المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( 236 ) ( {[2269]} )

هذا ابتداء إخبار برفع الجناح عن المطلق قبل البناء والجماع ، فرض مهراً أو لم يفرض ، ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق( {[2270]} ) وقضاء الشهوة وأمر بالتزوج طلباً للعصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءاً من هذا المكروه ، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن . وقال قوم : { لا جناح عليكم } معناه لا طلب بجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها والمتعة لمن لم يفرض لها ، وقال قوم : { لا جناح عليكم } معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت حيض بخلاف المدخول بها ، وقال مكي : «المعنى لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصداً للذوق ، وذلك مأمون قبل المسيس » ، والخطاب بالآية لجميع الناس ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «تمسوهن » بغير ألف ، وقرأ الكسائي وحمزة «تُماسوهن » بألف وضم التاء ، وهذه القراءة الأخيرة تعطي المس من الزوجين ، والقراءة الأولى تقتضي ذلك بالمعنى المفهوم من المس( {[2271]} ) ، ورجحها أبو علي لأن أفعال هذا المعنى جاءت ثلاثية على هذا الوزن : نكح وسفد وقرع وذقط وضرب الفحل ، والقراءتان( {[2272]} ) حسنتان ، و { تفرضوا } عطف على «تمسوا » ، وفرض المهر إثباته وتحديده ، وهذه الآية تعطي جواز العقد على التفويض لأنه نكاح مقرر في الآية مبين حكم الطلاق فيه ، قاله مالك في المدونة ، والفريضة الصداق ، وقوله تعالى : { ومتعوهن } معناه أعطوهن شيئاً يكون متاعاً لهن ، وحمله ابن عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن مزاحم على الوجوب ، وحمله أبو عبيدة ومالك بن أنس وأصحابه وشريح وغيرهم على الندب ، ثم اختلفوا في الضمير المتصل ب «متعوا » من المراد به من النساء ؟ ، فقال ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي : المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض ، ومندوبة في غيرها( {[2273]} ) ، وقال مالك وأصحابه : المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها ، فحسبها ما فرض لها ولا متعة لها( {[2274]} ) ، وقال أبو ثور : لها المتعة ولكل مطلقة ، وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة( {[2275]} ) ، فقال الزهري : يقضي لها بها القاضي ، وقال جمهور الناس : لا يقضي بها ، قاله شريح ، ويقال للزوج : إن كنت من المتقين والمحسنين فمتع ولم يقض عليه .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا( {[2276]} ) مع إطلاق لفظ الوجوب عند بعضهم ، وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان : المتعة بإزاء غم الطلاق ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة( {[2277]} ) ، وقال الترمذي وعطاء والنخعي : للمختلعة متعة ، وقال أصحاب الرأي : للملاعنة متعة ، قال ابن القاسم : ولا متعة في نكاح مفسوخ( {[2278]} ) ، قال ابن المواز : ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد مثل ملك أحد الزوجين صاحبه ، وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار ، فهذه لا متعة لها ، وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذاك كله فلها المتعة ، لأن الزوج سبب الفراق ، وعليها هي غضاضة في أن لا تختار نفسها .

واختلف الناس في مقدار المتعة ، فقال ابن عمر : «أدنى ما يجزىء في المتعة ثلاثون درهماً أو شبهها » ، وروي أن ابن محيريز( {[2279]} ) كان يقضي على صاحب الديوان بثلاثة دنانير( {[2280]} ) ، وقال ابن عباس : «أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة » ، وقال عطاء : «من أوسط ذلك درع وخمار وملحفة » ، وقال الحسن : «يمتع كل على قدره : هذا بخادم ، وهذا بأثواب ، وهذا بثوب وهذا بنفقة » ، وكذلك يقول مالك بن أنس( {[2281]} ) ، ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفاً وزقاق من عسل ، ومتع شريح بخمسمائة درهم ، وقالت أم حميد بن عبد الرحمن بن عوف : «كأني انظر إلى خادم سوداء متع بها عبد الرحمن بن عوف زوجه أم أبي سلمة » ، وقال أصحاب الرأي وغيرهم : متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير( {[2282]} ) ، وقوله تعالى { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } دليل على رفض التحديد ، وقرأ الجمهور «على الموْسِع » بسكون الواو وكسر السين بمعنى الذي أوسع أي اتسعت حاله ، وقرأ أبو حيوة : «الموسَّع » بفتح الواو وشد السين وفتحها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «قدْره » بسكون الدال في الموضعين ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «قدَره » بفتح الدال فيهما ، قال أبو الحسن الأخفش وغيره : هما بمعنى لغتان فصيحتان ، وكذلك حتى أبو زيد ، تقول : خذ قدر كذا وقدر كذا بمعنى ، ويقرأ في كتاب الله { فسالت أودية بقدرها }( {[2283]} ) [ الرعد : 17 ] وقدرها ، وقال : { وما قدروا الله حق قدره }( {[2284]} ) [ الأنعام : 91 ] ، ولو حركت الدال لكان جائزاً ، و { المقتر } : المقل القليل المال ، و { متاعاً } نصب على المصدر وقوله تعالى { بالمعروف } أي لا حمل فيه ولا تكلف على أحد الجانبين ، فهو تأكيد لمعنى قوله { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } ، ثم أكد تعالى الندب بقوله { حقاً على المحسنين } أي في هذه النازلة من التمتيع هم محسنون ، ومن قال بأن المتعة واجبة( {[2285]} ) قال : هذا تأكيد الوجوب ، أي على المحسنين بالإيمان والإسلام ، فليس لأحد أن يقول لست بمحسن على هذا التأويل ، و { حقاً } صفة لقوله { متاعاً } ، أو نصب على المصدر وذلك أدخل في التأكيد للأمر( {[2286]} ) .


[2269]:- الظاهر أن (أو) بمعنى (الواو) – أي: ما لم تمسّوهن ولا تفرضوا لهن، ووضع (أو) موضع (الواو (كثير في القرآن كقوله تعالى: [ولا تطع منهم آثما أو كفورا] أي: وكفورا، وكقوله تعالى: [وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياناً أو هم قائلون] أي: وهم قائلون، ويدل على هذا أنه تعالى عطف المفروض لها بقوله: [وإن طلّقتموهن من قبل أن تمِسّوهن وقد فرضتم لهنّ فريضة] الآية، فلو كانت آية: [لا جناح عليكم إن طلّقتم النساء] لبيان طلاق المفروض لها قبل المس لما كرره. والحاصل أن المطلقة بعد الدخول والفرض لها المفروض كاملا – والمطلقة قبل الدخول مع الفرض لها نصف المفروض، والمطلقة قبل الدخول والفرض لها المتعة لأنها لا شيء لها، وذلك لجبر خاطرها وتطييب نفسها، وهذا التفصيل له حظ من النظر الصحيح، والله أعلم.
[2270]:- جاء ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات)، رواه ابن جرير بسنده عن شهر بن حوشب الشامي، وروى الطبراني عن أبي موسى مرفوعاً: (لا أحب الذواقين من الرجال ولا الذواقات من النساء)، وروى الديلمي عن أبي هريرة: (تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات).
[2271]:- يقال: مَسَّ امرأته وماسَّها كما يقال: لمَسها ولامسها، إلا أن ماسَّ يدل على وقوع المَس من الجانبين بمادته وصيغته، ومسَّ يدل على ذلك بمضمونه ومفهومه.
[2272]:- يعني أنه لا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، وهما متفقتان في الحكم والمفهوم والقراءة بكل منهما.
[2273]:- أي غير المطلقة قبل البناء والفرض.
[2274]:- لقوله تعالى: [وإن طلّقتموهن من قبل أن تمسّوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم].
[2275]:- لقوله تعالى: [لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسّوهن أو تفرضوا لهنّ فريضة ومتِّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المُقْتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين]. واختلف أيحكم بالمتعة أم لا ؟ وسبب ذلك الاختلاف في فهم الأمر في الآية أهو للإيجاب أم للندب ؟ ويروى عن الشعبي أنه سئل عن المتعة: أيحبس فيها ؟ فقرأ: [على الموسع قدره وعلى المقتر قدره] قال: والله ما رأيت أحدا حُبس فيها، والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة، ويدل على ذلك قوله تعالى: [حقا على المحسنين] [حقا على المتقين] إذ لو كانت واجبة لوقع الحكم بها على غير المتقين، وأكثر الناس لا يتقون.
[2276]:- يعني أن هذا الإجماع وقع مع إطلاق بعضهم لفظ الوجوب في كل مطلقة، وأما مالك رحمه الله فقد ربط المتعة بإزاء غم الطلاق، ولذلك استثنى المرأة التي تتسبب في الطلاق.
[2277]:- أي لا قبل البناء ولا بعده لأنها هي التي اختارت الطلاق.
[2278]:- أي لقوله تعالى: [وللمطلقات متاع بالمعروف] ولقوله تعالى: [ومتّعوهن] بعد ذكر الطلاق، وعليه فالمتعة في الطلاق لا في الفسخ.
[2279]:- هو عبد الله بن محيريز أبو محيريز المسكي التابعي المتوفى كما قيل في خلافة عمر ابن عبد العزيز.
[2280]:- هو من سجل اسمه فيه ليأخذ عطاءه سواء أكان من الجيش أم من غيره.
[2281]:- هذا أعدل الأقوال لقوله تعالى: [على الموسِع قدره وعلى المقْتِر قدره]، ولكل زمن مستواه المادي وكذلك لكل مجتمع.
[2282]:- يمنع هذا قوله تعالى: [على الموسع قدره وعلى المقتر قدره] فإن هذا النص يرفض التحديد، والله أعلم.
[2283]:- من الآية (17) من سورة (الرعد).
[2284]:- من الآية (67) من سورة (الزمر).
[2285]:- رجح الإيجاب الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله، وقد اعترضه القاضي أبو محمد رحمه الله عند قوله تعالى: [وللمطلّقات متاع بالمعروف حقّا على المتّقين] انظره.
[2286]:- أي متاعاً ثابتاً على المحسنين، أو: حقّ عليهم حقا على أنه مصدر منصوب.