المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ} (148)

وأخبر الله عز وجل نبيه عليه السلام : أن المشركين سيحتجون لصواب ما هم عليه من شركهم وتدينهم بتحريم تلك الأشياء بإمهال الله تعالى وتقريره حالهم وأنه شاء غير ذلك لما تركهم على تلك الحال .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وبين أن المشركين لا حجة لهم فيما ذكروه لأنّا نحن نقول : إن الله عز وجل لو شاء ما أشركوا ولكنه عز وجل شاء إشراكهم وأقدرهم على اكتساب الإشراك والمعاصي ومحبته{[5145]} والاشتغال به ، ثم علق العقاب والثواب على تلك الأشياء والاكتسابات ، وهو الذي يقتضيه ظواهر القرآن في قوله { جزاء بما كانوا يكسبون }{[5146]} ونحو ذلك ، ويلزمهم على احتجاجهم أن تكون كل طريقة وكل نحلة صواباً ، إذ كلها لو شاء الله لم تكن .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقال بعض المفسرين : إنما هذه المقالة من المشركين على جهة الاستهزاء ، وهذا ضعيف ، وتعلقت المعتزلة بهذه الآية فقالت : إن الله قد ذم لهم هذه المقالة وإنما ذمها لأن كفرهم ليس بمشيئة الله تعالى بل هو خلق لهم .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وليس الأمر على ما قالوا ، وإنما ذم الله تعالى ظن المشركين أن ما شاء الله لا يقع عليه عقاب ، وأما أنه ذم قولهم : لولا المشيئة لم نكفر فلا ، ثم قال { كذلك كذب الذين من قبلهم } وفي الكلام حذف يدل عليه تناسق الكلام ، كأنه قال : سيقول المشركون كذا وكذا وليس في ذلك حجة لهم ، ولا شيء يقتضي تكذيبك ولكن { كذلك كذب الذين من قبلهم } بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله لهم دليل على رضاه بحالهم ، وفي قوله { حتى ذاقوا بأسنا } وعيد بيّن ، وليس في الآية رد منصوص على قولهم : لو شاء الله ما أشركنا ، وإنما ترك الرد عليهم مقدراً في الكلام لوضوحه وبيانه ، وقوله { ولا آباؤنا } معطوف على الضمير المرفوع في { أشركنا } والعطف على الضمير المرفوع لا يرده قياس ، بخلاف المظنون ، لكن سيبويه قد قبح العطف على الضمير المرفوع ، ووجه قبحه أنه لما بني الفعل صار كحرف من الفعل فقبح العطف عليه لشبهه بالحرف ، وكذلك كقولك : قمت وزيد ، لأن تأكيده فيه يبين معنى الاسمية ، ويذهب عنه شبه الحرف ، وحسن عند سيبويه العطف في قوله { وما أشركنا ولا آباؤنا } لما طال الكلام ، ب { لا } ، فكأن معنى الاسمية اتضح واقتضت [ لا ] ما يعطف بعدها{[5147]} وقوله تعالى : { قل هل عندكم من علم } الآية : المعنى قل يا محمد للكفرة : هل عندكم من علم من قبل الله تعالى فتبينوه حتى تقوم به الحجة ، و { من } في قوله { من علم } زائدة مؤكدة وجاءت زيادتها لأن الاستفهام داخل في غير الواجب ، { إن تتبعون إلا الظن } أي لا شيء عندكم إلا الظن وهو أكذب الحديث . وقرأ جمهور الناس : «تتبعون » على المخطابة ، وقرأ النخعي وإبراهيم وابن وثاب : «إن يتبعوا » بالياء حكاية عنهم .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه قراءة شاذة يضعفها قوله { وإن أنتم } و { تخرصون } معناه : تقدرون وتظنون وترجمون .


[5145]:- الضمير في (محبته) يعود على (الإشراك).
[5146]:- تكررت في الآيتين (82) و (95) من سورة (التوبة).
[5147]:- البصريون لا يجيزون العطف على الضمير المرفوع إلا بالفصل، وقد جاء الفصل هنا بـ (لا) ويستثنون من ذلك الشعر فيجيزون فيه ذلك بدون فصل، أما الكوفيون فيجيزون ذلك في كل الأحوال وهو عندهم فصيح، وقد جاء الفصل في سورة النحل في قوله تعالى: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا فقال سبحانه [من دونه]، وقال [نحن] فأكد بالضمير، قاله أبو حيان في البحر المحيط".