قوله تعالى : { سيقول الذين أشركوا } ، لما لزمتهم الحجة ، وتيقنوا بطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله ، وتحريم ما لم يحرمه الله .
قوله تعالى : { لو شاء الله ما أشركنا } نحن .
قوله تعالى : { ولا آباؤنا } من قبل .
قوله تعالى : { ولا حرمنا من شيء } ، من البحائر ، والسوائب ، وغيرهما . أرادوا أن يجعلوا قوله : { لو شاء الله ما أشركنا } ، حجةً لهم على إقامتهم على الشرك ، وقالوا إن الله تعالى قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن عليه حتى لا نفعله ، فلولا أنه رضي بما نحن عليه وأراده منا ، وأمرنا به ، لحال بيننا وبين ذلك ، فقال الله تعالى تكذيباً لهم : { كذلك كذب الذين من قبلهم } ، من كفار الأمم الخالية .
قوله تعالى : { حتى ذاقوا بأسنا } ، عذابنا ، ويستدل أهل القدر بهذه الآية ، يقولون : إنهم لما قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا } كذبهم الله ، ورد عليهم ، فقال : { كذلك كذب الذين من قبلهم } . قلنا : التكذيب ليس في قولهم . { لو شاء الله ما أشركنا } ، بل ذلك القول صدق ، ولكن في قولهم : إن الله تعالى أمرنا بها ، ورضي بما نحن عليه ، كما أخبر عنهم في سورة الأعراف { وإذا فعلوا فاحشةً قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } ، فالرد عليهم في هذا كما قال تعالى : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } . والدليل على أن التكذيب ورد فيما قلنا لا في قولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } ، قوله : { كذلك كذب الذين من قبلهم } ، بالتشديد ، ولو كان ذلك خبراً من الله عز وجل عن كذبهم في قولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } ، لقال : { كذلك كذب الذين من قبلهم } بالتخفيف فكان نسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب ، وقال الحسن ابن الفضل : لو ذكروا هذه المقالة تعظيماً وإجلالاً لله عز وجل ، ومعرفة منهم به لما عابهم بذلك ، لأن الله تعالى قال : { ولو شاء الله ما أشركوا } وقال : { وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } ، [ الأنعام :111 ] ، والمؤمنون يقولون ذلك ، ولكنهم قالوه تكذيباً وتخرصاً ، وجدلاً من غير معرفة بالله وبما يقولون ، نظيره قوله تعالى : { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } [ الزخرف :20 ] ، قال الله تعالى : { ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } [ الأنعام : 116 ] . وقيل في معنى الآية : إنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة إلا أنهم كانوا يعدونه عذراً لأنفسهم ، ويجعلونه حجة لأنفسهم في ترك الإيمان ، ورد عليهم في هذا لأن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته ، فإنه مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد ، وعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته ، فإن مشيئته لا تكون عذراً لأحد . قوله تعالى : { قل هل عندكم من علم } ، أي : كتاب وحجة من الله .
قوله تعالى : { فتخرجوه لنا } ، حتى يظهر ما تدعون على الله تعالى من الشرك و تحريم ما حرمتموه .
قوله تعالى : { إن تتبعون } ، ما تتبعون فيما أنتم عليه .
وعندما يصل السياق إلى هذا الحد من تضييق الخناق عليهم ، وسد الذرائع في وجوههم ، يواجه مهربهم الأخير الذين يحيلون عليه شركهم وضلال تصوراتهم وتصرفاتهم . . إنهم يقولون : إنهم مجبرون لا مخيرون فيما اعتسفوا من شرك وضلال . فلو كان الله لا يريد منهم الشرك والضلال لمنعهم منه بقدرته التي لا يعجزها شيء :
( سيقول الذين أشركوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من شيء . كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا . قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟ إن تتبعون إلا الظن ، وإن أنتم إلا تخرصون . قل : فلله الحجة البالغة ، فلو شاء لهداكم أجمعين )
وقضية الجبر والاختيار كثر فيها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي بين أهل السنة والمعتزلة والمجبرة والمرجئة . . . وتدخلت الفلسفة الإغريقية والمنطق الإغريقي واللاهوت المسيحي في هذا الجدل ، فتعقد تعقيداً لا تعرفه العقلية الإسلامية الواضحة الواقعية . . ولو أخذ الأمر بمنهج القرآن المباشر الميسر الجاد ، ما اشتد هذا الجدل ، وما سار في ذلك الطريق الذي سار فيه .
ونحن نواجه قول المشركين هذا والرد القرآني عليه ، فنجد قضية واضحة بسيطة محددة :
( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) . . فهم يحيلون شركهم هم وآباؤهم ، وتحريمهم ما حرموه مما لم يحرمه الله ، وادعاءهم أن هذا من شرع الله بغير علم ولا دليل . . يحيلون هذا كله على مشيئة الله بهم . فلو شاء الله ما أشركوا ولا حرموا
فكيف واجه القرآن الكريم هذه المقولة ؟
لقد واجهها بأنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم ، وقد ذاق المكذبون من قبلهم بأس الله . وبأس الله ينتظر المكذبين الجدد :
( كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ) . .
وهذه هي الهزة التي قد تحرك المشاعر ، وتوقظ من الغفلة ، وتوجه إلى العبرة . .
واللمسة الثانية كانت بتصحيح منهج الفكر والنظر . . إن الله أمرهم بأوامر ونهاهم عن محظورات . . وهذا ما يملكون أن يعلموه علماً مستيقناً . . فأما مشيئة الله فهي غيب لا وسيلة لهم إليه ، فكيف يعلمونه ؟ وإذا لم يعلموه يقيناً فكيف يحيلون عليه :
( قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) . .
إن لله أوامر ونواهي معلومة علماً قطعياً ، فلماذا يتركون هذه المعلومات القطعية ، ليمضوا وراء الحدس والخرص في واد لا يعلمونه ؟
هذا هو فصل القول في هذه القضية . . إن الله لا يكلف الناس أن يعلموا غيب مشيئته وقدره حتى يكيفوا أنفسهم على حسبه . إنما يكلفهم أن يعلموا أوامره ونواهيه ، ليكيفوا أنفسهم على حسبها . . وهم حين يحاولون هذا يقرر الله سبحانه أنه يهديهم إليه ، ويشرح صدورهم للإسلام . . وهذا حسبهم في القضية التي تبدو عندئذ - في واقعها العملي - يسيرة واضحة ، بريئة من غموض ذلك الجدل وتحكماته !
إن الله قادر لو شاء على أن يخلق بني آدم ابتداء بطبيعة لا تعرف إلا الهدى ، أو يقهرهم على الهدى . أو يقذف بالهدى في قلوبهم فيهتدوا بلا قهر . . . ولكنه - سبحانه - شاء غير هذا ! شاء أن يبتلي بني آدم بالقدرة على الاتجاه إلى الهدى أو الضلال ، ليعين من يتجه منهم إلى الهدى على الهدى ، وليمد من يتجه منهم إلى الضلال في غيه وفي عمايته . . وجرت سنته بما شاء . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{سيقول الذين أشركوا} مع الله آلهة، يعني مشركي العرب، {لو شاء الله ما أشركنا ولا} أشرك {آباؤنا ولا حرمنا من شيء}، يعني الحرث، والأنعام، ولكن الله أمر بتحريمه، {كذلك}، يعني هكذا {كذب الذين من قبلهم} من الأمم الخالية رسلهم، كما كذب كفار مكة بمحمد صلى الله عليه وسلم، {حتى ذاقوا بأسنا}، يعني عذابنا، {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا}، يعني بيانا من الله بتحريمه فتبينوه لنا، يقول الله: {إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} الكذب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه:"سَيَقُولُ الّذِينَ أشْرَكُوا" وهم العادلون بالله الأوثان والأصنام من مشركي قريش: "لَوْ شاءَ اللّهُ ما أشْرَكْنا "يقول: قالوا احتجازا من الإذعان للحقّ بالباطل من الحجة لما تبين لهم الحقّ، وعلموا باطل ما كانوا عليه مقيمين من شركهم، وتحريمهم ما كانوا يحرّمون من الحروث والأنعام، على ما قد بَيّن تعالى ذكره في الآيات الماضية قبل ذلك: "وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرأَ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا..." وما بعد ذلك: لو أراد الله منا الإيمان به وإفراده بالعبادة دون الأوثان والآلهة وتحليل ما حرّم من البحائر والسوائب وغير ذلك من أموالنا، ما جعلنا لله شريكا، ولا جعل ذلك له آباؤنا من قبلنا، ولا حرّمنا ما نحرّمه من هذه الأشياء التي نحن على تحريمها مقيمون، لأنه قادر على أن يحول بيننا وبين ذلك، حتى لا يكون لنا إلى فعل شيء من ذلك سبيل، إما بأن يضطّرنا إلى الإيمان وترك الشرك به وإلى القول بتحليل ما حرّمنا، وإما بأن يلطف بنا بتوفيقه فنصير إلى الإقرار بوحدانيته وترك عبادة ما دونه من الأنداد والأصنام، وإلى تحليل ما حرّمنا. ولكنه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأوثان والأصنام، واتخاذ الشريك له في العبادة والأنداد، وأراد ما نحرّم من الحروث والأنعام، فلم يحل بيننا وبين ما نحن عليه من ذلك. قال الله مكذّبا لهم في قيلهم: إن الله رضي منا ما نحن عليه من الشرك وتحريم ما نحرّم، ورادّا عليهم باطل ما احتجوا به من حجتهم في ذلك: "كذلكَ كَذّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" يقول: كما كذّب هؤلاء المشركون يا محمد ما جئتهم به من الحقّ والبيان، كذّب من قبلهم من فَسقة الأمم الذين طغَوا على ربهم ما جاءتهم به أنبياؤهم من آيات الله وواضح حججه، وردّوا عليهم نصائحهم. "حتى ذَاقُوا بَأْسنا" يقول: حتى أسخطونا فغضينا عليهم، فأحللنا بهم بأسنا فذاقوه، فعطبوا بذوقهم إياه، فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة، يقول: وهؤلاء الآخرون، مسلوك بهم سبيلهم، إن هم لم ينيبوا فيؤمنوا ويصدّقوا بما جئتهم به من عند ربهم...
"قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتّبِعُونَ إلاّ الظّنّ وإنْ أنْتُمْ إلاّ تَخْرُصُونَ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام المحرّمين ما هم له محرّمون من الحروث والأنعام، القائلين: "لَوْ شاءَ اللّهُ ما أشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلاَ حَرّمْنا مِنْ شَيْءٍ" ولكن رضي منا ما نحن عليه من الشرك وتحريم ما نحرّم: هل عندكم بدعواكم ما تدّعون على الله من رضاه بإشراككم في عبادته ما تشركون وتحريمكم من أموالكم ما تحرّمون علم يقين من خبر من يقطع خبره العذر، أو حجة توجب لنا اليقين من العلم فتخرجوه لنا؟ يقول: فتظهروا ذلك لنا وتبينوه، كما بينا لكم مواضع خطأ قولكم وفعلكم، وتناقض ذلك واستحالته في المعقول والمسموع. "إنْ تَتّبِعُونَ إلاّ الظّنّ" يقول له: قل لهم: إن تقولون ما تقولون أيها المشركون وتعبدون من الأوثان والأصنام ما تعبدون وتحرّمون من الحروث والأنعام ما تحرّمون إلا ظنّا وحسبانا أنه حقّ، وأنكم على حق وهو باطل، وأنتم على باطل، "وَإنْ أنْتُمْ إلاّ تَخْرُصُونَ" يقول: وإن أنتم، وما أنتم في ذلك كله "إلا تخرُصون"، يقول: إلا تتقوّلون الباطل على الله ظنّا بغير يقين علم ولا برهان واضح.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأخبر الله عز وجل نبيه عليه السلام: أن المشركين سيحتجون لصواب ما هم عليه من شركهم وتدينهم بتحريم تلك الأشياء بإمهال الله تعالى وتقريره حالهم وأنه شاء غير ذلك لما تركهم على تلك الحال...
وبين أن المشركين لا حجة لهم فيما ذكروه لأنّا نحن نقول: إن الله عز وجل لو شاء ما أشركوا ولكنه عز وجل شاء إشراكهم وأقدرهم على اكتساب الإشراك والمعاصي ومحبته والاشتغال به، ثم علق العقاب والثواب على تلك الأشياء والاكتسابات، وهو الذي يقتضيه ظواهر القرآن في قوله {جزاء بما كانوا يكسبون} ونحو ذلك، ويلزمهم على احتجاجهم أن تكون كل طريقة وكل نحلة صواباً، إذ كلها لو شاء الله لم تكن...
{كذلك كذب الذين من قبلهم} وفي الكلام حذف يدل عليه تناسق الكلام، كأنه قال: سيقول المشركون كذا وكذا وليس في ذلك حجة لهم، ولا شيء يقتضي تكذيبك ولكن {كذلك كذب الذين من قبلهم} بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله لهم دليل على رضاه بحالهم، وفي قوله {حتى ذاقوا بأسنا} وعيد بيّن، وليس في الآية رد منصوص على قولهم: لو شاء الله ما أشركنا، وإنما ترك الرد عليهم مقدراً في الكلام لوضوحه وبيانه...
{قل هل عندكم من علم} الآية: المعنى قل يا محمد للكفرة: هل عندكم من علم من قبل الله تعالى فتبينوه حتى تقوم به الحجة، و {من} في قوله {من علم} زائدة مؤكدة وجاءت زيادتها لأن الاستفهام داخل في غير الواجب، {إن تتبعون إلا الظن} أي لا شيء عندكم إلا الظن وهو أكذب الحديث...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذه مناظرة ذكرها الله تعالى وشبهة تشبثت بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا؛ فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان، أو يحول بيننا وبين الكفر، فلم يغيره، فدل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا ذلك؛ ولهذا قال: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} كما في قوله [تعالى] 4: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ]} [الزخرف: 20]، وكذلك التي في "النحل "مثل هذه سواء قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء. وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه، ودمر عليهم، وأدال عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين من أليم الانتقام.
{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} أي: بأن الله [تعالى] راض عنكم فيما أنتم فيه {فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي: فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه، {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} أي: الوهم والخيال. والمراد بالظن هاهنا: الاعتقاد الفاسد. {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} أي: تكذبون على الله فيما ادعيتموه.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [رضي الله عنهما]: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} وقال {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ثُمَّ قَالَ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107]، فإنهم قالوا: عبادتنا الآلهة تقربنا إلى الله زُلْفَى فأخبرهم الله أنها لا تقربهم، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}، يقول تعالى: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
..لما تم ذلك فعلم أن إقدامهم على الأحكام الدينية بغير حجة أصلاً، اقتضى الحال أن يقال: قد بطل بالعقل والنقل جميع ما قالوه في التحريم على وجه أبطل شركهم، فهل بقي لهم مقال؟ فأخبر سبحانه بشبهة يقولونها اعتذاراً عن جهلهم على وجه هو وحده كاف في الدلالة على حقية ما يقوله من الرسالة، فوقع طبق ما قال عن أهل الضلال، فقال مخبراً بما سيقولونه قبل وقوعه دلالة على صدق رسله وكذب المشركين فيما يخالفونهم فيه: {سيقول} أي في المستقبل، وأظهر موضع الإضمار تنصيصاً عليهم وتبكيتاً لهم فقال: {الذين أشركوا} تكذيباً منهم {لو شاء الله} أي الذي له جميع الكمال عدم إشراكنا وتحريمنا {ما أشركنا} أي بصنم ولا غيره {ولا أباؤنا} أي ما وقع من إشراك {ولا حرمنا من شيء} أي ما تقدم من البحائر والسوائب والزروع وغيرها أي ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل ففعلنا طوع مشيئته، وهو لا يشاء إلا الحق والحكمة لأنه قادر، فلو لم يكن حقاً يرضاه لمنعنا منه، وهو لم يمنعنا منه فهو حق. ولما كان هذا عناداً منهم ظاهراً بعد وضوح الأمر بما أقام على صدق رسله من البينات، كان كأنه قيل تعجباً منهم: هل فعل أحد غيرهم مثل فعلهم هذا أو قال مثل ما قالوا؟ فقيل: نعم {كذلك} أي مثل ذلك التكذيب البعيد عن الصواب {كذب الذين} ولما لم يكن التكذيب عاماً أدخل الجار فقال: {من قبلهم} من الأمم الخالية بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثاً، فكانت دعوى الأنبياء باطلة، وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تام ومِلكه عام، فهو لا يسأل عما يفعل، وتمادى بهم غرور التكذيب {حتى ذاقوا بأسنا} أي عذابنا لما لنا من العظمة، فإن من له الأمر كله لا يسأل عما يفعل، فلم ينفعهم عنادهم عند ذوق البأس، بل انحلت عزائم همهم فخضعوا لنا وآمنوا برسلنا، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا، فالآية من الاحتباك: أثبت أولاً الإشراك دليلاً على حذفه ثانياً، وثانياً التكذيب دليلاً على حذفه أولاً، وسيأتي توجيه أنه لا بد من تضليل إحدى الطائفتين المتعاندتين وإن كان الكل بمشيئة الله، لأنه لا مانع من إتيان الأمر على خلاف الإرادة. ولما كان ما قالوه شبهة بعيدة عن العلم، أعلى درجاتها أن يكون من أنواع الخطابة فتفيد الظن في أعظم مسائل علم الأصول الذي لا يحل الاعتماد فيه إلا على القواطع، أمره أن يقول لهم ما ينبههم على ذلك فقال: {قل} أي لهؤلاء الذين تلقوا ما يلقيه الشيطان إليهم -كما أشير إليه في سورة الحج- تهكماً بهم في بعدهم عن العلم وجدالهم بعد نهوض الحجج {هل عندكم} أيها الجهلة، وأغرق في السؤال فقال: {من علم} أي يصح الاحتجاج به في مثل هذا المقام الضنك {فتخرجوه لنا} أي لي ولأتباعي وإن كان مما يجب أن يكون مكنوناً مضنوناً به على غير أهله مخزوناً، فهو تهكم بهم. ولما كان جوابهم عن هذا السكوت لأنه لا علم عندهم، قال دالاً على ذلك: {إن} أي ما {تتبعون} أي في قولكم هذا وغالب أموركم {إلا الظن} أي في أصول دينكم وهي لا يحل فيها قول إلا بقاطع {وإن} أي وما {أنتم إلا تخرصون} أي تقولون تارة بالحزر والتخمين وتارة بالكذب المحض اليقين...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} أي سيقول هؤلاء المشركون: لو شاء الله تعالى أن لا نشرك به من اتخذنا له من الأولياء والشفعاء من الملائكة والبشر وأن لا نعظم ما عظمنا من تماثيلهم وصورهم أو قبورهم وسائر ما يذكر بهم وأن لا يشرك آباؤنا من قبلنا كذلك لما أشركوا ولا أشركنا، ولو شاء أن لا نحرم شيئا مما حرمنا من الحرث والأنعام وغيرها لما حرمنا. أي ولكنه شاء أن نشرك هؤلاء الأولياء والشفعاء به وهم له يقربوننا إليه زلفى، وشاء أن نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها فحرمناها، فإتياننا ما ذكر دليل على مشيئة الله تعالى له، بل على رضاه وأمره به أيضا كما حكى عنهم في آية أخرى بقوله: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها. قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} (الأعراف 28).
وقيل أرادوا أن مشيئته ملزمة ومجبرة فهم غير مختارين في ذلك. ولما وقع هذا القول منهم بالفعل حكاه تعالى عنهم بقوله في سورة النحل: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} (النحل 35) وفي معناه قوله تعالى: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم. ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} (الزخرف 20).
وقد رد تعالى شبهتهم هنا بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا...} أي مثل هذا التكذيب من مشركي مكة للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من إبطال الشرك وإثبات توحيد الله في الألوهية والربوبية، ومنها حق التشريع والتحليل والتحريم قد كذب الذين من قبلهم لرسلهم. أي مثله في كونه تكذيبا جهليا غير مبني على أساس من العلم. والرسل ولا سيما خاتمهم عليهم الصلاة والسلام قد أقاموا الحجج العلمية والعقلية على التوحيد وغيره، وأيدهم الله تعالى بالآيات البينات، ولكن المكذبين لم ينظروا في هذه الآيات نظر الإنصاف لاستبانة الحق بل أعرضوا عنها وأصروا على جحودهم وعنادهم حتى ذاقوا بأسه تعالى وهو عذاب الاستئصال للمعاندين الذين اقترحوا على رسلهم آيات معينة فجعلها الرسل نذيرا لهم بالاستئصال فتماروا بالنذر، وما دونه لغيرهم. ولو كانت مشيئة الله لما كانوا عليه من الشرك والمعاصي إجبارا مخرجا لذلك عن كونه من أعمالهم لما عاقبهم عليه وهو قد قال إنه أخذهم بذنوبهم وأهلكهم بظلمهم وكفرهم ولو كانت مشيئته لذلك متضمنة لرضاه عن فاعله وأمره إياه به خلافا لما قال الرسل لما عاقبهم عليه تصديقا للرسل. فقوله تعالى: {حتى ذاقوا بأسنا} بيان للبرهان الفعلي الواقع الدال على صدق الرسل في دعواهم وبطلان شبهات المشركين المكذبين لهم، وأمثالهم من الجبرية الذين عطلوا شرائعهم، وهم يزعمون كمال الإيمان بها وبهم.
وبعد هذا التذكير بهذا البرهان أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطالب المشركين بدليل علمي على زعمهم فقال: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي هل عندكم بما تقولون علم ما تعتمدون عليه وتحتجون به فتخرجوه لنا لنبحث معكم فيه ونعرضه على ما جئناكم به من الآيات العقلية والمحكية عن وقائع الأمم التي قبلكم، وننصب بينهما الميزان القسط ليظهر الراجح من المرجوح؟ والاستفهام هنا للتعجيز والتوبيخ، ولذلك قفى عليه ببيان حقيقة حالهم فقال: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} أي لستم على شيء ما من العلم بل ما تتبعون في بقائكم على ما أنتم عليه من عقيدة وقول في الدين وعمل به إلا الظن، وهو في اللغة ما ليس من مدركات الحس ولا ضروريات العقل، وقد يكون منه ما يؤخذ من نظريات يطمئن لها القلب ويرجحها العقل، وهم لم يكونوا على هذا النوع منه وإن كان لا يكفي في إثبات أصلي الدين وهما عقائده وقواعد التشريع التي يجب الجزم بها، بل كانوا يتبعون أدنى درجاته وأضعفها لا يعدونها، وهي درجة الخرص أي الحزر والتخمين الذي لا يمكن أن يستقر عنده الحكم، كخرص ما يأتي من النخيل والكرم من التمر والزبيب، وكثيرا ما يطلق الخرص على لازمه الذي ينذر أن يفارقه وهو الكذب، وقد فسر به هنا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...وعندما يصل السياق إلى هذا الحد من تضييق الخناق عليهم، وسد الذرائع في وجوههم، يواجه مهربهم الأخير الذين يحيلون عليه شركهم وضلال تصوراتهم وتصرفاتهم.. إنهم يقولون: إنهم مجبرون لا مخيرون فيما اعتسفوا من شرك وضلال. فلو كان الله لا يريد منهم الشرك والضلال لمنعهم منه بقدرته التي لا يعجزها شيء... وقضية الجبر والاختيار كثر فيها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي بين أهل السنة والمعتزلة والمجبرة والمرجئة... وتدخلت الفلسفة الإغريقية والمنطق الإغريقي واللاهوت المسيحي في هذا الجدل، فتعقد تعقيداً لا تعرفه العقلية الإسلامية الواضحة الواقعية.. ولو أخذ الأمر بمنهج القرآن المباشر الميسر الجاد، ما اشتد هذا الجدل، وما سار في ذلك الطريق الذي سار فيه...
إن لله أوامر ونواهي معلومة علماً قطعياً، فلماذا يتركون هذه المعلومات القطعية، ليمضوا وراء الحدس والخرص في واد لا يعلمونه؟ هذا هو فصل القول في هذه القضية.. إن الله لا يكلف الناس أن يعلموا غيب مشيئته وقدره حتى يكيفوا أنفسهم على حسبه. إنما يكلفهم أن يعلموا أوامره ونواهيه، ليكيفوا أنفسهم على حسبها.. وهم حين يحاولون هذا يقرر الله سبحانه أنه يهديهم إليه، ويشرح صدورهم للإسلام.. وهذا حسبهم في القضية التي تبدو عندئذ -في واقعها العملي- يسيرة واضحة، بريئة من غموض ذلك الجدل وتحكماته! إن الله قادر لو شاء على أن يخلق بني آدم ابتداء بطبيعة لا تعرف إلا الهدى، أو يقهرهم على الهدى. أو يقذف بالهدى في قلوبهم فيهتدوا بلا قهر... ولكنه -سبحانه- شاء غير هذا! شاء أن يبتلي بني آدم بالقدرة على الاتجاه إلى الهدى أو الضلال، ليعين من يتجه منهم إلى الهدى على الهدى، وليمد من يتجه منهم إلى الضلال في غيه وفي عمايته.. وجرت سنته بما شاء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف رجع به الكلام إلى مجادلة المشركين بعد أن اعترض بينها بقوله: {قل لا أجد في مآ أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلى قوله {فإنّ ربّك غفور رحيم} [الأنعام: 145]، فلمّا قطع الله حجّتهم في شأن تحريم ما حرّموه، وقسمة ما قسموه، استقصى ما بقي لهم من حجّة وهي حجّة المحجوج المغلوب الذي أعيته المجادلة ولم تبق له حجّة، إذ يتشبّث بالمعاذير الواهية لترويج ضلاله، بأن يقول: هذا أمر قضي وقدّر.
فإن كان ضمير الرّفع في قوله: {فإن كذبوك} [الأنعام: 147] عائداً إلى المشركين كان قوله تعالى هنا: {سيقول الذين أشركوا} إظهاراً في مقام الإضمار لزيادة تفظيع أقوالهم، فإخبار الله عنهم بأنَّهم سيقولون ذلك إن كان نزول هذه الآية قبلَ نزول آية سورة النّحل (35): {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء} وهو الأرجح، فإنّ سورة النَّحل معدودة في النّزول بعد سورة الأنعام، كان الإخبار بأنَّهم سيقولونه اطلاعاً على ما تُكنّه نفوسهم من تزوير هذه الحجّة، فهو معجزة من معجزات القرآن من نوع الإخبار بالغيب كقوله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} [البقرة: 24]. وإن كان نزول هذه الآية بعد نزول آية سورة النّحل فالإخبار بأنَّهم سيقولونه معناه أنَّهم سيعيدون معذرتهم المألوفة.
وحاصل هذه الحجّة: أنَّهم يحتجّون على النّبيء صلى الله عليه وسلم بأنّ ما هم عليه لو لم يكن برضى الله تعالى لصَرَفَهم عنه ولَمَا يسَّره لهم، يقولون ذلك في معرض إفحام الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وإبطال حُكمه عليهم بالضّلالة، وهذه شبهة أهل العقول الأفِنة الذين لا يُفرّقون بين تصرّف الله تعالى بالخَلْق والتّقدير وحفظِ قوانين الوجود، وهو التصرّف الذي نسمّيه نحن بالمشيئة وبالإرادة، وبين تصرّفه بالأمر والنّهي، وهو الذي نسمّيه بالرّضى وبالمحبّة، فالأوّل تصرّف التّكوين والثّاني تصرف التّكليف، فهم يحسبون أنّ تمكّنهم من وضع قواعد الشّرك ومن التّحريم والتّحليل ما هو إلاَّ بأن خلق الله فيهم التمكّن من ذلك، فيحسبون أنَّه حين لم يمسك عِنان أفعالهم كان قد رضي بما فعلوه، وأنَّه لو كان لا يرضى به لما عجز عن سلب تمكّنهم، يحسبون أنّ الله يُهمّه سوءُ تصرّفهم فيما فطرهم عليه، ولو كان كما يتوهَّمون لكان الباطل والحقّ شيئاً واحداً، وهذا ما لا يفهمه عقل حَصيف، فإنّ أهل العقول السّخيفة حين يتوهَّمون ذلك كانوا غير ملتفتين إلاّ إلى جانب نحلتهم ومعرضين عن جانب مخالفهم، فإنَّهم حين يقولون: {لو شاء الله ما أشركنا} غافلون عن أن يقال لهم. من جانب الرّسول: لو شاء الله ما قلتُ لكم أنّ فعلكم ضلال، فيكون الله على حسب شبهتهم قد شاء الّشيء ونقيضه إذ شاء أنَّهم يشركون وشاء أن يقول لهم الرّسول لا تشركوا.
وسبب هذه الضّلالة العارضة لأهل الضّلال من الأمم، التي تلوح في عقول بعض عوام المسلمين في معاذيرهم للمعاصي والجرائم أن يقولوا: أمْرُ الله أو مَكْتُوبُ عند الله أو نحو ذلك، هو الجهل بأنّ حكمة الله تعالى في وضع نظام هذا العالم اقتضت أن يجعل حجاباً بين تصرّفه تعالى في أحوال المخلوقات، وبين تصرّفهم في أحوالهم بمقتضى إرادتهم، وذلك الحجاب هو ناموس ارتباط المسبّبات بأسبابها، وارتباطِ أحوال الموجودات في هذا العالم بعضِها ببعض... وذلك هو مورد التّكليف الدالّ على ما يرضاه الله وما لا يرضى به، وأنّ الله وضع نظام هذا العالم بحكمة فجعل قِوامه هو تدبير الأشياء أمورَها من ذواتها بحسب قوى أودعها في الموجودات لتسعى لما خُلقت لأجله، وزاد الإنسانَ مزيَّةً بأن وضع له عقلاً يمكّنه من تغيير أحواله على حسب احتياجه، ووضّع له في عقله وسائل الاهتداء إلى الخير والشرّ، كما قيّض له دعاة إلى الخير تنبّهه إليه إن عرته غفلة، أو حجبته شهوة، فإن هو لم يرعوِ غيِّهْ، فقد خَانَ بساطَ عقله بطَيِّه.
وبهذا ظهر تخليط أهل الضّلالة بين مشيئة العباد ومشيئة الله، فلذلك ردّ الله عليهم هنا قولهم: {لو شاء الله مآ أشركنا ولا أباؤنا} لأنَّهم جعلوا ما هو مشيئة لهم مشيئة لله تعالى، ومع ذلك فهو قد أثبت مشيئته في قوله: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 107] فهي مشيئة تكوين العقول وتكوين نظام الجماعة.
فهذه المشيئة التي اعتلّوا بها مشيئة خفيّة لا تتوصّل إلى الاطّلاع على كنهها عقول البشر، فلذلك نعى الله عليهم استنادهم إليها على جهلهم بكنهها، فقال: كذلك كذب الذين من قبلهم فَشَبَّه بتكذيبِهم تكذيبَ المكذّبين الذين من قبلهم، فكنّى بذلك عن كون مقصد المشركين من هذه الحجّة تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم وقد سبق لنا بيان في هذا المعنى في هذه السّورة (107) عند قوله تعالى: {ولو شاء الله ما أشركوا.}... وقوله تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم} أي كذّب الذين من قبلهم أنبياءهم مثل ما كذّبك هؤلاء. وهذا يدلّ على أنّ الذين أشركوا قصدوا بقولهم: {لو شاء الله ما أشركنا} تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم إذ دعاهم إلى الإقلاع عمّا يعتقدون بحجّة أنّ الله رضيه لهم وشاءه منهم مشيئة رضى، فكذلك الأمم قبلهم كذّبوا رسلهم مستندين إلى هذه الشبهة فسمّى الله استدلالهم هذا تكذيباً، لأنَّهم ساقوه مساق التّكذيب والإفحام، لا لأنّ مقتضاه لا يقول به الرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فإنَّا نقول ذلك كما قال تعالى: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 107] نريد به معنى صحيحاً فكلامهم من باب كلام الحقّ الذي أريد به باطل... وقوله: {حتى ذاقوا بأسنا} غاية للتكذيب مقصود منها دوامهم عليه إلى آخر أوقات وجودهم. فلمّا ذاقوا بأس الله هلكوا واضمحلّوا، وليست الغاية هنا للتّنهية: والرّجوع عن الفعل لظهور أنَّه لا يتصوّر الرّجوع بعد استئصالهم.
والذّوق مجاز في الإحساس والشّعور، فهو من استعمال المقيّد في المطلق، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى: {ليذوقَ وبال أمره} في سورة العقود (95).
والبأس تقدّم الكلام عليه في سورة البقرة وإضافته إلى ضمير الله تعالى لتعظيمه وتهويله.
وأمَرَ الله رسولَه بالجواب عن مقالهم الواقع أو المتوقّع بقوله: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا}، ففصل جملة: {قل} لأنَّها جارية مجرى المقاولة والمجاوبة كما تقرّر غير مرّة، وجاء بالاستفهام المقصود منه الإفحَام والتهكّم بما عُرف من تشبّثُهم بمثل هذا الاستدلال.
وجُعل الاستفهام ب {هَلْ} لأنَّها تدلّ على طلب تحقيق الإسناد المسؤول عنه،... فدلّ "هل "على أنَّه سائل عن أمر يريد أن يكون محقّقا كأنَّه يرغب في حصوله فيغريهم بإظهاره حتّى إذا عجزوا كان قطعاً لدعواهم، والمقصود من هذا الاستفهام التهكّم بهم في قولهم: {لو شاء الله ما أشركنا} ألى {ولا حرمنا}، فأظهر لهم من القول من يظهره المعجَب بكلامهم. وقرينة التّهكّم بادية لأنَّه لا يظنّ بالرّسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين أن يطلبوا العلم من المشركين، كيف وهو يصارحهم بالتّجهيل والتّضليل صباحَ مساءَ.
والعِلم: ما قابل الجهل، وإخراجه الإعلام به، شبهت إفادة المعلوم لمن يجهله بإخراج الشّيء المخبوء، وذلك مثل التّشبيه في قول النّبي صلى الله عليه وسلم « وعلم بثّه في صدور الرّجال» ولذلك كان للإتيان: ب {عندكم} موقع حسن، لأنّ (عند) في الأصل تدلّ على المكان المختصّ بالذي أضيف إليه لفظُها، فهي ممّا يناسب الخفاء، ولولا شيوع استعمالها في المعنى المجازي حتّى صارت كالحقيقة لقلْتُ: إنّ ذكر (عند) هنا ترشيح لاستعارة الإخراج للإعلام.
وجعل إخراج العلم مرتَّباً بفاء السَّببيّة على العندية للدّلالة على أنّ السّؤال مقصود به ما يتسبّب عليه.
واللاّم في: {فتخرجوه لنا} للأجْل والاختصاص، فتؤذن بحاجة مجرورها لمتعلّقها، أي فتخرجوه لأجلنا: أي لنفعنا، والمعنى: لقد أبدعتم في هذا العلم الذي أبديتموه في استفادتكم أنّ الله أمركم بالشّرك وتحريم ما حرّمتموه بدلالة مشيئة على ذلك إذ لو شاء لما فعلتم ذلك فزيدونا من هذا العلم.
وهذا الجواب يشبه المنع في اصطلاح أهل الجدل، ولمّا كان هذا الاستفهام صورياً وكان المتكلّم جازماً بانتفاء ما استَفْهَم عنه أعقبه بالجواب بقوله: {إن تتبعون إلا الظن}.
وجملة: {إن تتبعون إلا الظن} مستأنفة لأنَّها ابتداء كلام بإضراب عن الكلام الذي قبله، فبعد أن تهكّم بهم جدّ في جوابهم، فقال: {إن تتبعون إلا الظن} أي: لا علم عندكم. وقصارى ما عندكم هو الظنّ الباطل والخَرْص. وهذا يشبه سند المنع في عرف أهل الجدل. والمراد بالظنّ الظنّ الكاذب وهو إطلاق له شائع كما تقدّم عند قوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} في هذه السّورة (116).