البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٖ وَيُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ} (42)

{ يوم يكشف عن ساق } : وعلى هذا القول الناصب ليوم فليأتوا .

وقيل : اذكر ، وقيل التقدير : يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت ، وحذف للتهويل العظيم بما يكون فيه من الحوادث ؛ والظاهر وقول الجمهور : إن هذا اليوم هو يوم القيامة .

وقال أبو مسلم : هذا اليوم هو في الدنيا لأنه قال : { ويدعون إلى السجود } ، ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف ، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه لقوله : { يوم يرون الملائكة لا بشرى } ثم يرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها ، فلا يستطيع الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع فيه نفساً إيمانها ؛ وإما حال المرض والهرم والمعجزة .

{ وقد كانوا } قبل ذلك اليوم ، { يدعون إلى السجود وهم سالمون } مما بهم الآن .

فذلك إما لشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، وإما من العجز والهرم .

وأجيب بأن الدعاء إلى السجود ليس على سبيل التكليف ، بل على سبيل التقريع والتخجيل .

وعندما يدعون إلى السجود ، سلبوا القدرة عليه ، وحيل بينهم وبين الاستطاعة حتى يزداد حزنهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه وهم سالمون الأطراف والمفاصل .

وقرأ الجمهور : { يكشف } بالياء مبنياً للمفعول .

وقرأ عبد الله بن أبي عبلة : بفتح الياء مبنياً للفاعل ؛ وابن عباس وابن مسعود أيضاً وابن هرمز : بالنون ؛ وابن عباس : يكشف بفتح الياء منبياً للفاعل ؛ وعنه أيضاً بالياء مضمومة مبنياً للمفعول .

وقرىء : يكشف بالياء المضمومة وكسر الشين ، من أكشف إذا دخل في الكشف ، ومنه أكشف الرجل : انقلبت شفته العليا ، وكشف الساق كناية عن شدة الأمر وتفاقمه .

قال مجاهد : هي أول ساعة من يوم القيامة وهي أفظعها .

ومما جاء في الحديث من قوله : « فيكشف لهم عن ساق » ، محمول أيضاً على الشدة في ذلك اليوم ، وهو مجاز شائع في لسان العرب .

قال حاتم :

أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها *** وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

وقال الراجز :

عجبت من نفسي ومن إشفاقها *** ومن طرادي الخيل عن أرزاقها

في سنة قد كشفت عن ساقها *** حمراء تبري اللحم عن عراقها

وقال الراجز :

قد شمرت عن ساقها فشدوا *** وجدّت الحرب بكم فجدوا

وقال آخر :

صبراً امام إن شرباق *** وقامت الحرب بنا على ساق

وقال الشاعر :

كشفت لهم عن ساقها *** وبدا من الشر البوا

ويروى : الصداخ .

وقال ابن عباس : يوم يكشف عن شدة .

وقال أبو عبيدة : هذه كلمة تستعمل في الشدة ، يقال : كشف عن ساقه إذا تشمر .

قال : ومن هذا تقول العرب لسنة الجدب : كشفت ساقها ، ونكر ساق للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة ، خارج عن المألوف ، كقوله تعالى : { يوم يدعو الداع إلى شيء نكر } ، فكأنه قيل : يوم يقع أمر فظيع هائل .

{ ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } : ظاهره أنهم يدعون ، وتقدم أن ذلك على سبيل التوبيخ لا على سبيل التكليف .

وقيل : الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين ، فيريدون هم السجود فلا يستطيعونه ، كما ورد في الحديث الذي حاورهم فيه الله تعالى أنهم يقولون : أنت ربنا ، ويخرون للسجود ، فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظماً واحداً ، فلا يستطيعون سجوداً . انتهى .

ونفي الاستطاعة للسجود في الآخرة لا يدل على أن لهم استطاعة في الدنيا ، كما ذهب إليه الجبائي .