الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } الآية ، " نزلت في رجل من الأنصار تزوج بامرأة من بني حنيفة ، ولم يسمّ لها مهراً ، ثم طلّقها قبل أن يمسّها فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فلمّا نزلت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم متّعها ولو بقلنسوتك " ، فذلك قوله { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } تجامعوهنّ .

قرأ حمزة والكسائي وخلف : تماسّوهنّ بالألف على المفاعلة لأنّ بدن كل واحد منهما يمسّ بدن صاحبه فيتماسّان جميعاً ، دليله قوله { مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [ المجادلة : 4 ] وقرأ الباقون : تمسّوهنّ بغير ألف لأن الغشيان إنما هو من فعل الرجل ، دليله قوله { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ مريم : 20 ] . { أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } أي توجدوا لهنّ صداقاً ، يقال فرض السلطان لفلان أي أثبت له صدقة في الديوان ، فإنْ قيل : ما الوجه في نفي الجناح عن المطلق وهل على الرجل جناح لو طلّق بعد المسيس فيوضع عنه قبل المسيس ؟ قيل : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما بال أقوام يلعبون بحدود الله يقولون : طلّقتك ، راجعتك ؟ " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تطلّقوا نساءكم إلاّ عن ريبة ؛ فإنّ الله لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات " .

وقال عليه السلام : " أبغض الحلال عند الله الطلاق " ، وقال عليه السلام : " إنّ الله يبغض كل مطلاق مذواق " .

فلمّا قال رسول الله هذا ظنّوا أنهم يأثمون في ذلك فأخبر الله تعالى أنه لا جناح في تطليق النساء إذا كان على الوجه المندوب ، فربّما كان الفراق أروح من الإمساك ، وقيل : معنى قوله { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي لا سبيل عليكم للنساء إن طلّقتموهنّ ما لم تمسّوهنّ ولم تكونوا فرضتم لهنّ فريضة في أتباعكم بصداق ولا نفقة .

وقيل : معناه { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } في أي وقت شئتم لأنه لا سنّة في طلاقهنّ ، فللرجل أن يطلّقهن إذا لم يكن مسّهنّ حائضاً أو طاهراً ، وفي كل وقت أحبّ ، وليس كذلك في المدخول بها لأنّه ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء إلاّ العدة ظاهراً في طهر لم يجامعها فيه ، فإن طلّقها حائضاً آيساً وقع الطلاق . { وَمَتِّعُوهُنَّ } أي زوّدوهنّ وأعطوهنّ من مالكم ما يتمتعن به ، والمتعة والمتاع ما تبلغ به من الزاد { عَلَى الْمُوسِعِ } أي الغني { قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ } الفقير { قَدَرُهُ } أي إمكانه وطاقته ، قرأ أبو جعفر وحفص وحمزة والكسائي وخلف وابن ذكوان بفتح الدال فيهما ، واختاره أبو عبيدة قال : لما فيهما من الفخامة ، وقرأ الآخرون بجزم الدال فيهما واختاره أبو حاتم وهما لغتان ، قال : نطق بهما القرآن فتصديق الفتح قوله : { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] وتصديق الجزم قوله : { وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الزمر : 67 ] تقول العرب : القضاء والقدر ، وقال أبو يزيد الأنصاري : القضاء والقدر بتسكين الدال ، وقال الشاعر وهو الفرزدق :

وما صبّ رملي في حديد مجاشع *** مع القدر إلاّ حاجة لي أريدها

وقال بعضهم : القدْر المصدر والقدَر الاسم { مَتَاعاً } نصب على المصدر أي متعوهن متاعاً ، ويجوز أن يكون نصباً على القطع لأنّ المتاع نكرة والقدر معرفة { بِالْمَعْرُوفِ } أي ما أمركم الله به من غير ظلم ولا مطل { حَقّاً } نصب على الحكاية تقديره : أخبركم حقاً ، وقيل على القطع .

حكم الآية

قال المفسّرون : قيل : هذا في الرجل يتزوج المرأة ولا يسمّي لها صداقاً فطلقها قبل أن يمسها فلها المتعة ولا فريضة لها بإجماع العلماء ، واختلفوا في متعة المطلقة فيما عدا ذلك ، فقال قوم : لكل مطلقة متعة كائنة من كانت وعلى أي وجه وقع الطلاق ، فالمتعة واجبة تقضى لها في مال المطلّق كما تقضى عليه سائر الديون الواجبة عليه ، سواء دخل بها أو لم يدخل ، فرض لها أو لم يفرض إذا كان الطلاق من قبله ، فأما إذا كان الفراق من قبلها فلا متعة لها ولا مهر ، وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وأبي العالية ومحمد بن جرير ، قال : لقوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } فأوجب المتعة لجميع المطلقات ولم يفرّق ، ويكون معنى الآية على هذا القول : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضة أو لم تفرضوا لهنّ فريضة ، لأنّ كل منكوحة إنما هي احدى اثنتين : مُسمّى لها الصداق أو غير مسمّى لها فعلمنا بالذي نقلوا من قوله { أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } أن المعنيّة بقوله : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ } المفروضات لهن { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } وغير المفروض لها إذ لا معنى لقول القائل : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ ما لم تفرضوا لهنّ فريضة } ثم قال : { وَمَتِّعُوهُنَّ } يعني الجميع .

وقال آخرون : المتعة واجبة لكل مطلّقة سوى المطلقة المفروض لها إذا طُلّقت قبل الدخول فإنه لا متعة لها وإنما لها نصف الصداق المسمّى ، وهذا قول عبد الله بن عمر ونافع وعطاء ومجاهد ومذهب الشافعي ، ويكون وجه الآية على هذا القول لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ ولم تفرضوا لهنّ فريضة ، الألف زائدة كقوله { أَوْ يَزِيدُونَ } ونحوها ، ثم أمر بالمتعة لهنّ .

ويجوز أن يكون قوله { وَمَتِّعُوهُنَّ } راجعاً إلى المطلقات غير المفروضات قبل المسيس دون المفروضات لهنّ ، ويكون قوله في عقبه : وإن طلقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ مختصاً له ، فجرى في أول الآية على ظاهر العموم في المفروضات وغير المفروضات ، وفي قوله { وَمَتِّعُوهُنَّ } على التخصيص في غير المفروضات للآية التي بعدها .

وقال الزهري : متعتان يقضي بأحدهما السلطان ولا يقضي بالأخرى ، بل يلزمه فيما بينه وبين الله ، فأمّا التي يقضي بها السلطان فهو فيمن طلق قبل أن يفرض لها ويدخل بها فإنه يؤخذ بالمتعة وهو قوله : { حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } .

والمتعة التي تلزم فيما بينه وبين الله تعالى ولا يقضي به السلطان هي فيمن طلق بعدما يدخل بها ويفرض لها وهو قوله : { حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } وقال بعضهم : ليس شيء من ذلك بواجب ، وإنما المتعة إحسان والأمر بها أمر ندب واستحباب لا أمر فرض وإيجاب ، وهو قول أبي حنيفة ، وروى ابن سيرين أنّ رجلا طلّق امرأة وقد دخل بها ، فخاصمته إلى شريح في المتعة فقال شريح : لا تاب أن يكون من المحسنين ولا تاب أن يكون من المتقين ولم يجبره على ذلك .

واختلفوا في قدر المتعة ومبلغها ، فقال ابن عباس والشعبي والزهري والربيع بن أنس : أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب : درع وخمار ( وجلباب ) وإزار ، ودون ذلك النفقة ، ثم دون ذلك الكسوة ، شيء من الورق ، وهذا مذهب الشافعي قال : أعلاها خادم على الموسع ، وأوسطها ثوب ، وأقلّها أقلّ ماله ثمن . قال الحسن : ثلاثون درهماً ، وكان شريح يمتّع بخمسمائة درهم ، ومتّع عبد الرحمن بن عوف أم أبي سلمة حين طلّقها جاريةً سوداء ، ومتّع الحسن بن علي ( رضي الله عنه ) امرأة له بعشرة آلاف درهم ، فقالت : متاع قليل من حبيب مفارق .

قال أبو حنيفة : متاعها إذا اختلف الزوج والمرأة فيها قدر نصف مهر مثلها ولا تجاوز ذلك ، والصحيح أن الواجب من ذلك على قدر عسر الرجل ويسره كما قال تعالى ، ولو كان المعتبر فيه المهر لكان يقول : ومتعوهنّ على قدرهنّ وقدر صداق مثلهنّ ، فلمّا قال { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } دلّ على أنّ المعتبر فيه حال الرجل لا حال المرأة ، وروى ابن أبي زائدة عن صبيح بن صالح قال : سئل عامر : بكم يمتّع الرجل امرأته ؟ قال : على قدر ماله .

تفصيل حكم الآية

من تزوّج امرأة على غير مهر مسمّى فالنكاح جائز ، فإن طلبت الفرض أمرناه أن يفرض لها ، وإن لم يفرض لها ودخل بها فلها مهر مثلها ، فإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة ولا مهر لها ، وإن مات عنها بعد الدخول فلها مهر مثلها ، وإن مات عنها قبل الدخول والتسمية ففيها قولان :

أحدهما : لها مهر مثلها ، وهو مذهب أهل العراق ، والدليل عليه حديث بروع بنت واسق الأشجعية حين توفي عنها زوجها ولم يفرض لها ولا دخل بها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهر ( نسائها ) لا وكس ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث .

والقول الثاني : أنّ لها الميراث وعليها العدة ولا مهر لها ، بل لها المتعة كما لو طلّقها قبل الدخول والتسمية ، وهو قول علي ، وكان يقول في حديث بروع : لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله وسنّة رسوله .