقه من الإعراب فتكون الكسرة خفضاً ، وإن شئت/ قدرت أنك وقفت على الرحيم بالإسكان ، ثم وصلت فكسرت( {[285]} ) الميم لسكونها وسكون لام الحمد بعدها ، ولا يعتد بألف الوصل لسقوطها في درج الكلام .
وهذان الوجهان حسنان مستعملان في القراءة .
- والوجه الثالث : حكاه الكسائي سماعاً من العرب ، أن تقول : " الرَّحِيمَِ الحَمْدُ " فتح الميم ووصل الألف وذلك أنك تقدر( {[286]} ) أنك أسكنت الميم للوقف عليها وقطعت ألف الحمد للابتداء/ بها ، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفتها فانفتحت الميم . ولا يقرأ بهذا( {[287]} ) .
وقد ذكر الفراء( {[288]} ) هذا التقدير في قوله تعالى : ( أَلَمِّ اللَّهُ )( {[289]} ) وذكره غيره( {[290]} ) . وستراه إن شاء الله ومثله قياس وصل " نَسْتَعِينُ " ب " اهْدِنَا( {[291]} ) " .
والألف الأول من اسم " الله " تحذف من الخط مع اللام ، تقول : " لله الحجة ، ولله الأمر " ، فإن قلت : " بالله أتق " ، و " ليس كالله أحد " ؛ لم يجز حذف الألف من الخط ، وعلة حذفها من الخط مع اللام ، دون سائر حروف الجر ، أنَّ اللام مع الألف يصيران حرفاً( {[292]} ) واحداً في رأي العين . والألف مع اللام الثانية( {[293]} ) بمنزلة " قَدْ " لأنهما زيدا معاً للتعريف لا يفترقان . فلو أثبتت( {[294]} ) الألف مع اللام الأولى( {[295]} ) ، كنت قد فصلتها( {[296]} ) مع اللام الأولى( {[297]} ) من اللام الثانية .
/وقيل : إنما حذفت الألف من الخط مع اللام( {[298]} ) ، لئلا تصير " لا " فتشبه النفي . فإن كانت( {[299]} ) الألف مقطوعة لم تحذف الألف مع اللام ، ولا مع غيرها من حروف( {[300]} ) الجر في الخط نحو قولك : " لألواحك حُسْنٌ ، ولألواحِك بياض " ، وإنما ذلك ، لأن الألف في هذا ليست مع اللام للتعريف إذ اللام أصلية فجاز انفصالها من اللام الثانية مع اللام الأولى .
قوله : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ )[ 1 ] .
الرب( {[301]} ) المالك . فمعناه : مالك( {[302]} ) العالمين .
وقيل : الرب السيد( {[303]} ) .
وقيل : المصلح( {[304]} ) ، يقال : " رَبَّه يَرُبُّه رَبّاً " إذا أصلحه . ويقال على التكثير : رَبَّتَهُ ورَبَّاهُ ورَبَّبَهُ( {[305]} ) .
/فالذين يقولون : " رَبَّتَه " بالتاء ، أصله عندهم رَبَّبَهُ( {[306]} ) ثم أبدلوا( {[307]} ) من الباء الثالثة " ياء " ، كما يقال( {[308]} ) ، " تَقَضَّيْتُ " في " تَقَضَّضْتُ( {[309]} ) " ثم أبدلوا من الياء تاء . كما أبدلوا من الواو تاء في " تُراتِ " ، و " تُجاهٍ " ، و " تولج " وأصله " وولج( {[310]} ) " على " فوعل( {[311]} ) ، من " ولجت " . وبدل( {[312]} ) التاء من الياء قليل شاذ ، وهو في الواو كثير .
و( الْعَالَمِينَ ) جمع عالم . والعالم هو جميع الخلق الموجود في كل زمان . وروى عبد الوهاب بن مجاهد( {[313]} ) عن أبيه في قول الله :
( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . قال : " العالمون ثمانية عشر ألف ملك في نواحي( {[314]} ) الأرض الأربع ، في كل ناحية أربعة آلاف ملك( {[315]} ) وخمسمائة( {[316]} ) ملك مع كل ملك منهم عدد الجن والإنس ، فبهم يدفع( {[317]} ) الله العذاب عن أهل الأرض " .