فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٖ وَيُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ} (42)

{ يوم } ظرف لقوله فليأتوا أي فليأتوا بها يوم { يكشف عن ساق } ويجوز أن يكون ظرفا لفعل مقدر أي اذكر يوم يكشف ، قال الواحدي : قال المفسرون : في قوله { عن ساق } عن شدة من الأمر وصعوبة الخطب ، قال ابن قتيبة : أصل هذا إن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه شمر عن ساقه فيستعار الكشف عن الساق في موضع الشدة قال :

وتأويل الآية يوم يشتد الأمر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق ، قال أبو عبيدة : إذا اشتد الحرب والأمر قيل كشف الأمر عن ساقه والأصل فيه من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه فاستعير الساق والكشف عن موضع الشدة وهكذا قال غيره من أهل اللغة ، وقد استعملت ذلك العرب في أشعارها وكثر في كلامهم حتى صار كالمثل للأمر العظيم الشديد فهذا التركيب من قبيل الكناية أو الاستعارة التمثيلية .

قال الزمخشري : الكشف عن الساق والإبداء عن الحزام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب ، وقيل ساق الشيء أصله وقوامه كساق الشجرة وساق الإنسان أي يوم يكشف عن ساق الأمر فتظهر حقائقه ، وقيل يكشف عن ساق جهنم ، وقيل عن ساق العرش ، وقيل هو عبارة عن القرب ، وقيل يكشف عن ساق الرب سبحانه عن نوره .

وقال النسفي : لا كشف ثمة ولا ساق ولكن كني به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق ، وأما من شبه فليضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان ولو كان الأمر كما زعم المشبه لكان من حق الساق أن تعرف لأنها ساق معهودة عنده انتهى وسيأتي ما هو الحق ، قرأ الجمهور يكشف بالتحتية مبنيا للمفعول ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وغيرهما بالفوقية مبنيا للفاعل أي الشدة أو الساعة ، وقرئ بالفوقية مبنيا للمفعول وقرئ بالنون وقرئ بالفوقية المضمومة وكسر الشين من أكشف الأمر أي دخل في الكشف .

عن أبي هريرة في الآية قال " يكشف الله عز وجل عن ساقه " ( {[1618]} ) ، وعن ابن مسعود قال " يكشف عن ساقه تبارك وتعالى " ، وعن ابن عباس قال يكشف عن أمر عظيم ، وقال : قال ابن مسعود يكشف عن ساقه فيسجد كل مؤمن ويقسو ظهر الكافر فيصير عظما واحدا .

وعن ابن عباس أنه سئل عن قوله يوم يكشف عن ساق ، قال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فاتبعوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر :

وقامت الحرب بنا على ساق

قال ابن عباس هذا يوم كرب شديد ، وروي عنه نحو هذا من طرق أخرى وعنه هو أشد ساعة يوم القيامة وقد أغنانا الله سبحانه في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقد أخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا " وهذا الحديث ثابت من طرق في الصحيحين وغيرهما وله ألفاظ في بعضها طول وهو حديث مشهور معروف .

وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية " قال عن نور عظيم فيخرون له سجدا " أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وضعفه ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وذلك لا يستلزم تجسيما ولا تشبيها فليس كمثله شيء

دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر

وهكذا تهيب القول فيهلا شيوخ الإسلام فأجروه على ظاهر لفظه ، ولم يكشفوا عن باطن معناه ، والتأويل هو مذهب معظم المتكلمين ومنهم النسفي في المدارك والبيضاوي في أنوار التنزيل .

قال الشيخ أحمد ولي الله المحدث في كتابه حجة الله البالغة واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث وسموهم مجسمة ومشبهة وقالوا هم المستترون بالبلكفة ( {[1619]} ) وقد وضح عليّ وضوحا بينا أن استطالتهم هذه ليست بشيء وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى .

{ ويدعون إلى السجود } قال الواحدي قال المفسرون يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدة ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا { فلا يستطيعون } لأن أصلابهم تيبس فلا تلين للسجود ، وقال الربيع ابن أنس : يكشف عن الغطاء فيقع من كان آمن بالله في الدنيا فيسجدون له ، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون لأنهم لم يكنوا آمنوا بالله في الدنيا ، والدعاء إلى السجود يكون امتحانا لإيمانهم لا تكليفا بالسجود إذ تلك الدار ليست دار تكليف .


[1618]:هو جزء من حديث طويل مشهور في البخاري 13/359 ومسلم 1/168 رواه البخاري مختصر 8/508 ونصه: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا".
[1619]:أي قولهم "بلا كيف".