اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

قوله : " مَا لَمْ " في " مَا " ثلاثة أقوالٍ :

أظهرها : أن تكون مصدريةً ظرفيةً ، تقديره : مدَّة عدم المسيس ، كقوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } [ هود :107 ] وقوله : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة :117 ] .

وقول الآخر : [ الكامل ]

إِنِّي بِحَبْلِكَ وَاصِلٌ حَبْلِي *** وَبِرِيشِ نَبْلِكَ رَائِشٌ نَبْلِي

مَا لَمْ أَجِدْكَ عَلَى هُدَى أَثَرٍ *** يَقْرُو مَقَصَّكَ قَائِفٌ قَبْلِي{[3869]}

والثاني : أن تكون شرطيةً ، بمعنى " إِنْ " نقله أبو البقاء{[3870]} . وليس بظاهرٍ ؛ لأنه يكون حينئذٍ من باب اعتراض الشرط على الشرط ، فيكون الثاني قيداً في الأول ؛ نحو : " إِنْ تَأْتِ إِنْ تُحْسِنْ إِلَيَّ أُكْرِمْكَ " أي : إن أتيت محسناً ، وكذا في الآية الكريمة : إن طلَّقتموهنَّ غير ماسِّين لهنَّ ، بل الظاهر : أنَّ هذا القائل إنما أراد تفسير المعنى ؛ لأنَّ " مَا " الظرفية مشبَّهة بالشرطيَّة ، ولذلك تقتضي التعميم .

والثالث : أن تكون موصولة بمعنى " الَّذِي " ، وتكون للنساء ؛ كأنه قيل : إن طلَّقتم النِّساء اللاَّئي لم تمسُّوهنَّ ، وهو ضعيفٌ ، لأنَّ " مَا " الموصولة لا يوصف بها ، وإن كان يوصف ب " الَّذِي " ، و " الَّتي " ، وفروعهما .

وقرأ الجمهور : " تَمَسُّوهُنَّ " ثلاثيّاً وهى واضحةٌ ؛ لأن الغشيان من فعل الرجل ؛ قال تعالى حكاية عن مريم { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ مريم :20 ] . وقرأ حمزة{[3871]} والكسائيُّ في الأحزاب " تُمَاسُّوهُنَّ " من المفاعلة ، فيحتمل أن يكون " فَاعَلَ " بمعنى " فَعَلَ " ك " سَافَرَ " ، فتوافق الأولى ، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة ؛ كما قال تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } [ المجادلة :3 ] ، وأيضاً : فإنَّ الفعل من الرجل والتمكين من المرأة ، ولذلك قيل لها زانيةٌ ، ورجَّح الفارسيّ قراءة الجمهور ؛ بأنَّ أفعال هذا الباب كلَّها ثلاثيّةٌ ؛ نحو : نَكَحَ ، فَرَعَ ، سَفَدَ ، وضَرَبَ الفَحْلُ .

قال تعالى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } [ الرحمن :74 ] ، وقال : { فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } [ النساء :25 ] ، وأمّا قوله في الظّهار : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } [ المجادلة :3 ] فالمراد به المماسَّة التي هي غير الجماع ، وهي حرام في الظهار .

قوله : " أَوْ تَفْرِضُواْ " فيه أربعة أوجهٍ :

أحدها : أنه مجزوم عطفاً على " تَمَسُّوهُنَّ " ، و " أَوْ " على بابها من كونها لأحد الشيئين ، قاله ابن عطيَّة .

والثاني : أنه منصوب بإضمار " أَنْ " عطفاً على مصدر متوهَّم ، و " أَوْ " بمعنى " إِلاَّ " ، التقدير : ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أن تفرضوا ؛ كقولهم : " لأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَني حَقِّي " قاله الزمخشريُّ .

والثالث : أنه معطوف على جملةٍ محذوفةٍ ، تقديره : " فَرَضْتُمْ أَوْ لَم تَفْرِضُوا " ، فيكون هذا من باب حذف الجزم وإبقاء عمله ، وهو ضعيفٌ جدًّا ، وكأنَّ الذي حسَّن هذا كون لفظ " لَمْ " موجوداً قبل ذلك .

والرابع : أن تكون " أَوْ " بمعنى الواو .

قال تعالى : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف :4 ] أي : وهم قائلون { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات :147 ] أي : ويزيدون ، وقوله : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان :24 ] وقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى } [ النساء :43 ] معناه وجاء أحدٌ منكم من الغائط ، وأنتم مرضى أو مسافرون .

قال ابن الخطيب{[3872]} : فإذا تأمَّلت هذا القول ، علمت أنّه متكلفٌ ، بل خطأٌ قطعاً ، والفرض في اللغة : التقدير ، أي : تقدِّروا لهن شيئاً .

قوله : " فَرِيضَةً " فيه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعولٌ به ، وهو بمعنى مفعولة ، أي : إلاَّ أن تفرضوا لهنَّ شيئاً مفروضاً .

والثاني : أن تكون منصوبةٌ على المصدر بمعنى فرضاً ، واستجود أبو البقاء{[3873]} الوجه الأول ؛ قال : " وأَنْ يكونَ مفعولاً به ، وهو الجَيِّدُ " والموصوف محذوفٌ ، تقديره : متعةً مفروضةً .

فصل في سبب النزول

هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمِّ لها مهراً ، ثم طلَّقها قبل أن يمسَّها ؛ فنزلت هذه الآية ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِك " {[3874]} .

قوله : " وَمَتِّعُوهُنَّ " : قال أبو البقاء{[3875]} : " وَمَتِّعُوهِنَّ " معطوف على فعل محذوفٍ ، تقديره : " فَطلِّقوهنَّ ومتِّعوهنَّ " ، وهذا لا حاجة إليه ؛ فإنَّ الضمير المنصوب في " مَتِّعُوهُنَّ " عائدٌ على المطلَّقات قبل المسيس ، وقبل الفرض ، المذكورين في قوله : { إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ . . . } إلى آخرها .

فإن قيل : ظاهر الآية مشعرٌ بأن نفي الجناح عن المطلق مشروطٌ بعدم المسيس ، وليس كذلك ، فإنّه لا جناح عليه أيضاً بعد المسيس .

فالجواب من وجوه :

الأول : أنّ الآية دالةٌ على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقاً في زمان الحيض ، وغيره ؛ فكان عدم المسيس شرطاً في إباحة الطلاق مطلقاً .

الثاني : ما قدمناه من أنَّ " مَا " بمعنى " الذي " ، والتقدير : إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسُّوهنَّ ؛ إلاَّ أنَّ " ما " اسمٌ جامدٌ لا ينصرف ، ولا يبين فيه الإعراب ، وعلى هذا فلا تكون " مَا " شرطاً فزال السؤال .

الثالث : قال القفال{[3876]} : إن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر ، وتقديره : لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسُّوهنَّ أو تفرضوا لهنَّ فريضة ، يعني : لا يجب المهر إلاّ بأحد هذين الأمرين ، فإذا فقدا جميعاً لم يجب المهر .

قال ابن الخطيب{[3877]} : وهذا ظاهر ، وبيان أنَّ قوله : " لاَ جُنَاحَ " معناه : لاَ مَهْرَ ؛ لأنَّ إطلاق لفظ " الجنَاحِ " على المهر محتملٌ ؛ لأن أصل الجناح في اللغة : الثقل ، يقال : جَنَحتِ السفينة ، إذا مالت بثقلها ، والذنب يسمَّى جناحاً ؛ لما فيه من الثِّقل ، قال تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت :13 ] ، وإذا ثبت أن الجناح هو الثقل ، ولزوم أداء المال ثقل ، فكان جُنَاحاً ، ويدلُّ على أنَّ هذا هو المراد وجهان :

الأول : أنه تعالى قال : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } نفى الجناح محدوداً إلى غاية ، وهي إمَّا المسيس ، أو الفرض والتقدير ، فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ، ثم إنَّ الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين ، هو لزوم المهر .

الوجه الثاني : أنَّ تطليق النساء قبل المسيس ، وبعد تقدير المهر ، وهو المذكور في الآية التي بعدها ، هو تقدير المهر ، وقد أوجب فيه نصف المهر وهذا كالمقابل له ، فوجب أن يكون الجناح المنفي عنه هناك ، هو المثبت هاهنا ، فلما كان المثبت في الآية التي بعدها ، هو لزوم المهر ، وجب أن يقال : الجناح المنفي في هذه الآية هو لزوم المهر .

قوله : { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ } جملةٌ من مبتدأ وخبر ، وفيها قولان :

أحدهما : أنها لا محلَّ لها من الإعراب ، بل هي استئنافيَّةٌ بيَّنت حال المطلِّق بالنسبة إلى إيساره وإقتاره .

والثاني : أنها في موضع نصب على الحال ، وذو الحال فاعل " مَتِّعُوهُنَّ " .

قال أبو البقاء{[3878]} : " تقديره : بقَدر الوُسْعِ " ، وهذا تفسير معنًى ، وعلى جعلها حاليةً : فلا بدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها ، وهو محذوفٌ ، تقديره : على المُوسِع مِنْكُمْ ، ويجوز على مذهب الكوفيين ومن تابعهم : أن تكون الألف واللام قامت مقام الضمير المضاف إليه ، تقديره : " عَلَى مُوسِعِكُمْ قَدَرُهُ " .

وقرأ الجمهور : " المُوسِعِ " بسكون الواو وكسر السين ، اسم فاعل من أوسَعَ يُوسِعُ ، وقرأ{[3879]} أبو حيوة بفتح الواو وتشديد السين ، اسم مفعولٍ من " وَسَّعَ " . وقرأ حمزة{[3880]} والكسائيُّ وابن ذكوان وحفصً : " قَدَرهُ " بفتح الدال في الموضعين ، والباقون بسكونها .

واختلفوا : هل هما بمعنًى واحدٍ ، أو مختلفان ؟ فذهب أبو زيد والأخفش{[3881]} ، وأكثر أئمة العربية إلى أنهما بمعنًى واحدٍ ، حكى أبو زيدٍ : " خُذْ قَدَرَ [ كَذَا ] وقَدْرَ كَذَا " ، بمعنًى واحدٍ ، قال : " ويُقْرَأُ في كتاب الله : { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد :17 ] ، و " قَدْرِهَا " ، وقال : { وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الأنعام :91 ] ولو حركت الدال ، لكان جائزاً . وذهب جماعةٌ إلى أنهما مختلفان ، فالساكن مصدرٌ والمتحرك اسمٌ ؛ كالعدِّ والعدد ، والمدِّ والمدد ، وكأنَّ القدر بالتسكين الوسع ، يقال : " هُوَ يُنْفِقُ عَلَى قَدْرِهِ " أي وسعه ، وقيل : بالتَّسكين الطاقة ، وبالتحريك المقدار ، قال أبو جعفر : " وَأَكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحْرِيكِ ، إذا كان مساوياً للشيء ، يقال : هَذَا عَلَى قَدَرِ هَذَا " .

وقرأ بعضهم بفتح الراء ، وفي نصبه وجهان :

أحدهما : أن يكون منصوباً على المعنى .

قال أبو البقاء{[3882]} : وهو مفعولٌ على المعنى ؛ لأنَّ معنى " مَتِّعُوهُنَّ " [ لِيُؤَدِّ كُلٌّ مِنْكُمْ قَدَرَ وُسْعِهِ " وشرح ما قاله : أن يكون من باب التضمين ، ضمَّن " مَتِّعُوهُنَّ " ] معنى " أَدُّوا " .

والثاني : أن يكون منصوباً بإضمار فعلٍ ، تقديره : فأوجبوا على الموسع قدره ، وجعله أبو البقاء{[3883]} أجود من الأول ، وفي السَّجاونديِّ : " وقال ابن أبي عبلة : قَدَرَهُ ، أي : قَدَرَهُ اللهُ " انتهى .

وظاهر هذا : أنه قرأ بفتح الدال والراء ، فيكون " قَدَرَهُ " فعلاً ماضياً ، وجعل فيه ضميراً فاعلاً يعود على الله تعالى ، والضمير المنصوب يعود على المصدر المفهوم من " مَتِّعُوهُنَّ " ، والمعنى : أنَّ الله قدر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر .

قوله : " مَتَاعاً " في نصبه وجهان :

أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدر ، وتحريره أنه اسم مصدرٍ ؛ لأنَّ المصدر الجاري على صدره إنَّما هو التمتيع ، فهو من باب : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح :17 ] . وقال أبو حيَّان : قالوا : انتصَبَ على المصدرِ ؛ وتحريرُهُ : أن المتاع هو ما يمتع به ، فهو اسمٌ له ، ثم أطلق على المصدر ؛ على سبيل المجاز ، والعامل فيه : " وَمَتِّعُوهُنَّ " قال شهاب الدين : وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ المعهود أن يطلق المصدر على أسماء الأعيان ؛ كضربٍ بمعنى مضروبٍ ، وأمَّا إطلاق الأعيان على المصدر ، فلا يجوز ، وإن كان بعضهم جوَّزه على قلَّةٍ ؛ نحو قولهم : " تِرْباً وَجَنْدَلاً " و " أَقَائِماً ، وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ " ، والصحيح أن " تِرْباً " ونحوه مفعولٌ به ، و " قائماً " نصبٌ على الحال .

[ والثاني من وجهي " مَتَاعاً " أن ينتصب على الحال ] ، والعامل فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرور من معنى الفعل ، وصاحب الحال ذلك الضمير المستكنُّ في ذلك العامل ، والتقدير : قدر الموسع يستقرُّ عليه في حال كونه متاعاً .

قوله : " بِالْمَعْرُوفِ " فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلَّق ب " مَتِّعُوهُنَّ " ، فتكون الباء للتعدية .

والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " مَتَاعاً " ؛ فيكون في محلِّ نصبٍ ، والباء للمصاحبة ، أي : متاعاً ملتبساً بالمعروف .

قوله : " حَقّاً " في نصبه أربعة أوجه :

أحدها : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملة قبله ؛ كقولك : " هَذَا ابْنِي حَقّاً " وهذا المصدر يجب إضمار عامله ، تقديره : حَقَّ ذلك حقّاً ، ولا يجوز تقديم هذا المصدر على الجملة قبله .

والثاني : أن يكون صفةً ل " مَتَاعاً " ، أي : متاعاً واجباً على المحسنين .

والثالث : أنه حالٌ ممَّا كان حالاً منه " مَتَاعاً " وهذا على رأي من يجيز تعدُّد الحال .

والرابع : أن يكون حالاً من " المَعْرُوفِ " ، أي : بالذي عرف في حال وجوبه على المحسنين ، و " عَلَى المُحْسِنِينَ " يجوز أن يتعلَّق ب " حَقًّا " ؛ الواجب ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنه صفةٌ له .

فصل

اعلم أن المطلقات أربعة أقسام :

القسم الأول : وهو ألاَّ يؤخذ منهم على الفراق شيءٌ ظلماً ، وأخبر أن لهن كمال المهر ، وعليهن العدَّة .

القسم الثاني : المطلقة قبل الدُّخول ، وقد فرض لها - وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه - وبيَّن أنَّ لها نصف المفروض لها ، وبيّن في سورة الأحزاب أنَّ لا عدَّة على غير المدخول بها ؛ فقال : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب :49 ] .

القسم الرابع : المطلقة بعد الدُّخول ، ولم يكن فرض لها ، وحكم هذا القسم ، مذكورٌ في قوله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ النساء :24 ] .

والقياس أيضاً يدلّ عليه ، فإنّ الأمَّة مجمعةٌ على أن الموطوءة بشبهةٍ لها مهر المثل ، والموطوءة بنكاحٍ صحيحٍ ، أولى بهذا الحكم .

فصل

تمسك{[3884]} بعضهم بهذه الآية على أنَّ جمع الثلاثة ليس بحرامٍ ، قالوا : لأن قوله : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } يتناول جميع أنواع التطليق بدليل أنّه يصحُّ استثناء الثلاث منها ، فيقال : لا جناح عليكم إن طلَّقتم النساء إلاّ إذا طلَّقتموهنَّ بثلاث تطليقاتٍ فإنّ عليكم الجناح ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، وعلى هذا فتتناول هذه الآية جميع أنواع التطليق مفرداً أو مجموعاً .

قال ابن الخطيب{[3885]} : وهذا الاستدلال ضعيفٌ ؛ لأن الآية دالَّةٌ على تحصيل هذه الماهيَّة في الوجود ، ويكفي في العمل بها إدخاله في الوجود مرَّةً واحدةً ، ولهذا قلنا : إنَّ الأمر المطلق لا يفيد التكرار ، كما إذا قال لامرأته : إن دخلت الدار ، فأنت طالقٌ ، فإن اليمين انعقدت على المرّة الواحدة فقط ، فثبت أنَّ هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع ، وأمَّا الاستثناء فإنَّه يشكل بالأمر ، لأنّه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحقّقين ، مع أنَّه يصحُّ أن يقال : صلِّ إلاَّ في الوقت الفلانيّ .

فصل في جواز عقد النكاح بغير مهر

قال بعض العلماء{[3886]} {[3887]} : دلَّت هذه الآية على أنَّ عقد النكاح بغير المهر جائزٌ .

وقال القاضي{[3888]} : لا تدلُّ على الجواز ، لكنها تدلُّ على الصِّحة ، فإنّه لو لم يكن صحيحاً ، لم يكن الطلاق مشروعاً ، ولم تلزم المتعة ، ولا يلزم من الصِّحة الجواز ، بدليل أنّ الطلاق في زمن الحيض حرامٌ وإذا أوقعه صحَّ .

فصل

بيَّن في هذه الآية أن المطلقة قبل الدخول والفرض ، لها المتعة ، وقد تقدّم تفسير " المُتْعَةِ " في قوله : { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ } [ البقرة :196 ] .

واعلم أنَّ المطلَّقة قبل الدخول ، إن كان قد فرض لها ، فلا متعة لها في قول الأكثرين ؛ لأن الله تعالى أوجب في حقِّها نصف المهر ، ولم يذكر المتعة ، ولو كانت واجبةً ، لذكرها . وإن لم يكن فرض لها فلها المتعة ؛ لهذه الآية .

قال القرطبي : من جهل المتعة حتَّى مضت أعوامٌ ، فليدفع ذلك إليها ، وإن تزوَّجت ، وإلى ورثتها إن ماتت ، رواه ابن المواز ، عن ابن القاسم .

وقال أصبغ : لا شيء عليه ، إن ماتت ؛ لأنها تسليةٌ للزوجة عن الطَّلاق ، وقد فات ذلك .

ووجه الأول : أنه حقٌّ ثبت عليه ، فينتقل إلى ورثتها ، كسائر الحقوق .

واختلفوا في المطلَّقة بعد الدُّخول ، فذهب جماعةٌ : إلى أنه لا متعة لها ؛ لأنها تستحق المهر ، وهو قول أصحاب الرأي . وذهب جماعةٌ : إلى أنَّ لها المتعة ؛ لقوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة :241 ] ، وهو قول عبد الله بن عمر ، وبه قال عطاء ، ومجاهد ، والقاسم بن محمد ، وإليه ذهب الشافعيُّ قال : لأنها تستحقُّ المهر بمقابلة إتلاف منفعة البضع ، ولها المتعة على وحشة الفراق .

وقال الزُّهريُّ{[3889]} : متعتان يقضي بإحداهما السلطان ، وهي المطلقة قبل الفرض ، والمسيس ، وهي قوله : { حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } ومتعةٌ تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى لا يقضي بها السلطان وهي المطلقة بعد الفرض والمسيس وهي قوله : " حَقّاً عَلَى المتَّقين " .

وذهب الحسن ، وسعيد بن جبير{[3890]} : إلى أنَّ لكل مطلقةٍ متعةٌ ، سواء كان قبل الفرض ، والمسيس ، أو بعده ؛ كقوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة :241 ] ؛ ولقوله في سورة الأحزاب : { فَمَتِّعُوهُنَّ } [ الأحزاب :49 ] وقال الآخر : المتعة غير واجبةٍ ، والأمر بها أمر ندبٍ ، واستحباب .

روي أنَّ رجلاً طلّق امرأته ، وقد دخل بها ؛ فخاصمته إلى شريح في المتعة ؛ فقال شريحٌ : لا تأب أن تكون من المحسنين ، ولا تأب أن تكون من المتَّقين ، ولم يجبره على ذلك{[3891]} .

فصل في بيان مقدار المتعة

اختلفوا في قدر المتعة ، فروي عن ابن عباس : أعلاها خادمٌ ، وأوسطها ثلاثة أثواب : درع ، وخمار ، وإزار ، ودون ذلك وقاية ، أو شيء من الورق{[3892]} .

وبه قال الشَّعبيُّ ، والزُّهريُّ{[3893]} ، وهو مذهب الشافعي ، وأحمد . قال الشافعي : أعلاها على الموسع : خادم ، وأوسطها : ثوبٌ ، وأقلُّها : أقل ماله ثمن حسنٌ ثلاثون درهماً ، " وَعَلَى الْمُقْتِرِ " مقنعة .

وروي عن ابن عباس أنّه قال : أكثر المتعة خادمٌ ، وأقلها مقنعة{[3894]} ، وأيُّ قدر أدَّى ، جاز في جانبي الكثرة ، والقلة .

وطلَّق عبد الرحمن بن عوف امرأته وجمعها جاريةً سوداء ، أي : متَّعها{[3895]} .

ومتَّع الحسن بن عليٍّ امرأته بعشرة آلاف درهم ، فقالت : متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارق{[3896]} .

وقال أبو حنيفة : المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل ، قال : لأن حال المرأة التي يسمَّى لها المهر ، أحسن من حال التي لم يسمَّ لها ، فإذا لم يجب لها زيادةٌ على نصف المسمَّى ، إذا طلِّقت قبل الدُّخول ، فلأن لا يجب زيادةٌ على نصف مهر المثل أولى .

فصل في دلالة الآية على حال الزوج من الغنى والفقر .

دلَّت الآية على أنَّه يعتبر حال الزوج : في الغنى ، والفقر ؛ لقوله : { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } .

وقال بعض العلماء : يعتبر حالهما وهو قول القاضي{[3897]} .

وقال أبو بكرٍ الرَّازي{[3898]} : يعتبر في المتعة حال الرجل ؛ للآية ، وفي مهر المثل حالها ، وكذلك في النفقة ، واحتج القاضي بقوله : " بِالْمَعْرُوفِ " فإنّ ذلك يدلُّ على حالهما ؛ لأنه ليس من المعروف أن يسوِّي بين الشريفة ، الوضيعة .

فصل

إذا مات أحدهما قبل الدُّخول ، والفرض ؛ اختلف أهل العلم في أنها هل تستحقُّ المهر ، أم لا ؟ فذهب عليٌّ ، وزيد بن ثابتٍ ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباسٍ{[3899]} : إلى أنَّه لا مهر لها ، كما لو طلَّقها قبل الفرض ، والدخول .

وذهب قومٌ إلى أنَّ لها المهر ، لأن الموت كالدخول في تقدير المسمَّى ، فكذلك في إيجاب مهر المثل ، إذا لم يكن في العقد مسمى ، وهو قول الثَّوريِّ ، وأحمد ، وأصحاب الرَّأي .

واحتجَّوا بما روى علقمة ، عن ابن مسعود : أنَّه سئل عن رجل تزوَّج امرأةً ، ولم يفرض لها صداقاً ، ولم يدخل بها حتى مات .

قال ابن مسعود : لها صداق نسائها ؛ لا وكس ، ولا شطط ؛ وعليها العدَّة ، ولها الميراث ؛ فقام معقل بن يسار الأشجعيِّ ، فقال : " قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بَروعَ بنت واشقٍ - امْرَأَةٍ مِنَّا - مِثْلَ مَا قَضَيْتَ " ، ففرح بها ابن مسعود{[3900]} .

وقال الشَّافعيُّ : فإن ثبت حديث بروع بنت واشق ، فلا حجَّة في قول أحد دون النبيِّ صلى الله عليه وسلم . وإن لم يثبت ، فلا مهر لها ؛ ولها الميراث . وكان عليٌّ - رضي الله عنه - يقول في حديث بروع : لا تقبل قول أعربيٍّ من أشجع ، على كتاب الله ، وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فصل في اختلافهم في الخلوة

إنَّما خصَّ المحسنين ؛ لأنهم المنتفعون بهذا البيان ، كقوله : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات :45 ] .

وقال أبو مسلم{[3901]} : من أراد أن يكون من المحسنين ، فهذا شأنه ، وطريقه ، والمحسن : هو المؤمن ؛ فيكون المعنى : أنَّ العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين ، وقيل : " حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ " إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى .


[3869]:- البيت لامرئ القيس ينظر ديوانه ص 239، وشرح أبيات سيبويه 1/406، ولسان العرب (حبل)، وللنمر بن تولب ينظر ملحق ديوانه ص 405، ورصف المباني ص 447، والكتاب 1/164، والبحر 2/240، والجمل (98)، والدر المصون 1/581.
[3870]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/99.
[3871]:- انظر: السبعة 183-184، والحجة 2/336، والعنوان 74، وحجة القراءات 137-138، وشرح الطيبة 104-105، وشرح شعلة 291، وإتحاف 1/441.
[3872]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/118.
[3873]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/99.
[3874]:- انظر: تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" (3/202).
[3875]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/99.
[3876]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/117.
[3877]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/117.
[3878]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/99.
[3879]:- انظر: المحرر الوجيز 1/319، والبحر المحيط 2/243، والدر المصون 1/582.
[3880]:- انظر: السبعة 184، والحجة 2/ 338، وحجة القراءات 137، والعنوان 74، وشرح الطيبة 103-105، وشرح شعلة 291، وإتحاف 1/ 441-442.
[3881]:- ينظر: معاني القرآن للأخفش 372.
[3882]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/99.
[3883]:- ينظر: المصدر السابق.
[3884]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/116.
[3885]:- ينظر: المصدر السابق.
[3886]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/118.
[3887]:- هو أبو بكر الأصم والزجاج.
[3888]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/ 118.
[3889]:- ينظر: تفسير البغوي 1/218.
[3890]:- ينظر: تفسير البغوي 1/218.
[3891]:- ينظر: المصدر السابق.
[3892]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/121) عن ابن عباس والشعبي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/519) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.
[3893]:- ينظر: تفسير البغوي 1/218.
[3894]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/119.
[3895]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/123).
[3896]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/123).
[3897]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/119.
[3898]:- ينظر: المصدر السابق.
[3899]:- ينظر: تفسير البغوي 1/218.
[3900]:- أخرجه النسائي (6/122) رقم (3356، 3357) وسعيد بن منصور في "سننه" رقم (929).
[3901]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/ 120.