قوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } . أي ولم تمسوهن ولم تفرضوا ، نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهراً ، ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت هذه الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " متعها ولو بقلنسوتك " .
قرأ حمزة والكسائي ، ما لم تمسوهن بالألف هاهنا ، وفي الأحزاب على المفاعلة ، لأن بدن كل واحد منهما يلاقي بدن صاحبه كما قال الله تعالى : ( من قبل أن يتماسا ) وقرأ الباقون ( تمسوهن ) بلا ألف لأن الغشيان يكون من فعل الرجل ، دليله قوله تعالى : ( ولم يمسسني بشر ) . { أو تفرضوا لهن فريضة } أي توجبوا لهن صداقاً فإن قيل : فما الوجه في نفي الجناح عن المطلق ؟ قيل : الطلاق قطع سبب الوصلة ، وجاء في الحديث " أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق " . فنفى الجناح عنه إذا كان الفراق أروح من الإمساك ، وقيل معناه : لا سبيل للنساء عليكم إن طلقتموهن من قبل المسيس والفرض بصداق ولا نفقة ، وقيل : لا جناح عليكم في تطليقهن من قبل المسيس في أي وقت شئتم ، حائضاً كانت المرأة أو طاهرا ، لأنه لا سنة ولا بدعة في طلاقهن قبل الدخول بها ، بخلاف المدخول بها فإنه لا يجوز تطليقها في حال الحيض .
قوله تعالى : { ومتعوهن } . أي أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به ، والمتعة والمتاع : ما يتبلغ به من الزاد .
قوله تعالى : { على الموسع قدره } . أي على الغني .
قوله تعالى : { وعلى المقتر } . أي الفقير .
قوله تعالى : { قدره } . أي إمكانه وطاقته ، قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي وحفص قدره ( بفتح ) الدال فيهما وقرأ الآخرون بسكونهما وهما لغتان وقيل : القدر بسكون الدال المصدر وبالفتح : الاسم ، ( متاعاً ) : نصب على المصدر أي متعوهن .
قوله تعالى : { متاعاً بالمعروف } . أي بما أمركم الله به من غير ظلم .
قوله تعالى : { حقاً على المحسنين } . وبيان حكم الآية أن من تزوج امرأة ولم يفرض لها مهراً ثم طلقها قبل المسيس ، يجب لها المتعة بالإنفاق ، وإن طلقها بعد الفرض قبل المسيس فلا متعة لها على قول الأكثرين ، ولها نصف المهر المفروض . واختلفوا في المطلقة بعد الدخول بها فذهب جماعة إلى أنه لا متعة لها لأنها تستحق المهر ، وهو قول أصحاب الرأي ، وذهب جماعة إلى أنها تستحق المتعة لقوله تعالى ( وللمطلقات متاع بالمعروف ) وهو قول عبد الله بن عمر ، وبه قال عطاء ومجاهد والقاسم بن محمد ، وإليه ذهب الشافعي لأن استحقاقها المهر بمقابلة ما أتلف عليها من منفعة البضع ، فلها المتعة على وحشة الفراق ، فعلى القول الأول : لا متعة إلا لواحدة وهي المطلقة قبل الفرض والمسيس ، وعلى القول الثاني لكل مطلقة متعة إلا لواحدة وهي المطلقة بعد الفرض قبل المسيس ، قال عبد الله بن عمر : لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم يمسها زوجها فحسبها نصف المهر . قال الزهري : متعتان يقضي بإحداهما السلطان ولا يقضي بالأخرى بل تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى . فأما التي يقضي بها السلطان فهي : المطلقة قبل الفرض والمسيس ، وهو قوله تعالى ( حقاً على المحسنين ) ، والتي تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى ولا يقضي بها السلطان فهي المطلقة بعد المسيس وهو قوله تعالى : ( حقاً على المتقين ) . وذهب الحسن وسعيد بن جبير إلى أن لكل مطلقة متعة سواء كان قبل الفرض والمسيس ، أو بعد الفرض قبل المسيس ، لقوله تعالى : ( وللمطلقات متاع بالمعروف ) ولقوله تعالى في سورة الأحزاب : ( فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ) ، وقالا : معنى قوله تعالى ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ) أي أو لم تفرضوا لهن فريضة ، وقال بعضهم : المتعة غير واجبة والأمر بها أمر ندب واستحباب .
وروي أن رجلاً طلق امرأته وقد دخل بها ، فخاصمته إلى شريح في المتعة فقال شريح : لا تأب أن تكون من المحسنين ، ولا تأب أن تكون من المتقين ، ولم يجبره على ذلك . واختلفوا في قدر المتعة فروي عن ابن عباس : أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب ، درع وخما وإزار ، ودون ذلك وقاية أو شيء من الورق ، وبه قال الشعبي والزهري وهذا مذهب الشافعي ، وقال : أعلاها على الموسع ، خادم وأوسطها ثوب وأقلها أقل ما له ثمن ، وحسن ثلاثون درهماً ، وطلق عبد الرحمن بن عوف امرأته وحممها جارية سوداء أي متعها ومتع الحسن بن علي رضي الله عنه امرأة له بعشرة آلاف درهم فقالت : " متاع قليل من حبيب مفارق " .
وقال أبو حنيفة رحمه الله : مبلغها إذا اختلف الزوجان ، قدر نصف مهر مثلها لا يجاوز والآية تدل على أنه يعتبر حال الزوج في العسر واليسر ، ومن حكم الآية : أن من تزوج امرأة بالغة برضاها على غير مهر يصح النكاح ، وللمرأة مطالبته بأن يفرض لها صداقاً ، فإن دخل بها قبل الفرض فلها عليه مهر مثلها ، وإن طلقها قبل الفرض والدخول فلها المتعة ، وإن مات أحدهما قبل الفرض والدخول اختلف أهل العلم في أنها هل تستحق المهر أم لا ؟ فذهب جماعة إلى أنه لا مهر لها وهو قول علي ، وزيد بن ثابت و عبد الله ابن عمر وعبد الله بن عباس ، كما لو طلقها قبل الفرض والدخول ، وذهب قوم إلى أن لها المهر لأن الموت كالدخول في تقرير المسمى ، كذلك في إيجاب مهر المثل إذا لم يكن في العقد مسمى ، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بما روي عن علقمة ، عن ابن مسعود ، أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات ؟ فقال ابن مسعود : لها صداق نسائها لا وكس ، ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث . فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت ، ففرح ابن مسعود رضي الله عنه . وقال الشافعي رحمه الله : فإن ثبت حديث بروع بنت واشق فلا حجة في قول أحد دون قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يثبت فلا مهر لها ولها الميراث ، وكان علي يقول : في حديث بروع ، لا نقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم يجيء حكم المطلقة قبل الدخول . وهي حالة جديدة غير حالات الطلاق بالمدخول بهن التي استوفاها من قبل . وهي حالة كثيرة الوقوع . فيبين ما على الزوجين فيها وما لهما :
( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة . ومتعوهن - على الموسع قدره وعلى المقتر قدره - متاعا بالمعروف حقا على المحسنين . وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم . إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح . وأن تعفوا أقرب للتقوى . ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير )
والحالة الأولى : هي حالة المطلقة قبل الدخول ، ولم يكن قد فرض لها مهر معلوم . والمهر فريضة ، فالواجب في هذه الحالة على الزوج المطلق أن يمتعها . أي أن يمنحها عطية حسبما يستطيع . ولهذا العمل قيمته النفسية بجانب كونه نوعا من التعويض . . إن انفصام هذه العقدة من قبل ابتدائها ينشىء جفوة ممضة في نفس المرأة ، ويجعل الفراق طعنة عداء وخصومة . ولكن التمتيع يذهب بهذا الجو المكفهر ، وينسم فيه نسمات من الود والمعذرة ؛ ويخلع على الطلاق جو الأسف والأسى . فهي محاولة فاشلة إذن وليست ضربة مسددة ! ولهذا يوصي أن يكون المتاع بالمعروف استبقاء للمودة الإنسانية ، واحتفاظا بالذكرى الكريمة . وفي الوقت نفسه لا يكلف الزوج ما لا يطيق ، فعلى الغني بقدر غناه ، وعلى الفقير في حدود ما يستطيع :
( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) . .
ويلوح بالمعروف والإحسان فيندي بهما جفاف القلوب واكفهرار الجو المحيط :
أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها . قال ابن عباس ، وطاوس ، وإبراهيم ، والحسن البصري : المس : النكاح . بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها ، والفرض لها إن كانت مفوضة ، وإن كان في هذا انكسار لقلبها ؛ ولهذا أمر تعالى بإمتاعها ، وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله ، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره .
وقال سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أمية ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : متعة الطلاق أعلاه الخادم ، ودون ذلك الورق ، ودون ذلك الكسوة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إن{[4048]} كان موسرا متعها بخادم ، أو شبه ذلك ، وإن كان معسرا أمتعها بثلاثة أثواب .
وقال الشعبي : أوسط ذلك : درع وخمار وملحفة وجلباب . قال : وكان شريح يمتع بخمسمائة . وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين قال : كان يُمتع بالخادم ، أو بالنفقة ، أو بالكسوة ، قال : ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف{[4049]} ويروى أن المرأة قالت :
متاعٌ قليلٌ من حَبِيبٍ مُفَارق
وذهب أبو حنيفة ، رحمه الله ، إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها . وقال الشافعي في الجديد : لا يجبر الزوج على قدر معلوم ، إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة ، وأحب ذلك إليَّ أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلاة . وقال في القديم : لا أعرف في المتعة قدرًا{[4050]} إلا أني أستحسن ثلاثين درهمًا ؛ لما روي عن ابن عمر ، رضي الله عنهما{[4051]} .
وقد اختلف العلماء أيضًا : هل تجب المتعة لكل مطلقة ، أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يفرض لها ؟ على أقوال :
أحدها : أنه تجب المتعة لكل مطلقة ، لعموم قوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 241 ] ولقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } [ الأحزاب : 28 ] وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن ، {[4052]} وهذا قول سعيد بن جُبير ، وأبي العالية ، والحسن البصري . وهو أحد قولي الشافعي ، ومنهم من جعله الجديد الصحيح ، فالله أعلم .
والقول الثاني : أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس ، وإن كانت مفروضًا لها لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } [ الأحزاب : 49 ] قال شعبة وغيره ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : نسخت هذه الآية التي في الأحزاب الآية التي في البقرة .
وقد روى البخاري في صحيحه ، عن سهل بن سعد ، وأبي أسَيد أنهما قالا تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنما{[4053]} كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازِقِيَّين{[4054]} {[4055]} .
والقول الثالث : أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ، ولم يفرض{[4056]} لها ، فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة ، وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول ، وجب لها عليه شطره ، فإن دخل بها استقر الجميع ، وكان ذلك عوضًا لها عن المتعة ، وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها . وهذا قول ابن عمر ، ومجاهد . ومن العلماء : من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول : وهذا ليس بمنكور{[4057]} وعليه تحمل آية التخيير في الأحزاب ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 241 ] .
ومن العلماء من يقول : إنها مستحبة مطلقًا . قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب القزويني ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو - يعني ابن أبي قيس - عن أبي إسحاق ، عن الشعبي قال : ذكروا له المتعة ، أيحبس فيها ؟ فقرأ : { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } قال الشعبي : والله ما رأيت أحدا حبس{[4058]} فيها ، والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة .