فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين 236

( ولا جناح عليكم ) المراد بالجناح هنا التبعة من المهر ونحوه ، فرفعه رفع لذلك أي لا تبعة عليكم بالمهر ونحوه ( إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ) أي مدة عدم مسيسكم ، وقال أبو البقاء : والمعنى إن طلقتموهن غير ماسين لهن ، فعلى الأولى " ما " مصدرية ظرفية ، وعلى الثاني شرطية ، وقيل إنها موصولة أي إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن أي ما لم تجامعوهن ، وقرأ ابن مسعود : من قبل أن تجامعوهن ، وقرأ غيره تماسوهن من المفاعلة .

وهكذا اختلفوا في قوله ( أو تفرضوا لهن فريضة ) فقيل أو بمعنى إلا ، أي إلا أن تفرضوا ، وقيل بمعنى حتى أي حتى تفرضوا وقيل بمعنى الواو أي وتفرضوا .

ولست أرى لهذا التطويل وجها ، ومعنى الآية أوضح من أن يلتبس ، فإن الله سبحانه رفع الجناح عن المطلقين ما لم يقع أحد الأمرين ، أي مدة انتفاء ذلك الأحد ، ولا ينتفي الأحد المبهم إلا بانتفاء الأمرين معا ، فإن وجد المسيس وجب المسمى أو مهر المثل ، وان وجد الفرض وجب نصفه مع عدم المسيس ، وكل واحد منها جناح أي المسمى أو مهر المثل أو نصفه .

واعلم أن المطلقات أربع :

مطلقة مدخول بها مفروض لها وهي التي تقدم ذكرها قبل هذه الآية ، وفيها نهي الأزواج عن أن يأخذوا مما آتوهن شيئا وأن عدتهن ثلاثة قروء .

ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها ، وهي المذكورة هنا فلا مهر لها بل المتعة ، وبين في سورة الأحزاب أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدة عليها .

ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها وهي المذكورة بقوله سبحانه ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة ) .

ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها وهي المذكورة في قوله تعالى ( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ) والمراد بالفريضة هنا تسمية المهر ، وفيها وجهان أظهرهما أنها مفعول به والتقدير شيئا مفروضا ، والثاني أن تكون منصوبة على المصدر بمعنى فرضا ، واستجود أبو البقاء الوجه الأول .

( ومتعوهن ) أي اعطوهن شيئا يكون متاعا لهن ، وظاهر الأمر الوجوب ، وبه قال علي وابن عمر والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك .

ومن أدلة الوجوب قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهم من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ) .

وقال مالك وأبو عبيد والقاضي شريح وغيرهم : إن المتعة للمطلقة المذكورة مندوبة لا واجبة لقوله تعالى ( حقا على المحسنين ) ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين ، ويجاب عنه بأن ذلك لا ينافي الوجوب بل هو تأكيد له كما في قوله في الآية الأخرى ( حقا على المتقين ) أي ان الوفاء بذلك والقيام به شأن أهل التقوى ، وكل مسلم يجب عليه أن يتقي الله سبحانه .

وقد وقع الخلاف أيضا هل المتعة مشروعة لغير هذه المطلقة قبل المسيس والفرض أم ليست بمشروعة إلا لها فقط ، فقيل : إنها مشروعة لكل مطلقة ، وإليه ذهب ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وأبو العالية والحسن البصري والشافعي في أحد قوليه وأحمد واسحق ، ولكنهم اختلفوا هل هي واجبة في غير المطلقة قبل البناء والفرض أم مندوبة فقط .

واستدلوا بقوله تعالى ( وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ) وبقوله تعالى ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ) والآية الأولى عامة لكل مطلقة والثانية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد كن مفروضا لهن مدخولا بهن .

وقال سعيد بن المسيب : إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضا لها لقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن ) قال هذه الآية التي في الأحزاب نسخت التي في البقرة .

وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المتعة مختصة بالمطلقة قبل البناء والتسمية لأن المدخول بها تستحق جميع المسمى أو مهر المثل ، وغير المدخولة التي قد فرض لها زوجها فريضة أي سمى لها مهرا وطلقها قبل الدخول تستحق نصف المسمى ، ومن القائلين بهذا ابن عمر ومجاهد .

وقد وقع الإجماع على أن المطلقة قبل الدخول أو الفرض لا تستحق إلا المتعة إذا كانت حرة ، وأما إذا كانت أمة فذهب الجمهور إلى انها لها المتعة ، وقال الأوزاعي والثوري : لا متعة لها لأنها تكون لسيدها ولا تستحق مالا في مقابل تأذي مملوكته لأن الله سبحانه إنما شرع المتعة للمطلقة قبل الدخول والفرض لكونها تتأذى بالطلاق قبل ذلك .

وقد اختلفوا في المتعة المشروعة هل هي مقدرة بقدر أم لا ، فقال مالك والشافعي في الجديد : لا حد لها معروف بل ما يقع عليه اسم المتعة ، وقال أبو حنيفة : أنه إذا تنازع الزوجان في قدر المتعة وجب لها نصف مهر مثلها ولا ينقص من خمسة دراهم ، لأن أقل المهر عشرة دراهم ، وللسلف فيها أقوال سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى .

وقوله ( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) يدل على أن الاعتبار في ذلك بحال الزوج ، فالمتعة من الغني فوق المتعة من الفقير ، والموسع هو الذي اتسعت حاله ، وقرئ الموسع بالتشديد ، وقرئ قدره بسكون الدال فيهما ، وبفتح الدال فيهما ، قال الأخفش وغيره : هما لغتان فصيحتان ، وهكذا في قوله تعالى ( فسالت أودية بقدرها ) وقوله ( وما قدروا الله حق قدره ) .

والمقتر المقل ، والتقدير على الموسع منكم أو على موسعكم قدره أي قدر إمكانه وطاقته ، وكذا يقال في الثاني ، والآية تفيد أنه لا نظر إلى قدر الزوجة ، وقيل هذا ضعيف في مذهب الشافعي ، بل ينظر الحاكم باجتهاد إلى حالهما جميعا على أظهر الوجوه .

( متاعا ) مصدر مؤكد أي متعوهن متاعا ( بالمعروف ) ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له .

وقوله ( حقا على المحسنين ) وصف لقوله متاعا أو مصدر لفعل محذوف أي حق ذلك حقا ، يقال حققت عليه القضاء وأحققت أي أوجبت ، قال ابن عباس : المس النكاح والفريضة الصداق ، وأمر الله أن يمتعها على قدر عسره ويسره ، فان كان موسرا متعها بخادم وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب ونحو ذلك ، وعنه قال متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة ، وعن ابن عمر : أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهما ، وعن الحسن بن علي أنه متع بعشرين ألفا وزقاق من عسل ، وعن شريح أنه متع بخمسمائة درهم ، وعن الحسن بن علي أيضا أنه متع بعشرة آلاف وعن ابن سيرين أنه كان يمتع بالخادم والنفقة والكسوة .