قوله تعالى : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } ، يعني الأمم الماضية ، والقرن : الجماعة من الناس ، وجمعه قرون ، وقيل : القرن مدة من الزمان ، يقال : ثمانون سنة ، وقيل : ستون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ثلاثون سنة ، ويقال : مائة سنة ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بسر المازني : إنك تعيش قرناً فعاش مائة سنة ، فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل القرن .
قوله تعالى : { مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم } . أي : أعطيناهم ما لم نعطكم ، وقال ابن عباس : أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح ، وعاد ، وثمود . يقال : مكنته ومكنت له . قوله تعالى : { وأرسلنا السماء عليهم مدراراً } يعني : المطر ، مفعال ، من الدر . قال ابن عباس : مدراراً أي : متتابعاً في أوقات الحاجات ، وقوله : " ما لم نمكن لكم " من خطاب التلوين ، رجع من الخبر من قوله : { ألم يروا } إلى خطاب ، كقوله : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } [ يونس :22 ] . وقال هل البصرة : أخبر عنهم بقوله : { ألم يروا } وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم خاطبهم معهم ، والعرب تقول : قلت لعبد الله ما أكرمه ؟ وقلت ، لعبد الله ما أكرمك ؟
قوله تعالى : { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا } خلقنا وابتدأنا .
وفي موقف التهديد يلفت أعناقهم وأنظارهم وقلوبهم وأعصابهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم - وقد كانوا يعرفون بعضها في دور عاد بالأحقاف وثمود بالحجر ، وكانت أطلالهم باقية يمر عليها العرب في رحلة الشتاء للجنوب وفي رحلة الصيف للشمال ، كما كانوا يمرون بقرى لوط المخسوفة ويعرفون ما يتناقله المحيطون بها من أحاديث - فالسياق يلفتهم إلى هذه المصارع وبعضها منهم قريب .
( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم . فأهلكناهم بذنوبهم ، وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) .
ألم يروا إلى مصارع الأجيال الغابرة . وقد مكنهم الله في الأرض ، وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان ما لم يعط مثله للمخاطبين من قريش في الجزيرة ؛ وأرسل المطر عليهم متتابعا ينشىء في حياتهم الخصب والنماء ويفيض عليهم من الأرزاق . . ثم ماذا ؟ ثم عصوا ربهم ، فأخذهم الله بذنوبهم ، وأنشأ من بعدهم جيلا آخر ، ورث الأرض من بعدهم ؛ ومضوا هم لا تحفل بهم الأرض ! فقد ورثها قوم آخرون ! فما أهون المكذبين المعرضين أصحاب القوة والتمكين من البشر َ ! ما أهونهم على الله ؛ وما أهونهم على هذه الأرض أيضا ! لقد أهلكوا وغبروا فما أحست هذه الأرض بالخلاء والخواء ؛ إنما عمرها جيل آخر ؛ ومضت الأرض في دورتها كأن لم يكن هنا سكان ؛ ومضت الحياة في حركتها كأن لم يكن هنا أحياء !
وهي حقيقة ينساها البشر حين يمكن الله لهم في الأرض . ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله ، ليبلوهم فيه : أيقومون عليه بعهد الله وشرطه ، من العبودية له وحده ، والتلقي منه وحده - بما أنه هو صاحب الملك وهم مستخلفون فيه - أم يجعلون من أنفسهم طواغيت ، تدعي حقوق الألوهية وخصائصها ؛ ويتصرفون فيما استخلفوا فيه تصرف المالك لا المستخلف .
إنها حقيقة ينساها البشر - إلا من عصم الله - وعندئذ ينحرفون عن عهد الله وعن شرط الاستخلاف ؛ ويمضون على غير سنة الله ؛ ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف ، ويقع الفساد رويدا رويدا وهم ينزلقون ولا يشعرون . . حتى يستوفي الكتاب أجله ؛ ويحق وعد الله . . ثم تختلف أشكال النهاية : مرة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال - بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام - ومرة يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث كذلك لأقوام - ومرة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض ؛ فيعذب بعضهم بعضا ، ويدمر بعضهم بعضا ، ويؤذي بعضهم بعضا ، ولا يعود بعضهم يأمن بعضا ؛ فتضعف شوكتهم في النهاية ؛ ويسلط الله عليهم عبادا له - طائعين أو عصاة - يخضدون شوكتهم ، ويقتلعونهم مما مكنوا فيه ؛ ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم . . وهكذا تمضي دورة السنة . . السعيد من وعى أنها السنة ، ومن وعى أنه الابتلاء ؛ فعمل بعهد الله فيما استخلف فيه . والشقي من غفل عن هذه الحقيقة ، وظن أنه أوتيها بعلمه ، أو أوتيها بحيلته ، أو أوتيها جزافا بلا تدبير !
وإنه لما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي ، أو المستهتر الفاسد ، أو الملحد الكافر ، ممكنا له في الأرض ، غير مأخوذ من الله . . ولكن الناس إنما يستعجلون . . إنهم يرون أول الطريق أو وسطه ؛ ولا يرون نهاية الطريق . . ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجيء ! لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث . . والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون - في حياتهم الفردية القصيرة - نهاية الطريق ؛ فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة ويحسبونه نهاية الطريق !
إن هذا النص في القرآن : ( فأهلكناهم بذنوبهم ) . . وما يماثله ، وهو يتكرر كثيرا في القرآن الكريم . . إنما يقرر حقيقة ، ويقرر سنة ، ويقرر طرفا من التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ . .
إنه يقرر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها ، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم ؛ وأن هذه سنة ماضية - ولو لم يرها فرد في عمره القصير ، أو جيل في أجله المحدود - ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب ؛ وحين تقوم حياتها على الذنوب . . كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتاريخ : فإن هلاك الأجيال واستخلاف الأجيال ؛ من عوامله ، فعل الذنوب في جسم الأمم ؛ وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار ؛ إما بقارعة من الله عاجلة - كما كان يحدث في التاريخ القديم - وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي ، الذي يسري في كيان الأمم - مع الزمن - وهي توغل في متاهة الذنوب !
وأمامنا في التاريخ القريب - نسبيا - الشواهد الكافية على فعل الانحلال الأخلاقي ، والدعارة الفاشية ، واتخاذ المرأة فتنة وزينة ، والترف والرخاوة ، والتلهي بالنعيم . . أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله في انهيار الإغريق والرومان - وقد أصبحوا أحاديث - وفي الانهيار الذي تتجلى أوائله ، وتلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة ، كفرنسا وانجلترا كذلك - على الرغم من القوة الظاهرة والثراء العريض .
إن التفسير المادي للتاريخ يحذف هذا الجانب حذفا باتا من تفسيره لأطوار الأمم وأحداث التاريخ ، ذلك أن وجهته ابتداء هي استبعاد العنصر الأخلاقي من الحياة ، واستعباد القاعدة الاعتقادية التي يقوم عليها . . ولكن هذا التفسير يضطر إلى مماحكات مضحكة في تفسير أحداث وأطوار في حياة البشرية لا سبيل إلى تفسيرها إلا على أساس القاعدة الاعتقادية .
والتفسير الإسلامي - بشمولة وجديته وصدقه وواقعيته - لا يغفل أثر العناصر المادية - التي يجعلها التفسير . المادي هي كل شيء - ولكنه يعطيها مكانها الذي تستحقه في رقعة الحياة العريضة ؛ ويبرز العناصر الفعالة الأخرى التي لا ينكرها إلا أصحاب العناد الصفيق لواقعيات الوجود . . يبرز قدر الله من وراء كل شيء ؛ ويبرز التغير الداخلي في الضمائر والمشاعر والعقائد والتصورات ؛ ويبرز السلوك الواقعي والعنصر الأخلاقي . .
ولا يغفل عاملا واحدا من العوامل التي تجري بها سنة الله في الحياة . .
{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السّمَآءَ عَلَيْهِم مّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم ير هؤلاء المكذّبون بآياتي الجاحدون نبوّتك ، كثرة من أهلكت من قبلهم من القرون ، وهم الأمم الذين وطأت لهم البلاد والأرض وطأة لم أوطئها لكم ، وأعطيتهم فيها ما لم أعطكم . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : مَكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّنْ لَكُمْ يقول : أعطيناهم ما لم نعطكم .
قال أبو جعفر : أمطرت فأخرجت لهم الأشجار ثمارها ، وأعطتهم الأرض رَيْع نباتها ، وجابوا صخور جبالها ، ودرّت عليهم السماء بأمطارها ، وتفجرت من تحتهم عيون المياه بينابيعها بإذني ، فغمطوا نعمة ربهم وعصوا رسول خالقهم وخالفوا أمر بارئهم ، وبغوا حتى حُقّ عليهم قولي ، فأخذتهم بما اجترحوا من ذنوبهم وعاقبتهم بما اكتسبت أيديهم ، وأهلكت بعضهم بالرجفة وبعضهم بالصيحة وغير ذلك من أنواع العذاب .
ومعنى قوله : وأرْسَلْنَا السّماءَ عَلَيْهِمْ مِدرَارا المطر ، ويعني بقوله : «مدرارا » : غزيرة دائمة . وأنْشَأْنَا مِنَ بَعْدِهِمْ قَرْنا آخَرِينَ يقول وأحدثنا من بعدهم الذين أهلكناهم قرنا آخرين فابتدأنا سواهم .
فإن قال قائل : فما وجه قوله : مَكنّاهُمْ فَي الأرْضِ ما لَمْ نُمَكّنْ لَكُمْ ومن المخاطب بذلك ؟ فقد ابتدأ الخبر في أوّل الاَية عن قوم غيب بقوله : ألَمْ يَرَوْا كَم أهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ؟ قيل : إن المخاطب بقوله : ما لَمْ نُمَكّنْ لَكُمْ هو المخبر عنهم بقوله : ألَمْ يَرَوُا كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ولكن في الخبر معنى القول ، ومعناه : قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين كذّبوا بالحقّ لما جاءهم : ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَنّاهُمْ في الأرْضِ ما لَمْ نُمْكّنْ لَكُمْ . والعرب إذا أخبرت خبرا عن غائب وأدخلت فيه قولاً فعلت ذلك فوجهت الخبر أحيانا إلى الخبر عن الغائب ، وأحيانا إلى الخطاب ، فتقول : قلت لعبد الله : ما أكرمه ، وقلت لعبد الله : ما أكرمك ، وتخبر عنه أحيانا على وجه الخبر عن الغائب ثم تعود إلى الخطاب ، وتخبر على وجه الخطاب له ثم تعود إلى الخبر عن الغائب . وذلك في كلامها وأشعارها كثير فاش وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقد كان بعض نحوي البصرة يقول في ذلك : كأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم خاطبه معهم وقال : حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ فجاء بلفظ الغائب وهو يخاطب ، لأنه المخاطب .
هذا حض على العبرة ، والرؤية هنا رؤية القلب ، و { كم } في موضع نصب ب { أهلكنا } ، والقرن :الأمة المقترنة في مدة من الزمان ، ومنه قوله عليه السلام : ( خير الناس قرني ) الحديث{[4823]} ، واختلف الناس في مدة القرن كم هي ؟ فالأكثر على أنها مائة سنة ، ويرجح ذلك الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد » قال ابن عمر : يريد أنها تخرم{[4824]} ذلك القرن ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشر{[4825]} : تعيش قرناً فعاش مائة سنة ، وقيل : القرن ثمانون سنة ، وقيل سبعون وقيل ستون ، وتمسك هؤلاء بالمعترك{[4826]} وحكى النقاش أربعين وذكر الزهراوي في ذلك أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحكى النقاش أيضاً ثلاثين ، وحكى عشرين ، وحكى ثمانية عشر وهذا كله ضعيف ، وهذه طبقات وليست بقرون إنما القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال ، ويظهر ذلك من قوله تعالى : { ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين }{[4827]} ، وإلى مراعاة الطبقات وانقراض الناس بها أشار ابن الماجشون في الواضحة في تجويز شهادة السماع في تقادم خمسة عشر عاماً فصاعداً ، وقيل القرن الزمن نفسه ، وهو على حذف مضاف تقديره من أهل قرن ، والضمير في { مكناهم } عائد على القرن ، والمخاطبة في { لكم } هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم من سائر الناس ، فكأنه قال : ما لم نمكن يا أهل العصر لكم ، فهذا أبين ما فيه ، ويحتمل أن يقدر في الآية معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال يا محمد قل لهم : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ، ما لم نمكن لكم } وإذا أخبرت أنك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال ذلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة . و{ السماء } المطر ومنه قول الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا{[4828]}
و { مدراراً } بناء تكثير كمذكار ومئناث ، ومعناه يدر عليهم بحسب المنفعة ، لأن الآية إنما سياقها تعديد النعم وإلا فظاهرها يحتمل النعمة ويحتمل الإهلاك ، وتحتمل الآية أن تراد السماء المعروفة على تقدير وأرسلنا مطر السماء لأن مدراراً لا يوصف به إلا المطر ، وقوله تعالى : { فأهلكناهم } معناه فعصوا وكفروا { فأهلكناهم } ، { وأنشأنا } اخترعنا وخلقنا ، وجمع { آخرين } حملاً على معنى القرن .
الجملة بيان لجملة : { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } . جاء بيانها بطريقة الاستفهام الإنكاري عن عدم رؤية القرون الكثيرة الذين أهلكتهم حوادث خارقة للعادة يدلّ حالها على أنّها مسلّطة عليهم من الله عقاباً لهم على التكذيب .
والرؤية يجوز أن تكون قلبية ، أي ألم يعلموا كثرة القرون الذين أهلكناهم ، ويجوز أن تكون بصربة بتقدير : ألم يروا آثار القرون التي أهلكناها كديار عاد وحِجْر ثمود ، وقد رآها كثير من المشركين في رحلاتهم ، وحدّثوا عنها الناس حتى تواترت بينهم فكانت بمنزلة المرئي وتحقّقتها نفوسهم .
وعلى كلا الوجهين ففعل { يَرَوا } معلّق عن العمل في المفعولين أو المفعول ، باسم الاستفهام وهو { كم } .
و ( كم ) اسم للسؤال عن عدد مبهم فلا بدّ بعده من تفسير ، وهو تمييزه . كما تقدّم في قوله تعالى : { سَل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية } في سورة البقرة ( 211 ) وتكون خبرية فتدلّ على عدد كبير مبهم ولا بدّ من مفسّر هو تمييز للإبهام . فأمّا الاستهامية فمفسّرها منصوب أو مجرور ، وإن كانت خبرية فمفسّرها مجرور لا غير ، ولمّا كان ( كم ) اسماً في الموضعين كان له موقع الأسماء بحسب العوامل رفعٌ ونصب وجرّ ، فهي هنا في موضع مفعول أو مفعولين { ليرَوا } . و ( مَنْ ) فزائدة جارّة لمميّز { كم } الخبرية لوقوع الفصل بينها وبين مميّزها فإنّ ذلك يوجب جرّه ب ( من ) ، كما بيّناه عند قوله تعالى : { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة } في سورة البقرة .
والقرن أصله الزمن الطويل ، وكثر إطلاقه على الأمّة التي دامت طويلاً . قال تعالى : { من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } . وفسّر القرن بالأمّة البائدة . ويطلق القرن على الجيل من الأمّة ، ومنه حديث { خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } . ويطلق على مقدار من الزمن قدره مائة سنة على الأشهر ، وقيل : غير ذلك .
وجملة : { مكّنّاهم } صفة ل { قرن } وروعي في الضمير معنى القرن لأنّه دالّ على جمع .
ومعنى : { مكّنّاهم في الأرض } ثبّتناهم وملّكناهم ، وأصله مشتقّ من المكان . فمعنى مكّنه ومكّن له ، وضع له مكاناً . قال تعالى : { أو لم نمكّن لهم حرماً آمناً } . ومثله قولهم : أرَضَ له . ويكنّى بالتمكين عن الإقدار وإطلاق التصرّف ، لأنّ صاحب المكان يتصرّف في مكانه وبيته ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر . ويقال : هو مكين بمعنى مُمَكّن ، فعيل بمعنى مفعول . قال تعالى : { إنّك اليوم لدينا مكين أمين } فهو كناية أيضاً بمرتبة ثانية ، أو هو مجاز مرسل مرتّب على المعنى الكنائي . والتمكين في الأرض تقوية التصرّف في منافع الأرض والاستظهار بأساباب الدنيا ، بأن يكون في منعة من العدوّ وفي سعة في الرزق وفي حسن حال ، قال تعالى : { إمّا مكنّا له في الأرض } ، وقال : { الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة } الآية .
فمعنى مكَّنه : جعله متمكّناً ومعنى مكّن له : جعله متمكّناً لأجله ، أي رعيا له ، مثل حمده وحمد له ، فلم تزده اللام ومجرورها إلاّ إشارة إلى أنّ الفاعل فعل ذلك رغبة في نفع المفعول ، ولكن الاستعمال أزال الفرق بينهما وصيّر مكّنه ومكّن له بمعنى واحد ، فكانت اللام زائدة كما قال أبو علي الفارسي . ودليل ذلك قوله تعالى : هنا { مكّنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم } فإنّ المراد بالفعلين هنا شيء واحد لتعيّن أن يكون معنى الفعلين مستوياً ، ليظهر وجه فوت القرون الماضية في التمكين على تمكين المخاطبين ، إذ التفاوت لا يظهر إلاّ في شيء واحد ، ولأنّ كون القرون الماضية أقوى تمكّنا من المخاطبين كان يقتضي أن يكون الفعل المقترن بلام الأجل في جانبهم لا في جانب المخاطبين ، وقد عكس هنا . وبهذا البيان نجمع بين قول الراغب باستواء فعل مكّنه ومكّن له ، وقول الزمخشري بأن : مكّن له بمعنى جعل له مكاناً ، ومكّنه بمعنى أثبته . وكلام الراغب أمكن عربية . وقد أهملت التنبيه على هذين الرأيين كتب اللغة . واستعمال التمكين في معنى التثبيت والتقوية كناية أو مجاز مرسل لأنّه يستلزم التقوية . وقد شاع هذا الاستعمال حتى صار كالصريح أو كالحقيقة .
و { ما } موصولة معناها التمكين ، فهي نائبة عن مصدر محذوف ، أي تمكيناً لم نمكنّه لكم ، فتنتصب ( ما ) على المفعولية المطلقة المبيّنة للنوع . والمقصود مكّناهم تمكيناً لم نمكَّنه لكم ، أي هو أشدّ من تمكينكم في الأرض .
والخطاب في قوله : { لكم } التفات موجّه إلى الذين كفروا لأنّهم الممكّنون في الأرض وقت نزول الآية ، وليس للمسلمين يومئذٍ تمكين . والالتفات هنا عكس الالتفات في قوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجريْن بهم } . والمعنى أنّ الأمم الخالية من العرب البائدة كانوا أشدّ قوة وأكثر جمعاً من العرب المخاطبين بالقرآن وأعظم منهم آثار حضارة وسطوة . وحسبك أنّ العرب كانوا يضربون الأمثال للأمور العظيمة بأنّها عادية أو ثمودية أو سبئية قال تعالى : { وعمروها أكثر ممّا عمروها } أي عمَرَ الذين من قبل أهل العصر الأرض أكثر ممّا عمرها أهل العصر .
والسماء من أسماء المطر ، كما في حديث « الموطأ » من قول زيد بن خالد : صلىّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثر سماء ، أي عقب مطر . وهو المراد هنا لأنّه المناسب لقوله : { أرسلنا } بخلافه في نحو قوله : { وأنزلنا من السماء ماء } . والمدرار صيغة مبالغة ، مثل منحار لكثير النحر للأضياف ، ومذكار لمن يولد له الذكور ، من درّت الناقة ودرّ الضرع إذا سمح ضرعها باللبن ، ولذلك سمّي اللبن الدّر . ووصفُ المطر بالمدرار مجاز عقلي ، وإنّما المدرار سحابه . وهذه الصيغة يستوي فيها المذكّر والمؤنّث .
والمراد إرسال المطر في أوقات الحاجة إليه بحيث كان لا يخلفهم في مواسم نزوله .
ومن لوازم ذلك كثرة الأنهار والأدية بكثرة انفجار العيون من سعة ري طبقات الأرض ، وقد كانت حالةَ معظم بلاد العرب في هذا الخصب والسعة ، كما علمه الله ودلّت عليه آثار مصانعهم وسدودهم ونسلان الأمم إليها ، ثم تغيّرت الأحوال بحوادث سماوية كالجدب الذي حلّ سنين ببلاد عاد ، أو أرضية ، فصار معظمها قاحلاً فهلكت أممها وتفرّقوا أيادي سَبا .
وقد تقدّم القول في معنى الأنهار تجري من تحتهم في نظيره وهو { أنّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار } في سورة البقرة ( 25 ) .
والفاء في قوله : { فأهلكناهم } للتعقيب عُطف على { مكّنّاهم } وما بعده . ولمّا تعلّق بقوله : { فأهلكناهم } قوله : { بذنوبهم } دلّ على أنّ تعقيب التمكين وما معه بالإهلاك وقع بعد أن أذنبوا . فالتقدير : فأذنبوا فأهلكناهم بذنوبهم ، أو فبطروا النعمة فأهلكناهم ، ففيه إيجاز حذف على حدّ قوله تعالى : { أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } الآية ، أي فضرب فانفجرت الخ . ولك أن تجعل الفاء للتفصيل تفصيلاً ل { أهلكنا } الأول على نحو قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } في سورة الأعراف ( 4 ) .
والإهلاك : الإفناء ، وهو عقاب للأمّة دالّ على غضب الله عليها ، لأنّ فناء الأمم لا يكون إلاّ بما تجرّه إلى نفسها من سوء فعلها ، بخلاف فناء الأفراد فإنْه نهاية محتّمة ولو استقام المرء طول حياته ، لأنّ تركيب الحيوان مقتض للانتهاء بالفناء عند عجز الأعضاء الرئيسية عن إمداد البدن بمواد الحياة فلا يكون عقاباً إلاّ فيما يحفّ به من أحوال الخزي للهالك .
والذنوب هنا هي الكفر وتكذيب الرسل ونحو ذلك ممّا دلّ عليه التنظير بحال الذين قال الله فيهم هنا : { بربهم يعدلون ثم أنتم تمترون وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحقّ لمّا جاءهم } ، وما قاله بعد ذلك { ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاس } الآية .
وقوله : { وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } : الإنشاء الإيجاد المبتكَر ، قال تعالى : { إنّا أنشأناهن إنشاء } . والمراد به إنشاؤهم بتلك الصفات التي كان القرن الذين من قبلهم من التمكين في الأرض والإسعاف بالخصب ، فخلفوا القرن المنقرضين سواء كان إنشاؤهم في ديار القوم الذين هلكوا ، كما أنشأ قريشاً في ديار جرهم ، أم في ديار أخرى كما أنشأ الله ثموداً بعد عاد في منازل أخرى . والمقصود من هذا تعريض بالمشركين بأنّ الله مهلكهم ومنشىء من بعدهم قرن المسلمين في ديارهم . ففيه نذارة بفتح مكّة وسائر بلاد العرب على أيدي المسلمين . وليس المراد بالإنشاء الولادة والخلق ، لأنّ ذلك أمر مستمرّ في البشر لا ينتهي ، وليس فيه عظة ولا تهديد للجبايرة المشركين . وأفرد { قرناً } مع أنّ الفعل الناصب له مقيّد بأنّه من بعد جمع القرون ، على تقدير مضاف ، أي أنشأنا من بعد كلّ قرن من المهلكين قرناً آخرين .