قوله تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } . هذا حث لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد والصبر على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أحد ، يقول الله تعالى : ( ولا تهنوا ) أي لا تضعفوا ولا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح ، وكان قد قتل يومئذ خمسة منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ، وقتل من الأنصار سبعون رجلاً ، ( ولا تحزنوا ) : أي على ما فاتكم .
قوله تعالى : { وأنتم الأعلون } . بأن يكون لكم العاقبة بالنصرة والظفر على أعدائكم .
قوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } . يعني إذ كنتم أي لأنكم مؤمنين ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، فأقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم لا يعلوه علينا ، اللهم لا قوة لنا إلا بك " . وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله تعالى ( وأنتم الأعلون ) . وقال الكلبي : نزلت هذه الآية بعد يوم أحد حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب القوم بعد ما أصابهم من الجراح ، فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية ، دليله قوله تعالى ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم ) .
وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت
( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون . إن كنتم مؤمنين ) . .
لا تهنوا - من الوهن والضعف - ولا تحزنوا - لما أصابكم ولما فاتكم - وأنتم الأعلون . . عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده ، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ! ومنهجكم أعلى . فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله ، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ! ودوركم أعلى . فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها ، الهداة لهذه البشرية كلها ، وهم شاردون عن النهج ، ضالون عن الطريق . ومكانكم في الأرض أعلى ، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها ، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون . . فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون . وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا . فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا ، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص :
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ }
وهذا من الله تعالى ذكره تعزية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أصابهم من الجراح والقتل بأُحد ، قال : ولا تهنوا ولا تحزنوا يا أصحاب محمد ، يعني ولا تضعفوا بالذي نالكم من عدوّكم بأُحد من القتل والقروح ، عن جهاد عدوكم وحربهم ، من قول القائل : وهن فلان في هذا الأمر فهو يهن وهنا : { وَلا تَحْزَنُوا } : ولا تأسوا فتجزعوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ ، فإنكم أنتم الأعلون ، يعني الظاهرون عليهم ، ولكم العقبى في الظفر والنصرة عليهم ، يقول : إن كنتم مؤمنين ، يقول : إن كنتم مصدّقي في نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيما يعدكم ، وفيما ينبئكم من الخبر عما يئول إليه أمركم وأمرهم . كما :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، قال : كثر في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم القتل والجراح ، حتى خلص إلى كل امرىء منهم اليأس ، فأنزل الله عزّ وجلّ القرآن ، فآسى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قوما من المسلمين كانوا قبلهم من الأمم الماضية فقال : { وَلاَ تَهنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْنُمْ مُوءْمِنِينَ } إلى قوله : { لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ } : يعزّي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما تسمعون ، ويحثهم على قتال عدوّهم ، وينهاهم عن العجز والوهن في طلب عدوّهم في سبيل الله .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن ، في قوله : { وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ } قال : يأمر محمدا يقول : ولا تهنوا أن تمضوا في سبيل الله .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَهْنُوا } : ولا تضعفوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَحْزَنُوا } يقول : ولا تضعفوا .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَلاَ تَهْنُوا } قال ابن جريج : ولا تضعفوا في أمر عدوكم ، { وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ } قال : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، فقالوا : ما فعل فلان ؟ ما فعل فلان ؟ فنعى بعضهم بعضا ، وتحدثوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فكانوا في همّ وحزن . فبينما هم كذلك ، إذ علا خالد بن الوليد الجبل بخيل المشركين فوقهم وهم أسفل في الشعب¹ فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ لا قُوّةَ لَنا إلاّ بِكَ ، ولَيْسَ يَعْبُدُكَ بِهَذِهِ البَلْدَةِ غَيْرُ هَولاءِ النّفَرِ » . قال : وثاب نفر من المسلمين رماة ، فصعدوا ، فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله ، وعلا المسلمون الجبل¹ فذلك قوله : { وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلاَ تَهْنُوا } أي لا تضعفوا ، { وَلا تَحْزَنُوا } ولا تأسوا على ما أصابكم ، { وأنتُمُ الأعْلَوْنَ } أي لكم تكون العاقبة والظهور ، { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } : إن كنتم صدقتم نبيي بما جاءكم به عني .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ لا يَعْلُونَ عَلَيْنَا ! » فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
قوله : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } نهي للمسلمين عن أسباب الفشل . والوهن : الضعف ، وأصله ضعف الذات : كالجسم في قوله تعالى : { ربِّ إنِّي وهَن العظم منِّي } [ مريم : 4 ] ، والحبْل في قول زهير :
وهو هنا مجاز في خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأساً ، والشَّجاعة جبناً ، واليقين شكّاً ، ولذلك نهوا عنه . وأمَّا الحزن فهو شدّة الأسف البالغة حدّ الكآبة والانكسار . والوهنُ والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتّب عليهما الاستسلام وترك المقاومة . فالنهي عن الوهن والحزن في الحقيقة نهي عن سببهما وهو الاعتقاد ، كما يُنهى عن النسيان ، وكما يُنهى أحد عن فعل غيره في نحو لا أرَيَنّ فلاناً في موضع كذا أي لا تَتْركْه يحلّ فيه ، ولذلك قدّم على هذا النَّهي قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] إلخ . . . وعقب بقوله : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } .
وقوله : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } ، الواو للعطف وهذه بشارة لهم بالنَّصر المستقبل ، فالعلوّ هنا علوّ مجازيّ وهو علوّ المنزلة .
والتَّعليق بالشرط في قوله : { إن كنتم مؤمنين } قصد به تهييج غيرتهم على الإيمان إذ قد علِم الله أنَّهم مؤمنون ولكنَّهم لمّا لاح عليهم الوهن والحزن من الغلبة ، كانوا بمنزلة من ضعف يقينه فقيل لهم : إن علمتم من أنفسكم الإيمان ، وجيء بإن الشرطية الَّتي من شأنها عدم تحقيق شرطها ، إتماماً لِهذا المقصد .