الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

قوله تعالى : { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } : في " ما " هذه ثلاثةُ أقوالٍ ، أظهرُها : أن تكونُ مصدريةً ظرفيةً ، تقديرُهُ : مدةَ عدمِ المَسيس كقوله :

إني بحبلِكَ واصلٌ حَبْلِي *** وبريش نَبْلِكَ رائِشٌ نَبْلي

ما لم أَجِدْكَ على هُدَى أَثَرٍ *** يَقْرُو مِقَصَّكَ قائِفٌ قَبْلي

والثاني : أن تكونَ شرطيةً بمعنى إنْ ، نقله أبو البقاء . وليس بظاهرٍ ، لأنه يكونُ حينئذٍ من بابِ اعتراضِ الشرطِ على الشرطِ ، فيكونُ الثاني قيداً في الأول نحو : " إنْ تأتِ إنُ تُحْسِنْ إليَّ أكرمْك " أي : إنْ أتيتَ مُحْسِناً ، وكذا في الآيةِ الكريمة : إنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ غيرَ ماسِّين لَهُنَّ ، بل الظاهرُ أنَّ هذا القائل إنما أرادَ تفسير المعنى ، لأنَّ " ما " الظرفيةَ مُشَبَّهةُ بالشرطيةِ ، ولذلك تقتضي التعميم . والثالث : أن تكونَ موصولة بمعنى الذي ، وتكونُ للنساءِ ؛ كأنه قيلَ : إنْ طَلَّقْتُمْ النساءَ اللائي لم تَمَسُّوهُنَّ ، وهو ضعيفٌ ، لأنَّ " ما " الموصولةَ لا يُوصَفُ بها ، وإنْ كان يوصفُ بالذي والتي وفروعِهِا .

وقرأ الجمهورُ : " تَمَسُّوهُنَّ " ثلاثياً وهي واضحةٌ . وقرأ حمزة والكسائي : " تماسُّوهُنَّ " من المفاعلَةِ ، فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ فاعَلَ بمعنى فَعَل كسافر ، فتوافِقَ الأولى ، ويُحْتَمل أَنْ تكونَ على بابِها من المشاركَةِ ، فإنَّ الفعلَ مِن الرجلِ والتمكينَ من المرأةِ ، ولذلك قيلَ لها زانيةٌ . ورجَّح الفارسي قراءة الجمهورِ بأنَّ أفعالَ هذا البابِ كلَّها ثلاثيةٌ نحو : نكح فرع سفد وضربَ الفحلُ .

قوله : { أَوْ تَفْرِضُواْ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مجزومٌ عطفاً على " تَمَسُّوهُنَّ " ، و " أَو " على بابها من كونِها لأحدِ الشيئين ، قاله ابن عطية . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمار أَنْ عطفاً على مصدرٍ متوهمٍ ، و " أو " بمعنى إلاَّ التقدير : ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أَنْ تَفْرِضُوا ، كقولِهِم : لألزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي ، قاله الزمخشري . والثالث : أنه معطوفٌ على جملةٍ محذوفةٍ تقديره : " فَرَضْتُم أو لم تَفْرِضُوا " فيكونُ هذا من بابِ حذفِ الجزمِ وإبقاءِ عمله ، وهو ضعيفٌ جداً ، وكأنَّ الذي حَسَّنَ هذا كونُ لفظِ " لم " موجوداً قبل ذلك . والرابع : أن تكونَ " أو " بمعنى الواو ، و " تَفْرِضُوا " عطفاً على " تَمَسُّوهُنَّ " فهو مجزومٌ أيضاً .

قوله : { فَرِيضَةً } فيها وجهان ، أظهرُهما : أنها مفعولٌ به وهي بمعنى مفعولة ، أي : إلاَّ أَنْ تَفْرِضُوا لهنَّ شيئاً مفروضاً . والثاني : أن تكونَ منصوبةً على المصدرِ بمعنى فَرْضاً . واستجود أبو البقاء الوجهَ الأولَ ، قال : " وأَنْ يكونَ مفعولاً به وهو الجيدُ " والموصوفُ محذوفٌ تقديرُهُ : متعةً مفروضةً .

قوله : { وَمَتِّعُوهُنَّ } قال أبو البقاء : " وَمَتِّعُوهُنَّ معطوفٌ على فعلٍ محذوف تقديرُهُ : فَطَلِّقُوهُنَّ ومَتِّعُوهُنَّ " . وهذا لا حاجَةَ إليه ، فإنَّ الضميرَ المنصوبَ في " مَتِّعوهن " عائدٌ على المطلقاتِ قبل المسيسِ وقبلَ الفَرْضِ ، المذكورَيْن في قولِه : { إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ } إلى آخرها .

قوله : { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ } ، جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، وفيها قولان ، أحدُهما : أنها لا محلَّ لها من الإِعراب ، بل هي استئنافيَّةٌ بَيَّنَتْ حالَ المُطَلِّقِ بالنسبةِ إلى إيسارِهِ وإقتارِهِ . والثاني : أنها في موضعِ نصبٍ على الحالِ ، وذو الحال/ فاعل " متِّعوهن " . قال أبو البقاء : " تقديرُهُ : بقَدر الوُسْع " ، وهذا تفسير معنىً . وعلى جَعْلِهَا حاليةً فلا بُدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها ، وهو محذوفٌ تقديرهُ : على الموسِع منكم . ويجوزُ على مذهبِ الكوفيين ومَنْ تابعهم أن تكونَ الألفُ واللامُ قامَتْ مقامَ الضميرِ المضافِ إليه تقديرُهُ : " على مُوْسِعِكُم قَدَرُه " .

وقرأ الجمهورُ : " المُوسِعِ " بسكونِ الواو وكسرِ السينِ اسمَ فاعِلٍ من أَوْسع يُوسع . وقرأ أبو حيوة بفتح الواو والسين مشددة ، اسمَ مفعولٍ من " وسَّعَ " . وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان وحفص : " قَدَرَه " بفتحِ الدالِ في الموضعين ، والباقون بسكونِها .

واختلفوا : هل هما بمعنىً واحدٍ أو مختلفان ؟ فذهب أبو زيد والأخفش وأكبرُ أئمةِ العربيةِ إلى أنهما بمعنىً واحدٍ ، حكى أبو زيد : " خُذْ قَدَر كذا وقَدْر كذا " ، بمعنى واحدٍ ، قال : " ويُقْرَأُ في كتابِ اللَّهِ : " فسالتْ أوديةٌ بقدَرها " و " قَدْرها " ، وقال : { وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الرعد : 17 ] ولو حُرِّكَت الدالُ لكان جائزاً . وذهبَ جماعةٌ إلى أنهما مختلفانِ ، فالساكنُ مصدرٌ والمتحركُ اسمٌ كالعَدِّ والعَدَدِ والمَدِّ والمَدَد ، وكأنَّ القَدْر بالتسكين الوُسْعُ ، يقال : " هو يُنفق على قَدْرِهِ " أي وُسْعِهِ . وقيل : بالتسكين الطاقةُ ، وبالتحريك المقدارُ . قال أبو جعفر : " وأكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحريكِ إذا كان مساوياً للشيءِ ، يُقال : " هذا على قدَر هذا " .

وقرأ بعضهم بفتحِ الراء ، وفي نصبِه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ منصوباً على المعنى ، قال أبو البقاء : " وهو مفعولٌ على المعنى ، لأنَّ معنى " مَتِّعوهن " لِيُؤَدِّ كلٌّ منكم قدَرَ وُسْعِهِ " وشَرْحُ ما قاله أن يكونَ من باب التضمين ، ضَمَّنَ " مَتِّعوهنَّ " معنى " أدُّوا " . والثاني : أن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ تقديرُهُ : فَأَوْجِبوا على الموسِعِ قَدَره . وجعله أبو البقاء أجودَ من الأول . وفي السجاوندي : " وقال ابن أبي عبلة : " قَدَرَه أي قَدَرَه الله " انتهى . وظاهِرُ هذا أنه قرأ بفتحِ الدالِ والراءِ ، فيكونُ " قَدَرَه " فعلاً ماضياً ، وجَعَلَ فيه ضميراً فاعلاً يعودُ على اللِّهِ تعالى ، والضميرُ المنصوبُ يعود على المصدرِ المفهومِ من " مَتِّعوهن " . والمعنى : أنَّ الله قَدَرَ وكَتَبَ الإِمتاعَ على المُوسِعِ وعلى المُقْتِرِ .

قوله : { مَتَاعاً } في نصبِهِ وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ على المصدرِ ، وتحريرُه أنه اسمُ مصدرٍ ، لأنَّ المصدرَ الجاريَ على صَدْرِهِ إنَّما هو التمتيعُ ، فهو من بابِ : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] . وقال الشيخ : " قالوا : انتصَبَ على المصدرِ ، وتحريرُهُ أن المتاعَ هو ما يُمَتَّع به ، فهو اسمٌ له ، ثم أُطْلِقَ على المصدرِ على سبيلِ المجازِ ، والعامِلُ فيه : " وَمَتِّعوهُنَّ " وفيه نظرٌ ، لأنَّ المعهود أنْ يُطلَق المصدرُ على أسماءِ الأعيان كضَرْب بمعنى مَضْروب ، وإمَّا إطلاقُ الأعيان على المصدرِ فلا يجوزُ ، وإنْ كانَ بعضُهم جَوَّزه على قلةٍ نحو قولهم : " تِرْبَاً وَجَنْدلاً " و " أقائماً وقد قَعَدَ الناسُ " . والصحيح أن " تِرْباً " ونحوَه مفعولٌ به ، و " قائماً " نصبٌ على الحالِ .

والثاني من وَجْهَي " متاعاً " أن يَنْتَصِبَ على الحالِ . والعاملُ فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرورُ من معنى الفعلِ ، وصاحبُ الحالِ ذلك الضميرُ المستكنُّ في ذلك العاملِ ، والتقديرُ : قَدَرُ الموسِعِ يستقرُّ عليه في حالِ كونِهِ متاعاً .

قوله : { بِالْمَعْرُوفِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يتعلَّقَ بمتِّعوهن فتكون الباءُ للتعديةِ . والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمتاعا ، فيكونَ في محلِّ نصبٍ ، والباءُ للمصاحبةِ ، أي : متاعاً ملتبساً بالمعروفِ . وجَوَّز الحوفي وجهاً ثالثاً وهو أنْ يتعلَّقَ بنفسِ " متاعاً " .

قوله : { حَقّاً } في نصبِه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملةِ قبله كقولِك : " هذا ابني حقاً " وهذا المصدرُ يَجبُ إضمارُ عامِله تقديرُه : حَقَّ ذلك حقاً . ولا يجوزُ تقديمُ هذا المصدر على الجملةِ قبلَه . والثاني : أَنْ يكونَ صفةً لمتاعاً ، أي : متاعاً واجباً على المحسنين . والثالث : أنه حالٌ مِمَّا كان حالاً منه " متاعاً " ، وهذا على رأي مَنْ يجيز تعدُّد الحالِ . والرابعُ : أن يكونَ حالاً من " المعروف " ، أي بالذي عُرِف في حالِ وجوبِه على المحسنين . و " على المحسنين " يجوزُ أن يتعلَّقَ بحقاً ، لأنه بمعنى الواجبِ ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ له .