اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٖ وَيُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ} (42)

ثم إنه تعالى لما أبطل قولهم شرح بعده عظمة يوم القيامة ، وهو قوله :{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } «يَوْمَ » منصوب بقوله «فليَأتُوا » أي : فليأتوا بشركائهم يوم يكشفُ عن ساق ليشفع الشركاء لهم وحينئذ لا يوقف على «صَادِقينَ » .

أو بإضمارِ «اذْكُرْ » فيكون مفعولاً به ، أو بمحذوفٍ وهو ظرف ، أي : يوم يكشف يكون كيت وكيت . أو ب «خَاشِعةً » . قاله أبو البقاء .

و «عَنْ ساقٍ » قائم مقام الفاعل .

وقرأ ابن مسعود{[57665]} وابن أبي عبلة : «تكشف » بالتاء من فوق مبنياً للفاعل ، أي : الشدة والساعة . وعنه أيضاً كذلك : مبنياً للمفعول{[57666]} .

وهي مشكلة ، لأن التأنيث لا معنى له هاهنا إلا أن يقال : إن المفعول مستتر ، أي : تكشف هي ، أي : الشدة ، ويتعلق «عَنْ ساقٍ » بمحذوف ، أي : تكشف عن ساقها .

ولذلك قال الزمخشري : «وتكشف » بالتاء مبنياً للفاعل والمفعول جميعاً ، والفعل للساعة ، أو الحال : أي يشتد الحال ، أو الساعة .

وقرئ{[57667]} : «ويُكشِفُ » - بضم التاء أو الياء وكسر الشين - من «أكشف » إذا دخل في الكشف ، وأكشف الرجل إذا انقلبت شفته العليا لانكشاف ما تحتها . ويقال له أيضاً : أخلع وكشف الساق كناية عن الشدة .

قال الراجز : [ الرجز ]

4831 - عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي ومِنْ إشْفَاقِهَا***ومِنْ طِرَادِي الطَّيْرَ عَنْ أرْزَاقِهَا

في سَنةٍ قَدْ كشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا***حَمْرَاءِ تَبْرِي اللَّحْمَ عَنْ عُراقِهَا{[57668]}

وقال حاتم الطائيُّ : [ الطويل ]

4832-أخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ به الحَرْبُ عضَّهَا***وإنْ شَمَّرْتَ عَنْ سَاقهَا الحَرْبُ شَمَّرَا{[57669]}

وقال الآخر : [ مجزوء الكامل ]

4833 - كَشفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا*** وبَدَا مِنَ الشَّرِّ البَواحُ{[57670]}

وقال الراجز : [ الرجز ]

4834 أ - قَدْ شَمرَتْ عَنْ سَاقِهَا فشُدُّوا***وجَدَّتِ الحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا{[57671]}

وقال الآخر : [ السريع ، أو الرجز ]

4834 ب - صَبْراً أُمامُ إنَّهُ شَرُّ بَاقْ***وقَامتِ الحَرْبُ بِنَا على سَاقْ{[57672]}

قال الزمخشريُّ : الكشفُ عن الساق والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب ، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدراتِ عن سوقهن في الهرب وإبداء خدامهن عند ذلك ؛ قال حاتم :

4835أ - أخو الحَرْبِ . . . *** . . . {[57673]}

وقال ابن قيس الرُّقيَّاتِ : [ الخفيف ]

4835 ب - تُذِهِلُ الشَّيْخَ عنْ بنيهِ وتُبْدِي***عَنْ خِدَامِ العَقيلَةُ العَذْراءُ{[57674]}

انتهى .

فصل في «الساق »

قال ابن عباس في قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } ، قال : كرب وشدة{[57675]} .

وعن مجاهد : شدة الأمر وحده{[57676]} .

وروى مجاهد عن ابن عباس قال : أشد ساعةٍ في القيامة{[57677]} .

وقال أبو عبيدة : إذا اشتد الأمر ، أو الحرب قيل كشف الأمر عن ساقه .

والأصل فيه : أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد ، شمر عن ساقه ، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة .

وقيل : ساق الشيء : أصله الذي به قوامه كساق الشجرة ، وساق الإنسان ، أي : يوم يكشفُ عن أصل الأمر ، فتظهر حقائق الأمور ، وأصلها .

وقيل : يكشف عن ساق جهنم .

وقيل : عن ساق العرش .

وقيل : يريد وقت اقتراب الأجل وضعف البدن ، أي : يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه ، ويدعوه المؤذنون إلى الصلاة ، فلا يمكنه أن يقوم ، ويخرج .

فصل في تأويل «الساق »

قال القرطبيُّ : فأما ما روي الله تعالى يكشف عن ساقه ، فإنه - عز وجل - يتعالى عن الأعضاء ، والأبعاض ، وأن ينكشف ، ويتغطى ، ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره وقيل : «يكشف عن نوره عز وجل » .

وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { عَنْ سَاقٍ } قال : يكشف عن نورٍ عظيمٍ يخِرُّونَ لهُ سُجَّداً{[57678]} .

وروى أبو بردة عن أبي موسى قال : حدثني أبي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامةِ مثِّل لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبدُونَ فِي الدُّنيَا فيَذْهبُ كُل قَوْمٍ إلى مَا كَانُوا يَعَبْدُون ويبقى أهلُ التَّوحيدِ ، فيقال لهم : ما تَنْتَظِرُونَ ، وقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ ، فيقولون : لنَا رَبٌّ كنَّا نَعْبدُهُ في الدُّنيَا ، ولَمْ نَرَهُ ، قال : وتعْرِفُونهُ إذَا رأيتمُوهُ ؟ فيقولون : نَعَم ، فيُقَالُ لَهُمْ : فَكيْفَ تعرفونه ، ولَمْ تَرَوهُ ؟ قالوا : إنه لا شبيهَ لَهُ ، فيكشفُ لَهُم الحجابُ ، فينْظُرونَ إلى اللَّهِ تعالى ، فيخِرُّونَ لَهُ سُجَّداً ، ويبقى أقوامٌ ظُهُورُهُمْ كَصَياصِي البَقرِ ، فينْظرُونَ إلى اللَّهِ تعالى فيريدون السُّجُودَ ، فلا يَسْتطِيْعُونَ ، فَذلكَ قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } فيقول الله تعالى : عبادي ارفعوا رءوسكم ، فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلاً من اليهود والنصارى في النار »{[57679]} ، قال أبو بردةُ : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال : الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث ؟ فحلف له ثلاثة أيمانٍ ، فقال عمر : سمعتُ في أهل التوحيد حديثاً هو أحب إليَّ من هذا .


[57665]:ينظر الفخر الرازي 30/84، والبحر المحيط 8/309.
[57666]:ينظر السابق.
[57667]:ينظر الكشاف 4/595، والبحر المحيط 8/309، والدر المصون 6/358.
[57668]:ينظر البحر 8/310 والقرطبي 18/162، والدر المصون 6/358، واللسان (عرق)، وروح المعاني (29/42).
[57669]:ينظر القرطبي 18/162، والكشاف 4/593، والبحر 8/309، والدر المصون 6/358.
[57670]:البيت لسعد بن مالك بن ضبعة ويروى "الصراح" مكان "البواح". ينظر الكتاب (2/326) والحماسة (504)، والخصائص 3/252، والقرطبي 18/162، والبحر 8/310، واللسان(سوق) والدر المصون 6/358.
[57671]:تقدم.
[57672]:ينظر البحر 8/310، والدر المصون 6/358.
[57673]:ونسب أيضا لمحمد بن الجهم بن هارون.
[57674]:وينظر ديوان ابن قيس الرقيات (ص 96)، والأغاني 5/69 وخزانة الأدب 7/287، 11/377، وسر صناعة الإعراب ص 535، وشرح المفصل 9/37، ولسان العرب (شعا)، والمنصف 2/231، والإنصاف ص 661، وتذكرة النحاة ص 444، ومجالس ثعلب ص 150، ومعجم الشعراء ص 450، ورصف المباني 2/231.
[57675]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/197) والحاكم (2/499-500) عن ابن عباس. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/397) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "الأسماء والصفات".
[57676]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(12/197) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/398) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مندة.
[57677]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/197) وينظر المصادر السابقة.
[57678]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/200) وأبو يعلى (13/269) رقم (7283) والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص347- 348) من طريق روح بن جناح عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن أبي بردة عن أبيه مرفوعا قال البيهقي: تفرد به روح بن جناح يأتي بأحاديث منكرة لا يتابع عليها. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/131) وقال: رواه أبو يعلى وفيه روح بن جناح وثقه دحيم وقال فيه: ليس بالقوي وبقية رجاله ثقات. وذكره أيضا الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" (3788) وعزاه إلى أبي يعلى والحديث زاد نسبته السيوطي في "الدر المنثور" (6/397) إلى ابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر.
[57679]:تقدم تخريجه.