{ يوم يكشف عن ساق } يوم ظرف لقوله :{ فليأتوا بشركائهم } أي : فليأتوا بها في ذلك اليوم لتنفعهم وتشفع لهم ، { يوم يكشف عن ساق } قيل : عن أمر فظيع شديد ، قال ابن عباس : هو أشد ساعة في القيامة . قال سعيد بن جبير : { يوم يكشف عن ساق } عن شدة الأمر . وقال ابن قتيبة : تقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج فيه إلى الجد ومقاساة الشدة : شمر عن ساقه ، ويقال : إذا اشتد الأمر في الحرب : كشفت الحرب عن ساق .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد ابن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني سويد بن سعيد ، حدثني حفص بن ميسرة ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه " أن أناساً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب ؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما ، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الصمام والأنصاب ، إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب فتدعى اليهود فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد عزير ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فماذا تبغون ؟ فقالوا : عطشنا يا ربنا فاسقنا ، فيشار إليهم : ألا تردون ؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً ، فيتساقطون في النار . ثم تدعى النصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد المسيح ابن الله ، فيقال لهم : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فيقال لهم : ماذا تبغون ؟ فيقولون : عطشنا يا ربنا فاسقنا ، فيشار إليهم : ألا تردون ؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً ، فيتساقطون في النار ، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر ، أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، قال : فماذا تنتظرون ؟ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم . فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئاً ، مرتين أو ثلاثاً ، حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب ، فيقول : هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها ، فيقولون : نعم فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ، فلا يبقى من كان يسجد نفاقاً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقةً واحدةً كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقال : أنا ربكم . فيقولون : أنت ربنا ، ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ، ويقولون : اللهم سلم سلم ، قيل يا رسول الله وما الجسر ؟ قال : دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة يكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان ، فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب ، فناج مسلم ومخدوش مرسل ، ومكردس في نار جهنم ، حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار ، يقولون : ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون ، فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم ، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقه وإلى ركبتيه ، ثم يقولون : ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ، فيقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا به أحداً ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها أحداً فيه خير ممن أمرتنا به . وكان أبو سعيد الخدري يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً } ( النساء- 40 ) ، فيقول الله : شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة ، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون منها إلى الشمس أصيفر وأخيضر ، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض ؟ قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله من النار الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ، ثم يقول : ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا : أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين ، فيقول : لكم عندي أفضل من هذا فيقولون : يا ربنا أي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول : رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا " .
وروى محمد بن إسماعيل هذا الحديث عن يحيى بن بكير عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم بهذا المعنى .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعةً ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحدا " . قوله عز وجل : { ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } يعني : الكفار والمنافقين تصير أصلابهم كصياصي البقر ، فلا يستطيعون السجود .
( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة . وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) . .
فيقفهم وجها لوجه أمام هذا المشهد كأنه حاضر اللحظة ، وكأنه يتحداهم فيه أن يأتوا بشركائهم المزعومين . وهذا اليوم حقيقة حاضرة في علم الله لا تتقيد في علمه بزمن . واستحضارها للمخاطبين على هذا النحو يجعل وقعها عميقا حيا حاضرا في النفوس على طريقة القرآن الكريم .
والكشف عن الساق كناية - في تعبيرات اللغة العربية المأثورة - عن الشدة والكرب . فهو يوم القيامة الذي يشمر فيه عن الساعد ويكشف فيه عن الساق ، ويشتد الكرب والضيق . . ويدعى هؤلاء المتكبرون إلى السجود فلا يملكون السجود ، إما لأن وقته قد فات ، وإما لأنهم كما وصفهم في موضع آخر يكونون : ( مهطعين مقنعي رؤوسهم )وكأن أجسامهم وأعصابهم مشدودة من الهول على غير إرادة منهم ! وعلى أية حال فهو تعبير يشي بالكرب والعجز والتحدي المخيف . .
لما ذكر تعالى أن للمتقين عنده{[29201]} جنات النعيم ، بين متى ذلك كائن وواقع ، فقال : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ } يعني : يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والزلازل والبلاء والامتحان والأمور العظام . وقد قال البخاري هاهنا :
حدثنا آدم ، حدثنا الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " يَكشِفُ رَبّنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طَبَقًا واحدًا " {[29202]} .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق{[29203]} وله ألفاظ ، وهو حديث طويل مشهور .
وقد قال عبد الله بن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ }
قال : هو يوم كَرْب وشدة . رواه ابن جرير ثم قال :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود - أو : ابن عباس ، الشك من ابن جرير - : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : عن أمر عظيم ، كقول الشاعر :
وقامت الحرب بنا عن ساق{[29204]}
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : شدة الأمر{[29205]}
وقال ابن عباس : هي أول{[29206]} ساعة تكون في يوم القيامة .
وقال ابن جُرَيح ، عن مجاهد : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : شدة الأمر وجده .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } هو الأمر الشديد المُفظِع من الهول يوم القيامة .
وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } يقول : حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال . وكشفه دخول الآخرة ، وكشف الأمر عنه . وكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس . أورد ذلك كله أبو جعفر بن جرير ثم قال :
حدثني أبو زيد عمر بن شَبَّة ، حدثنا هارون بن عمر المخزومي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا أبو سعيد روح بن جناح ، عن مولى لعمر بن عبد العزيز ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : " عن نور عظيم ، يخرون له سجدًا " .
ورواه أبو يعلى ، عن القاسم بن يحيى ، عن الوليد بن مسلم ، به{[29207]} وفيه رجل مبهم{[29208]} والله أعلم .
يوم يكشف عن ساق يوم يشتد الأمر ويصعب الخطب وكشف الساق مثل في ذلك وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب قال حاتم أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا أو يوم يكشف عن أصل الأمر وحقيقته بحيث يصير عيانا مستعار من ساق الشجر وساق الإنسان وتنكيره للتهويل أو للتعظيم وقرىء تكشف وتكشف بالتاء على بناء الفاعل أو المفعول والفعل للساعة أو الحال ويدعون إلى السجود توبيخا على تركهم السجود إن كان اليوم يوم القيامة أو يدعون إلى الصلوات لأوقاتها إن كان وقت النزع فلا يستطيعون لذهاب وقته أو زوال القدرة عليه .