قوله تعالى : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } الآية ، اختلف العلماء في هذه الآية ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أنزل الله عز وجل قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } تحرج المسلمون من مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله عن أكل المال بالباطل . والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفي الطعام ، فأنزل الله هذه الآية . وعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في أي : ليس في الأعمى ، يعني : ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض . وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما : كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء ، لأن الناس يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم ، ويقول الأعمى : ربما آكل أكثر ، ويقول الأعرج : ربما أخذ مكان الاثنين ، فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد : نزلت الآية ترخيصاً لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية ، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمى الله في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون ذهب بنا إلى بيت غيره ، فأنزل الله هذه الآية . وقال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا غزوا خلفوا زمناهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وهم غيب ، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم . قال الحسن : نزلت هذه الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد . قال : تم الكلام عند قوله : ( ولا على المريض حرج ) وقوله تعالى : { ولا على أنفسكم } كلام منقطع عما قبله . وقيل : لما نزل قوله : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } قالوا : لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فأنزل الله عز وجل { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم . قيل : أراد من أموال عيالكم وأزواجكم ، وبيت المرأة كبيت الزوج ، وقال ابن قتيبة : أراد من بيوت أولادكم ، نسب الأولاد إلى الآباء ، كما جاء في الحديث : " أنت ومالك لأبيك " { أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه } قال ابن عباس رضي الله عنهما : عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته ، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ، ويشرب من لبن ماشيته ، ولا يحمل ولا يدخر . وقال الضحاك : يعني في بيوت عبيدكم ومماليككم ، وذلك أن السيد يملك منزل عبده والمفاتيح الخزائن ، لقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب } ويجوز أن يكون الذي يفتح به . قال عكرمة : إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن ، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير . وقال السدي : الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه وقال قوم : أو ما ملكتم مفاتحه ما خزنتموه عندكم قال مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم مما أحرزتم وملكتم { أو صديقكم } الصديق الذي صدقك في المودة . قال ابن عباس : نزلت في الحارث بن عمرو رضي الله عنه ، خرج غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله ، فقال : تحرجت أن آكل طعامك بغير إذنك فأنزل الله هذه الآية . وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرج بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية . والمعنى : { ليس عليكم جناح أن تأكلوا } من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ، من غير أن تتزودوا وتحملوا . قوله : { ليس عليكم جناح أن تأكلوا } { جميعاً أو أشتاتاً } نزلت في بني ليث بن بكر بن عمرو ، وهم حي من بني كنانة . كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضعيفاً يأكل معه ، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل ، هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج . وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأجنح ، أي : أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية . وقال عكرمة وأبو صالح : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا ، جميعاً أو أشتاتاً متفرقين . { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } أي : يسلم بعضكم على بعض ، هذا في دخول الرجل ببيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته ، وهو قول جابر وطاووس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار . وقال قتادة : إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهو أحق من سلمت عليه ، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . حدثنا أن الملائكة ترد عليه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن لم يكن في البيت أحد فليقل : السلام علينا من ربنا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله . وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } قال : إذا دخلت المسجد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . { تحيةً من عند الله } نصب على المصدر ، أي : تحيون أنفسكم تحية ، { مباركة طيبةً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : حسنة جميلة . وقيل : ذكر البركة والطيبة ها هنا لما فيه من الثواب والأجر . { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون* }
ثم يمضي في تنظيم العلاقات والارتباطات بين الأقارب والأصدقاء :
ليس على الأعمى حرج ، ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج ، ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ، أو بيوت آبائكم ، أو بيوت أمهاتكم ، أو بيوت أخوانكم ، أو بيوت أخواتكم ، أو بيوت أعمامكم ، أو بيوت عماتكم ، أو بيوت أخوالكم ، أو بيوت خالاتكم ؛ أو ما ملكتم مفاتحه ، أو صديقكم . ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا . فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ، تحية من عند الله مباركة طيبة . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون . .
روى أنهم كانوا يأكلون من هذه البيوت المذكورة - دون استئذان - ويستصحبون معهم العمي والعرج والمرضى ليطعموهم . . الفقراء منهم . . فتحرجوا أن يطعموا وتحرج هؤلاء أن يصحبوهم دون دعوة من أصحاب البيوت أو إذن . ذلك حين نزلت : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )فقد كانت حساسيتهم مرهفة . فكانوا يحذرون دائما أن يقعوا فيما نهى الله عنه ، ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد . فأنزل الله هذه الآية ، ترفع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج ، وعن القريب أن يأكل من بيت قريبه . وأن يصحب معه أمثال هؤلاء المحاويج . وذلك محمول على أن صاحب البيت لا يكره هذا ولا يتضرر به . استنادا إلى القواعد العامة في أنه " لا ضرر ولا ضرار " وإلى أنه " لا يحل مال امرى ء مسلم إلا بطيب نفس " .
ولآن الآية آية تشريع ، فإننا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي ، والصياغة التي لا تدع مجالا للشك والغموض . كما نلمح فيها ترتيب القرابات . فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم . بل تقول ( من بيوتكم )فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج ، فبيت الابن بيت لأبيه ، وبيت الزوج بيت لزوجته ، وتليها بيوت الآباء ، فبيوت الأمهات . فبيوت الإخوة ، فبيوت الأخوات . فبيوت الأعمام ، فبيوت العمات ، فبيوت الأخوال ، فبيوت الخالات . . ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك مفاتحه بالمعروف ولا يزيد على حاجة طعامه . ويلحق بها بيوت الأصدقاء . ليلحق صلتهم بصلة القرابة . عند عدم التأذي والضرر . فقد يسر الأصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان .
فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الأكل منها ، بين الحالة التي يجوز عليها الأكل : ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا )فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد . فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام ! فرفع الله هذا الحرج المتكلف ، ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد ، وأباح أن يأكلوا أفرادا أو جماعات .
فإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها : ( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة ) . . وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية . فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه . والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله . تحمل ذلك الروح ، وتفوح بذلك العطر . وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . .
وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة :
( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ) . . وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير . .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّيْسَ عَلَى الأعْمَىَ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ تَحِيّةً مّنْ عِندِ اللّهِ مُبَارَكَةً طَيّبَةً كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في هذه الآية في المعنى الذي أنزلت فيه ، فقال بعضهم : أنزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين في الأكل مع العُمْيان والعُرْجان والمرضى وأهل الزّمانة من طعامهم ، من أجل أنهم كانوا قد امتنعوا من أن يأكلوا معهم من طعامهم ، خشية أن يكونوا قد أتَوْا بأكلهم معهم من طعامهم شيئا مما نهاهم الله عنه بقوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنكمْ . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ . . . إلى قوله : أوْ أشْتاتا وذلك لَمّا أنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ فقال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام من أفضل الأموال ، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد . فكفّ الناس عن ذلك ، فأنزل الله بعد ذلك : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ . . . إلى قوله : أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ . . . الآية ، كان أهل المدينة قبل أن يُبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض ، فقال بعضهم : إنما كان بهم التقذّر والتقزّز . وقال بعضهم : المريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح ، والأعرج المنحبس لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والأعمى لا يبصر طيب الطعام . فأنزل الله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ في مؤالكة المريض والأعمى والأعرج .
فمعنى الكلام على تأويل هؤلاء : ليس عليكم أيها الناس في الأعمى حرج أن تأكلوا منه ومعه ، ولا في الأعرج حرج ، ولا في المريض حرج ، ولا في أنفسكم ، أن تأكلوا من بيوتكم . فوجّهوا معنى «على » في هذا الموضع إلى معنى «في » .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية ترخيصا لأهل الزمانة في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية لأن قوما كانوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن عندهم في بيوتهم ما يطعمونهم ، ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمّى الله في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتخوّفون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير ملكه . ذكر من قال ذلك :
19874حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ قال : كان رجال زَمْنَى قال ابن عمرو في حديثه : عُمْيان وعُرْجان . وقال الحارث : عُمْيٌ عُرْج أولوا حاجة ، يستتبعهم رجال إلى بيوتهم ، فإن لم يجدوا طعاما ذهبوا بهم إلى بوت آبائهم ومن عدد منهم من البيوت ، فكره ذلك المستتبعون ، فأنزل الله في ذلك : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ، وأحلّ لهم الطعام حيث وجدوه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان الرجل يذهب بالأعمى والمريض والأعرج إلى بيت أبيه ، أو إلى بيت أخيه ، أو عمه ، أو خاله ، أو خالته ، فكان الزّمني يتحرّجون من ذلك ، يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم ، فنزلت هذه الآية رُخْصة لهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، نحو حديث ابن عمرو ، عن أبي عاصم .
وقال آخرون : بل نزلت ترخيصا لأهل الزمانة الذين وصفهم الله في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من خَلّفهم في بيوته من الغزاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : قلت للزهريّ ، في قوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ ما بال الأعمى ذكر ها هنا والأعرج والمريض ؟ فقال : أخبرني عُبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غَزَوا خَلّفوا زَمْناهم ، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ، يقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا وكانوا يتحرّجون من ذلك ، يقولون : لا ندخلها وهي غُيّب . فأنزلت هذه الآية رخصة لهم .
وقال آخرون : بل عُني بقوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلى المَرِيضِ حَرَجٌ في التخلف عن الجهاد في سبيل الله . قالوا : وقوله : وَلا عَلى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلوا مِنْ بُيُوتِكُمْ كلام منقطع عما قبله . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلى المَرِيضِ حَرَجٌ قال : هذا في الجهاد في سبل الله . وفي قوله : وَلا عَلى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ . . . إلى قوله : أوْ صَدِيقِكُمْ قال : هذا شيء قد انقطع ، إنما كان هذا في الأوّل ، لم يكن لهم أبواب وكانت الستور مُرْخاة ، فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد ، فربما وجد الطعام وهو جائع ، فسوّغه الله أن يأكله . قال : وقد ذهب ذلك اليوم البيوت اليوم فيما أهلها ، وإذا أخرجوا أغلقوها فقد ذهب ذلك .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين الذين كانوا يتقون مؤاكلة أهل الزمانة في مؤاكلتهم إذا شاءوا ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن مِقْسم ، في قوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ قال : كانوا يتقون أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج ، فنزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا .
واختلفوا أيضا في معنى قوله : أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ فقال بعضهم : عُني بذلك وكيلُ الرجل وَقيّمُه ، أنه لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ، ونحو ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ وهو الرجل يوكّل الرجل بضيعته ، فرخص الله له أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشربَ اللبن .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : منزل الرجل نفسه أنه لا بأس عليه أن يأكل . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ يعني : بيت أحدهم ، فإنه يملكه ، والعبيد منهم مما ملكوا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ مما تحبون يا ابن آدم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ قال : خزائن لأنفسهم ، ليست لغيرهم .
وأشبه الأقوال التي ذكرنا في تأويل قوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ . . . إلى قوله : أوْ صَدِيقكُمْ القول الذي ذكرنا عن الزهريّ عن عبيد الله بن عبد الله ، وذلك أن أظهر معاني قوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ : أنه لا حرج على هؤلاء الذين سُمّوا في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من ذكره الله فيها ، على ما أباح لهم من الأكل منها . فإذ كان ذلك أظهر معانيه ، فتوجيه معناه إلى الأغلب الأعرف من معانيه أولى من توجيهه إلى الأنكر منها . فإذ كان ذلك كذلك ، كان ما خالف من التأويل قول من قال : معناه : ليس في الأعمى والأعرج حرج ، أولى بالصواب . وكذلك أيضا الأغلب من تأويل قوله : وَلا عَلى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتكُمْ أنه بمعنى : ولا عليكم أيها الناس . ثم جمع هؤلاء والزّمْنَى الذين ذكرهم قبل في الخطاب ، فقال : أن تأكلوا من بيوت أنفسكم . وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بين خبر الغائب والمخاطب ، غلّبت المخاطب فقالت : أنت وأخوك قمتما ، وأنت وزيد جلستما ، ولا تقول : أنت وأخوك جلسا ، وكذلك قوله : وَلا عَلى أنْفُسِكُمْ والخبر عن الأعمى والأعرج والمريض ، غلّب المخاطب ، فقال : أن تأكلوا ، ولم يقل : أن يأكلوا .
فإن قال قائل : فهذا الأكل من بيوتهم قد علمناه كان لهم حلالاً إذ كان ملكا لهم ، أَوَ كانَ أيضا حلالاً لهم الأكل من مال غيرهم ؟ قيل له : ليس الأمر في ذلك على ما توهمّتَ ولكنه كما ذكرناه عن عبيد الله بن عبد الله ، أنهم كانوا إذا غابوا في مغازيهم وتخلف أهل الزمانة منهم ، دفع الغازي مفتاح مسكنه إلى المتخلف منهم ، فأطلق له في الأكل مما يخلف في منزله من الطعام ، فكان المتخلفون يتخوّفون الأكل من ذلك وربه غائب ، فأعلمه الله أنه لا حرج عليه في الأكل منه وأذِن لهم في أكله . فإذ كان ذلك كذلك تبين أن لا معنى لقول من قال : إنما أنزلت هذه الآية من أجل كراهة المستتبع أكل طعام غير المستتبع لأن ذلك لو كان كما قال من قال ذلك : لقيل : ليس عليكم حرج أن تأكلوا من طعام غير من أضافكم ، أو من طعام آباء من دعاكم ، ولم يقل : أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم . وكذلك لا وجه لقول من قال : معنى ذلك : ليس على الأعمى حرج في التخلف عن الجهاد في سبيل الله ، لأن قوله : أنْ تأْكُلوا خبر «ليس » ، و«أنْ » في موضع نصب على أنها خبر لها ، فهي متعلقة ب«ليس » ، فمعلوم بذلك أن معنى الكلام : ليس على الأعمى حرج أن يأكل من بيته ، ولا ما قاله الذين ذكرنا من أنه لا حرج عليه في التخلف عن الجهاد . فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ، تبين أن معنى الكلام : لا ضِيقَ على الأعمى ، ولا على الأعرج ، ولا على المريض ، ولا عليكم أيها الناس ، أن تأكلوا من بيوت أنفسكم أو من بيوت آبائكم أو من بيوت أمهاتكم أو من بيوت إخوانكم أو من بيوت أخواتكم أو من بيوت أعمامكم أو من بيوت عماتكم أو من بيوت أخوالكم أو من بيوت خالاتكم أو من البيوت التي ملكتم مَفاتحها أو من بيوت صديقكم ، إذا أذنوا لكم في ذلك ، عند مغيبهم ومشهدهم . والمفاتح : الخزائن ، واحدها : «مَفْتح » إذا أريد به المصدر ، وإذا كان من المفاتيح التي يفتح بها ، فهي مِفْتح ومفاتح وهي ها هنا على التأويل الذي اخترناه جمع مِفْتح الذي يفتح به . وكان قَتاة يتأوّل في قوله : أوْ صَدِيقِكُمْ ، ما :
حدثنا به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر ، عن قَتادة : أوْ صَدِيقِكُمْ فلو أكلْت من بيت صديقك من غير أمره ، لم يكن بذلك بأس . قال معمر : قلت لقتادة : أَوَلاَ أشربُ من هذا الحُبّ ؟ قال : أنت لي صديق .
وأما قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : كان الغنيّ من الناس يتخوّف أن يأكل مع الفقير ، فرخّصَ لهم في الأكل معهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس ، قوله : أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا قال : كان الغنيّ يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصديقه ، فيدعُوَه إلى طعامه ليأكل معه ، فيقول : والله إني لأجنح أن آكل معك والجنح : الحرج وأنا غنيّ وأنت فقير فأُمروا أن يأكلوا جميعا أو أشتاتا .
وقال آخرون : بل عُني بذلك حيّ من أحياء العرب ، كانوا لا يأكل أحدهم وحده ولا يأكل إلا مع غيره ، فأذِن الله لهم أن يأكل من شاء منهم وحده ومن شاء منهم مع غيره . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : كانوا يأنفون ويتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره ، فرخص الله لهم ، فقال : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : كانت بنوِ كنانة يستحى الرجل منهم أن يأكل وحده ، حتى نزلت هذه الآية .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : كانوا لا يأكلون إلا جميعا ، ولا يأكلون متفرّقين ، وكان ذلك فيهم دينا فأنزل الله : ليس عليكم حرج في مؤاكلة المريض والأعمى ، وليس عليكم حرج أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا قال : كان من العرب من لا يأكل أبدا جميعا ومنهم من لا يأكل إلا جميعا ، فقال الله ذلك .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، حدثنا نزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا في حيّ من في العرب كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده ، كان يحمله بعض يوم حتى يجد من يأكله معه . قال : وأحسب أنه ذكر أنهم من كِنانة .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك قوم كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم ، فرخّصَ لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن عمران بن سليمان ، عن أبي صالح وعكرمة ، قالا : كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم ، فرُخّص لهم ، قال الله : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله وضع الحَرَج عن المسلمين أن يأكلوا جميعا معا إذا شاءوا ، أو أشتاتا متفرّقين إذا أرادوا . وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتخوّف من الأغنياء الأكل مع الفقير ، وجائز أن يكون نزل بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا لا يَطْعَمون وُحْدانا ، وبسبب غير ذلك ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر ، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه . والصواب التسليم لما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، والتوقف فيما لم يكن على صحته دليل .
وقوله : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّموا عَلى أنْفُسِكُمْ تَحِيّةً مِنْ عِنْدَ اللّهِ اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فإذا دخلتم أيها الناس بيوت أنفسكم ، فسلموا على أهليكم وعيالكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ وقتادة في قوله : فسَلّموا عَلى أنْفُسِكُمْ قالا : بيتك ، إذا دخلته فقل : سلام عليكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسكُمْ قال : سَلّمْ على أهلك قال ابن جُرَيج : وسُئل عن عطاء بن أبي رباح : أحقّ على الرجل إذا دخل على أهله أن يسلم عليهم ؟ قال : نعم . وقالها عمرو بن دينار . وتَلَوا : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفِسكُمْ تَحِيّةً مِنْ عِنْد اللّهِ مُبارَكَةً طَيّبَةً قال عطاء بن أبي رباح ذلك غير مرّة .
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني أبو الزّبير ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تَحيّةً مِنْ عِنْدَ اللّهِ مُبارَكَةً طَيّبَةً . قال : ما رأيته إلا يوجبه . قال ابن جُرَيج ، وأخبرني زياد ، عن ابن طاوس أنه كان يقول : إذا دخل أحدكم بيته فليسلم .
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قلت لعطاء : إذا خرجت أواجب السلام ؟ هل أسلم عليهم ؟ فإنما قال : إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا ؟ قال : ما أعلمه واجبا ولا آثِرُ عن أحد وجوبه ، ولكن أحبّ إليّ ، وما أدعه إلا ناسيا . قال ابن جُرَيج ، وقال عمرو بن دينار : لا ، قال : قلت لعطاء : فإن لم يكن في البيت أحد ؟ قال : سلّمْ قل : السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله . قلت له : قولك هذا إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد عمن تَأْثِره ؟ قال : سمعته ولم يؤثر لي عن أحد . قال ابن جُرَيج ، وأخبرني عَطَاءٌ الخُراسانيّ ، عن ابن عباس ، قال : السلام علينا من ربنا ، وقال عمرو بن دينار : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
حدثنا أحمد بن عبد الرحيم ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : حدثنا صدقة ، عن زُهَير ، عن ابن جُرَيج ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم ، تحية من عند الله مباركة طيبة . قال : ما رأيته إلاّ يوجبه .
حدثنا محمد بن عباد الرازي ، قال : حدثنا حجاج بن محمد الأعور ، قال : قال لي ابن جُرَيج ، أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : فذكر مثله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ يقول : سلموا على أهاليكم إذا دخلتم بيوتكم ، وعلى غير أهاليكم ، فسلموا إذا دخلتم بيوتهم .
وقال آخرون : بل معناه : فإذا دخلتم المساجد فسلّموا على أهلها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن معمر ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس : إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ قال : هي المساجد ، يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، في قوله : فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ قال : إذا دخلت المسجد فقل : السلام على رسول الله وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإذا دخلت بيتك فقل : السلام عليكم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين فيها ناس منكم ، فليسلم بعضكم على بعض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ أي ليسلم بعضكم على بعض ، كقوله : وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ قال : إذا دخل المسلّم سُلّم عليه ، كمثل قوله : لا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ إنما هو : لا تقتل أخاك المسلم . وقوله : ثُمّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ قال : يقتل بعضكم بعضا ، قُريظة والنّضِير .
وقال آخرون : معناه : فإذا دخلتم بيوتا ليس فيها أحد ، فسلموا على أنفسكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، قال : إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإذا دخلت بيتا فيه ناس من المسلمين وغير المسلمين ، فقل مثل ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي سِنان ، عن ماهان ، قال : إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ، قال : تقولوا : السلام علينا من ربنا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرنا شعبة عن منصور ، قال شعبة : وسألته عن هذه الآية : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ تَحِيّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ قال : قال إبراهيم : إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشجّ ، عن نافع : أن عبد الله كان إذا دخل بيتا ليس فيه أحد ، قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، قال : حدثنا منصور ، عن إبراهيم : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسكُمْ قال : إذا دخلت بيتا فيه يهود فقل : السلام عليكم وإن لم يكن فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه : فإذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين ، فليسلم بعضكم على بعض .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن الله جلّ ثناؤه قال : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا ولم يخصُصْ من ذلك بيتا دون بيت ، وقال : فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ يعني : بعضكم على بعض . فكان معلوما إذ لم يخصص ذلك على بعض البيوت دون بعض ، أنه معنىّ به جميعها ، مساجدها وغير مساجدها . ومعنى قوله : فَسَلّموا عَلى أنْفُسِكُمْ نظير قوله : وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ . وقوله : تَحِيّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ ونصب تحية ، بمعنى : تُحيّون أنفسكم تحية من عند الله السلام تحية ، فكأنه قال : فليحيّ بعضكم بعضا تحية من عند الله . وقد كان بعض أهل العربية يقول : إنما نصبت بمعنى : أَمَرَكم بها تفعلونها تَحيّة منه ، ووصف جلّ ثناؤه هذه التحية المباركة الطيبة لما فيها من الأجر الجزيل والثواب العظيم .
وقوله : كَذلكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ يقول تعالى ذكره : هكذا يفصل الله لكم معالم دينكم فيبينها لكم ، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحلّ لكم فيها ، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه . لَعَلّكُم تَعْقِلَونَ يقول : لكي تفقَهوا عن الله أمره ونهيه وأدبه .
{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } نفي لما كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذرا من استقذارهم ، أو أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح ويبيح لهم التبسط فيه إذا خرج إلى الغزو وخلفهم على المنازل مخافة أن لا يكون ذلك من طيب قلب ، أو من إجابة من يدعوهم إلى بيوت آبائهم وأولادهم وأقاربهم فيطعمونهم كراهة أن يكونوا كلا عليهم ، وهذا إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة أو كان في أول الإسلام ثم نسخ بنحو قوله { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام } . وقيل نفي للحرج عنهم في القعود عن الجهاد وهو لا يلائم ما قبله ولا ما بعده . { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه الصلاة والسلام " أنت ومالك لأبيك " وقوله عليه الصلاة والسلام " إن أطيب ما يأكل المؤمن من كسبه وإن ولده من كسبه " { أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه } وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرفكم من ضيعة أو ماشية وكالة أو حفظا . وقيل بيوت المماليك والمفاتح جمع مفتح وهو ما يفتح به وقرىء { مفتاحه } . { أو صديقكم } أو بيوت صديقكم فإنهم أرضى بالتبسط في أموالهم وأسر به ، وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط ، هذا كله إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ولذلك خصص هؤلاء فإنه يعتاد التبسط بينهم ، أو كان ذلك في أول الإسلام فنسخ فلا احتجاج للحنفية به على أن لا قطع بسرقة مال المحرم . { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } مجتمعين أو متفرقين نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده . أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلى معه . أو في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطبائع في القذارة والنهمة . { فإذا دخلتم بيوتا } من هذه البيوت { فسلموا على أنفسكم } على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة . { تحية من عند الله } ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، ويجوز أن تكون من صلة للتحية فإنه طلب الحياة وهي من عنده تعالى وانتصابها بالمصدر لأنها بمعنى التسليم . { مباركة } لأنها يرجى بها زيادة الخير والثواب . { طيبة } تطيب بها نفس المستمع . وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال لي " متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين " . { كذلك يبين الله لكم الآيات } كرره ثلاثا لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهذا بما هو بما هو المقصود منه فقال : { لعلكم تعقلون } أي الحق والخير في الأمور .
{ لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } .
اختلف في أن قوله تعالى : { ليس على الأعمى حرج } الخ منفصل عن قوله { ولا على أنفسكم } وأنه في غرض غير غرض الأكل في البيوت ، أي فيكون من تمام آية الاستيذان ، أو هو متصل بما بعده في غرض واحد .
فقال بالأول الحسن وجابر بن زيد وهو مختار الجبائي وابن عطية وابن العربي وأبي حيان . وقال ابن عطية : إنه ظاهر الآية . وهو الذي نختاره تفادياً من التكلف الذي ذكره مخالفوهم لبيان اتصاله بما بعده في بيان وجه الرخصة لهؤلاء الثلاثة الأصناف في الطعام في البيوت المذكورة ، ولأن في قوله : { أن تأكلوا من بيوتكم } إلى آخر المعدودات لا يظهر اتصاله بالأعمى والأعرج والمريض ، فتكون هذه الآية نفياً للحرج عن هؤلاء الثلاثة فيما تجره ضرارتهم إليهم من الحرج من الأعمال ، فالحرج مرفوع عنهم في كل ما تضطرهم إليه أعذارهم ، فتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالإكمال ويقتضي العذر أن يقع منهم . فالحرج منفي عن الأعمى في التكليف الذي يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي والركوب ، وعن المريض في التكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة والغزو . ولكن المناسبة في ذكر هذه الرخصة عقب الاستئذان أن المقصد الترخيص للأعمى أنه لا يتعين عليه استئذان لانتفاء السبب الموجِبهِ . ثم ذكر الأعرج والمريض إدماجاً وإتماماً لحكم الرخصة لهما للمناسبة بينهما وبين الأعمى .
وقال بالثاني جمهور المفسرين وقد تكلفوا لوجه عدّ هذه الأصناف الثلاثة في عداد الآكلين من الطعام الذي في بيوت من ذكروا في الآية الموالية .
والجملة : على كلا الوجهين مستأنفة استئنافاً ابتدائياً .
{ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أمهاتكم أَوْ بُيُوتِ إخوانكم أَوْ بُيُوتِ أخواتكم أَوْ بُيُوتِ أعمامكم أَوْ بُيُوتِ عماتكم أَوْ بُيُوتِ أخوالكم أَوْ بُيُوتِ خالاتكم أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } .
مناسبة عطف هذه الرخص على رخصة الأعمى ، على تقدير أنه منفصل عنه كما تقدم وهو المختار عند المحققين ، هو تعلق كليهما بالاستئذان والدخول للبيوت سواء كان لغرض الطعام فيها أو كان للزيارة ونحوها لاشتراك الكل في رفع الحرج ، وعلى تقدير أنه متصل به على قول الجمهور فاقتران الجميع في الحكم هو الرخصة للجميع في الأكل ، فأذن الله للأعمى والأعرج والمريض أن يدخلوا البيوت للأكل لأنهم محاويج لا يستطيعون التكسب وكان التكسب زمانئذٍ بعمل الأبدان فرخص لهؤلاء أن يدخلوا بيوت المسلمين لشبع بطونهم .
هذا أظهر الوجوه في توجيه عد هؤلاء الثلاثة مع من عطف عليهم . وقد ذكر المفسرون وجوهاً أخر أنهاها أبو بكر ابن العربي في « أحكام القرآن » إلى ثمانية ليس منها واحد ينثلج له الصدر .
وأعيد حرف ( لا ) مع المعطوف على المنفي قبله تأكيداً لمعنى النفي وهو استعمال كثير .
والمقصود بالأكل هنا الأكل بدون دعوة وذلك إذا كان الطعام محضراً دون المختزن .
والمراد بالأنفس ذوات المخاطبين بعلامات الخطاب فكأنه قيل : ولا عليكم جناح أن تأكلوا إلى آخره ، فالخطاب للأمة .
والمراد بأكل الإنسان من بيته الأكل غير المعتاد ، أي أن يأكل أكلاً لا يشاركه فيه بقية أهله كأن يأكل الرجل وزوجه غائبة ، أو أن تأكل هي وزوجها غائب فهذه أثرة مرخص فيها .
وعطف على بيوت أنفسهم بيوتُ آبائهم ، ولم يذكر بيوت أولادهم مع أنهم أقرب إلى الآكلين من الآباء فهم أحق بأن يأكلوا من بيوتهم . قيل : لأن الأبناء كائنون مع الآباء في بيوتهم ، ولا يصح ، فقد كان الابن إذا تزوج بنى لنفسه بيتاً كما في خبر عبد الله بن عمر . فالوجه أن بيوت الأبناء معلوم حكمها بالأولى من البقية لقول النبي صلى الله عليه وسلم « أنت ومالك لأبيك » .
وهؤلاء المعدودون في الآية بينهم من القرابة أو الولاية أو الصداقة ما يعتاد بسببه التسامح بينهم في الحضور للأكل بدون دعوة لا يتحرج أحد منهم من ذلك غالباً .
و ( ما ) في قوله : { ما ملكْتُم مفاتحه } موصولة صادقة على المكان أو الطعام ، عطف على { بيوت خالاتكم } لا على { أخوالكم } ولهذا جيء ب ( ما ) الغالب استعمالها في غير العاقل .
ومِلك المفاتيح أريد به حفظها بقرينة إضافته إلى المفاتيح دون الدور أو الحوائط . والمفاتح : جمع مَفْتح وهو اسم آلة الفتح . ويقال فيها مفتاح ويجمع على مفاتيح .
وهذه رخصة للوكيل والمختزن للطعام وناطور الحائط ذي الثمر أن يأكل كل منهم مما تحت يده بدون إذن ولا يتجاوز شبع بطنه وذلك للعرف بأن ذلك كالإجارة فلذلك قال الفقهاء : إذا كان لواحد من هؤلاء أجرة على عمله لم يجز له الأكل مما تحت يده .
و ( صديق ) هنا مراد به الجنس الصادق بالجماعة بقرينة إضافته إلى ضمير جماعة المخاطبين ، وهو اسم تجوز فيه المطابقة لمن يجري عليه إن كان وصفاً أو خبراً في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث وهو الأصل ، والغالب في فصيح الاستعمال أن يلزم حالة واحدة قال تعالى : { فما لنا منْ شافعين ولا صديق حميم } [ الشعراء : 100 ، 101 ] ومثله الخليط والقطين .
والصديق : فعيل بمعنى فاعل وهو الصادق في المودة . وقد جعل في مرتبة القرابة مما هو موقور في النفوس من محبة الصلة مع الأصدقاء . وسئل بعض الحكماء : أي الرجلين أحب إليك أخوك أم صديقك ؟ فقال : إنما أحب أخي إذا كان صديقي .
وأعيدت جملة : { ليس عليكم جُناح } تأكيداً للأولى في قوله : { ولا على أنفسكم } إذ الجناح والحرج كالمترادفين .
وحسّن هذا التأكيد بُعد ما بين الحال وصاحبها وهو واو الجماعة في قوله : { أن تأكلوا من بيوتكم } ، ولأجل كونها تأكيداً فصلت بلا عطف .
والأشتات : الموزعون فيما الشأن اجتماعهم فيه ، قال تعالى : { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } [ الحشر : 14 ] .
والأشتات : جمع شَتّ ، وهو مصدر شتّ إذا تفرق . وأما شتّى فجمع شتيت .
والمعنى : لا جناح عليكم أن يأكل الواحد منكم مع جماعة جاءوا للأكل مثله ؛ أو أن يأكل وحده متفرقاً عن مشارك ، لئلا يحسب أحدهم أنه إن وجد من سبقه للأكل أن يترك الأكل حتى يخرج الذي سبقه ، أو أن يأكل الواحد منكم مع أهل البيت . أو أن يأكل وحده .
وتقدم قراءة { بيوت } بكسر الباء للجمهور وبضمها لورش وحفص عن عاصم عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم } في هذه السورة ( 27 ) .
{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مباركة طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الايات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
تفريع على الإذن لهم في الأكل من هذه البيوت بأن ذكَّرهم بأدب الدخول المتقدم في قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } [ النور : 27 ] لئلا يجعلوا القرابة والصداقة والمخالطة مبيحة لإسقاط الآداب فإن واجب المرء أن يلازم الآداب مع القريب والبعيد ولا يغرنَّه قول الناس : إذا استوى الحب سقط الأدب .
ومعنى { فسلموا على أنفسكم } فليسلم بعضكم على بعض ، كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] .
ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقته فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب . وأما ما ورد في التشهد من قول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فذلك سلام بمعنى الدعاء بالسلامة جعله النبي صلى الله عليه وسلم لهم عوضاً عما كانوا يقولون : السلام على الله ، السلام على النبي ، السلام على جبريل ومكائيل ، السلام على فلان وفلان . فقال لهم رسول الله : « إن الله هو السلام ، إبطالاً لقولهم السلام على الله » ثم قال لهم : « قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء وفي الأرض » .
وأما السلام في هذه الآية فهو التحية كما فسره بقوله : { تحية من عند الله مباركة طيبة } ولا يؤمر أحد بأن يسلم على نفسه .
والتحية : أصلها مصدر حيّاه تحية ثم أدغمت الياءان تخفيفاً وهي قول : حياك الله . وقد تقدم في قوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } في سورة النساء ( 86 ) .
فالتحية مصدر فعل مشتق من الجملة المشتملة على فعل ( حيّا ) مثل قولهم : جزّاه . إذا قال له : جزاك الله خيراً ، كما تقدم في فعل { وتسلموا على أهلها } [ النور : 27 ] آنفاً .
وكان هذا اللفظ تحية العرب قبل الإسلام تحية العامة قال النابغة :
حيّاكِ ربي فإنا لا يحل لنا *** لهو النساء وإن الدين قد عزَما
وكانت تحية الملوك « عم صباحاً » فجعل الإسلام التحية كلمة « السلام عليكم » ، وهي جائية من الحنيفية { قالوا سلاماً قال سلام } [ هود : 69 ] وسماها تحية الإسلام ، وهي من جوامع الكلم لأن المقصود من التحية تأنيس الداخل بتأمينه إن كان لا يعرفه وباللطف له إن كان معروفاً .
ولفظ « السلام » يجمع المعنيين لأنه مشتق من السلامة فهو دعاء بالسلامة وتأمين بالسلام لأنه إذا دعا له بالسلامة فهو مسالم له فكان الخبر كناية عن التأمين ، وإذا تحقق الأمران حصل خير كثير لأن السلامة لا تجامع شيئاً من الشر في ذات السالم ، والأمان لا يجامع شيئاً من الشر يأتي من قِبل المعتدي فكانت دعاء ترجى إجابته وعهداً بالأمن يجب الوفاء به . وفي كلمة { عليكم } معنى التمكن ، أي السلامة مستقرة عليكم .
ولكون كلمة ( السلام ) جامعة لهذا المعنى امتن الله على المسلمين بها بأن جعلها من عند الله إذ هو الذي علّمها رسوله بالوحي .
وانتصب { تحية } على الحال من التسليم الذي يتضمنه { فسلّموا } نظير عود الضمير على المصدر في قوله : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
والمباركة : المجعولة فيها البركة . والبركة : وفرة الخير . وإنما كانت هذه التحية مباركة لما فيها من نية المسالمة وحسن اللقاء والمخالطة وذلك يوفر خير الأخوة الإسلامية .
والطيِّبة : ذات الطيِّب ، وهو طِيب مجازي بمعنى النزاهة والقبول في نفوس الناس ووجه طِيب التحية أنها دعاء بالسلامة وإيذان بالمسالمة والمصافاة . ووزن { طيبة } فيعلة مبالغة في الوصف مثل : الفيصل . وتقدم في قوله تعالى : { قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } في آل عمران ( 38 ) وفي قوله : { وجَرَيْن بِهِمْ بريح طيبة } في سورة يونس ( 22 ) .
والمعنى أن كلمة « السلام عليكم » تحية خيرٌ من تحية أهل الجاهلية . وهذا كقوله تعالى : { وتحيتهم فيها سلام } [ يونس : 10 ] أي تحيتهم هذا اللفظ .
وجملة { كذلك يبين الله لكم الآيات } تكرير للجملتين الواقعتين قبلها في آية الاستئذان لأن في كل ما وقع قبل هذه الجملة بياناً لآيات القرآن اتضحت به الأحكام التي تضمنتها وهو بيان يرجى معه أن يحصل لكم الفهم والعلم بما فيه كمال شأنكم .
روى مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أن الآية نزلت في أناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعنون في الجهاد- وضعوا مفاتيح بيوتهم عند أهل العلة ممن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: عند الأعمى، والأعرج، والمريض، وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا من بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، فكانوا يتقونه، ويقولون: نخشى ألا تكون نفوسهم بذلك طيبة، فأنزل الله هذه الآية يحله لهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في هذه الآية في المعنى الذي أنزلت فيه؛ فقال بعضهم: أنزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين في الأكل مع العُمْيان والعُرْجان والمرضى وأهل الزّمانة من طعامهم، من أجل أنهم كانوا قد امتنعوا من أن يأكلوا معهم من طعامهم، خشية أن يكونوا قد أتَوْا بأكلهم معهم من طعامهم شيئا مما نهاهم الله عنه بقوله:"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنكمْ"... عن ابن عباس: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ "إلى قوله: "أوْ أشْتاتا"، وذلك لَمّا أنزل الله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ... "فقال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام من أفضل الأموال، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكفّ الناس عن ذلك، فأنزل الله بعد ذلك: "لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ" إلى قوله: "أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ"..
[عن] الضحاك يقول في قوله: "لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ..." كان أهل المدينة قبل أن يُبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض، فقال بعضهم: إنما كان بهم التقذّر والتقزّز، وقال بعضهم: المريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، والأعرج المنحبس لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والأعمى لا يبصر طيب الطعام، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ في مؤالكة المريض والأعمى والأعرج.
فمعنى الكلام على تأويل هؤلاء: ليس عليكم أيها الناس في الأعمى حرج أن تأكلوا منه ومعه، ولا في الأعرج حرج، ولا في المريض حرج، ولا في أنفسكم، أن تأكلوا من بيوتكم، فوجّهوا معنى «على» في هذا الموضع إلى معنى «في».
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية ترخيصا لأهل الزمانة في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية، لأن قوما كانوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن عندهم في بيوتهم ما يطعمونهم، ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمّى الله في هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتخوّفون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير ملكه...
وقال آخرون: بل نزلت ترخيصا لأهل الزمانة الذين وصفهم الله في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من خَلّفهم في بيوته من الغزاة... حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، قال: قلت للزهريّ، في قوله: لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ ما بال الأعمى ذكر ها هنا والأعرج والمريض؟ فقال: أخبرني عُبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غَزَوا خَلّفوا زَمْناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، يقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا وكانوا يتحرّجون من ذلك، يقولون: لا ندخلها وهي غُيّب. فأنزلت هذه الآية رخصة لهم...
وقال آخرون: بل عُني بقوله: "لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلى المَرِيضِ حَرَجٌ" في التخلف عن الجهاد في سبيل الله. قالوا: وقوله: "وَلا عَلى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلوا مِنْ بُيُوتِكُمْ" كلام منقطع عما قبله...
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين الذين كانوا يتقون مؤاكلة أهل الزمانة في مؤاكلتهم إذا شاءوا ذلك واختلفوا أيضا في معنى قوله: "أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ"؛
فقال بعضهم: عُني بذلك وكيلُ الرجل وَقيّمُه، أنه لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته، ونحو ذلك...
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك: منزل الرجل نفسه أنه لا بأس عليه أن يأكل... وأشبه الأقوال التي ذكرنا في تأويل قوله: "لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ..." إلى قوله: "أوْ صَدِيقكُمْ" القول الذي ذكرنا عن الزهريّ عن عبيد الله بن عبد الله، وذلك أن أظهر معاني قوله: "لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ": أنه لا حرج على هؤلاء الذين سُمّوا في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من ذكره الله فيها، على ما أباح لهم من الأكل منها. فإذ كان ذلك أظهر معانيه، فتوجيه معناه إلى الأغلب الأعرف من معانيه أولى من توجيهه إلى الأنكر منها. فإذ كان ذلك كذلك، كان ما خالف من التأويل قول من قال: معناه: ليس في الأعمى والأعرج حرج، أولى بالصواب. وكذلك أيضا الأغلب من تأويل قوله: "وَلا عَلى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتكُمْ" أنه بمعنى: ولا عليكم أيها الناس، ثم جمع هؤلاء والزّمْنَى الذين ذكرهم قبل في الخطاب، فقال: أن تأكلوا من بيوت أنفسكم، وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بين خبر الغائب والمخاطب، غلّبت المخاطب فقالت: أنت وأخوك قمتما، وأنت وزيد جلستما، ولا تقول: أنت وأخوك جلسا، وكذلك قوله: "وَلا عَلى أنْفُسِكُمْ" والخبر عن الأعمى والأعرج والمريض، غلّب المخاطب، فقال: أن تأكلوا، ولم يقل: أن يأكلوا.
فإن قال قائل: فهذا الأكل من بيوتهم قد علمناه كان لهم حلالاً إذ كان ملكا لهم، أَوَ كانَ أيضا حلالاً لهم الأكل من مال غيرهم؟ قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما توهمّتَ، ولكنه كما ذكرناه عن عبيد الله بن عبد الله، أنهم كانوا إذا غابوا في مغازيهم وتخلف أهل الزمانة منهم، دفع الغازي مفتاح مسكنه إلى المتخلف منهم، فأطلق له في الأكل مما يخلف في منزله من الطعام، فكان المتخلفون يتخوّفون الأكل من ذلك وربه غائب، فأعلمه الله أنه لا حرج عليه في الأكل منه وأذِن لهم في أكله. فإذ كان ذلك كذلك تبين أن لا معنى لقول من قال: إنما أنزلت هذه الآية من أجل كراهة المستتبع أكل طعام غير المستتبع، لأن ذلك لو كان كما قال من قال ذلك: لقيل: ليس عليكم حرج أن تأكلوا من طعام غير من أضافكم، أو من طعام آباء من دعاكم، ولم يقل: أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم. وكذلك لا وجه لقول من قال: معنى ذلك: ليس على الأعمى حرج في التخلف عن الجهاد في سبيل الله، لأن قوله: أنْ تأْكُلوا خبر «ليس»، و«أنْ» في موضع نصب على أنها خبر لها، فهي متعلقة ب«ليس»، فمعلوم بذلك أن معنى الكلام: ليس على الأعمى حرج أن يأكل من بيته، ولا ما قاله الذين ذكرنا من أنه لا حرج عليه في التخلف عن الجهاد. فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، تبين أن معنى الكلام: لا ضِيقَ على الأعمى، ولا على الأعرج، ولا على المريض، ولا عليكم أيها الناس، أن تأكلوا من بيوت أنفسكم أو من بيوت آبائكم أو من بيوت أمهاتكم أو من بيوت إخوانكم أو من بيوت أخواتكم أو من بيوت أعمامكم أو من بيوت عماتكم أو من بيوت أخوالكم أو من بيوت خالاتكم أو من البيوت التي ملكتم مَفاتحها أو من بيوت صديقكم، إذا أذنوا لكم في ذلك، عند مغيبهم ومشهدهم. والمفاتح: الخزائن، واحدها: «مَفْتح» إذا أريد به المصدر، وإذا كان من المفاتيح التي يفتح بها، فهي مِفْتح ومفاتح وهي ها هنا على التأويل الذي اخترناه جمع مِفْتح الذي يفتح به...
وأما قوله: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛
فقال بعضهم: كان الغنيّ من الناس يتخوّف أن يأكل مع الفقير، فرخّصَ لهم في الأكل معهم...
وقال آخرون: بل عُني بذلك حيّ من أحياء العرب، كانوا لا يأكل أحدهم وحده ولا يأكل إلا مع غيره، فأذِن الله لهم أن يأكل من شاء منهم وحده ومن شاء منهم مع غيره... وقال آخرون: بل عُنِي بذلك قوم كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخّصَ لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وضع الحَرَج عن المسلمين أن يأكلوا جميعا معا إذا شاءوا، أو أشتاتا متفرّقين إذا أرادوا. وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتخوّف من الأغنياء الأكل مع الفقير، وجائز أن يكون نزل بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا لا يَطْعَمون وُحْدانا، وبسبب غير ذلك ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه. والصواب التسليم لما دلّ عليه ظاهر التنزيل، والتوقف فيما لم يكن على صحته دليل.
وقوله: "فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّموا عَلى أنْفُسِكُمْ تَحِيّةً مِنْ عِنْدَ اللّهِ"؛ اختلف أهل التأويل في ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: فإذا دخلتم أيها الناس بيوت أنفسكم، فسلموا على أهليكم وعيالكم... عن ابن عباس، قال: السلام علينا من ربنا، وقال عمرو بن دينار: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين...
وقال آخرون: بل معناه: فإذا دخلتم المساجد فسلّموا على أهلها... عن إبراهيم، في قوله: "فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ" قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإذا دخلت بيتك فقل: السلام عليكم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين فيها ناس منكم، فليسلم بعضكم على بعض...
وقال آخرون: معناه: فإذا دخلتم بيوتا ليس فيها أحد، فسلموا على أنفسكم... عن نافع: أن عبد الله كان إذا دخل بيتا ليس فيه أحد، قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه: فإذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين، فليسلم بعضكم على بعض.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن الله جلّ ثناؤه قال: "فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا" ولم يخصُصْ من ذلك بيتا دون بيت، وقال: "فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ" يعني: بعضكم على بعض، فكان معلوما إذ لم يخصص ذلك على بعض البيوت دون بعض، أنه معني به جميعها، مساجدها وغير مساجدها. ومعنى قوله: "فَسَلّموا عَلى أنْفُسِكُمْ" نظير قوله: "وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ".
وقوله: "تَحِيّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ" ونصب تحية، بمعنى: تُحيّون أنفسكم تحية من عند الله السلام تحية، فكأنه قال: فليحيّ بعضكم بعضا تحية من عند الله. وقد كان بعض أهل العربية يقول: إنما نصبت بمعنى: أَمَرَكم بها تفعلونها تَحيّة منه، ووصف جلّ ثناؤه هذه التحية المباركة الطيبة لما فيها من الأجر الجزيل والثواب العظيم.
وقوله: "كَذلكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيات" يقول تعالى ذكره: هكذا يفصل الله لكم معالم دينكم فيبينها لكم، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحلّ لكم فيها، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه.
"لَعَلّكُم تَعْقِلَونَ" يقول: لكي تفقَهوا عن الله أمره ونهيه وأدبه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تأكلوا مِن بُيُوتِكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: من أموال عيالكم وأزواجكم لأنهم في بيته.
الثاني: من بيوت أولادكم فنسب بيوت الأولاد إلى بيوت أنفسهم.
الثالث: يعني بها البيوت التي هم ساكنوها خدمة لأهلها واتصالاً بأربابها كالأهل والخدم.
{أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ} فأباح الأكل من بيوت هؤلاء لمكان النسب من غير استئذانهم في الأكل إذا كان الطعام مبذولاً، فإن كان محروزاً دونهم لم يكن لهم هتك حرزه. ولا يجوز أن يتجاوزوا الأكل إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن كان غير محروز عنهم إلا بإذن منهم...
{أَوْ صَدِيقِكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه يأكل من بيت صديقه في الوليمة دون غيرها. الثاني: أنه يأكل من منزل صديقه في الوليمة وغيرها إذا كان الطعام حاضراً غير محرز...والمراد بالصديق الأصدقاء وهو واحد يعبر به عن الجمع...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك، وخافوا أن يلحقهم فيه حرج؛ وكرهوا أن يكون أكلاً بغير حق...فقيل لهم: ليس على الضعفاء ولا على أنفسكم؛ يعني: عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك...فإن قلت: هلا ذكر الأولاد؛ قلت: دخل ذكرهم تحت قوله: {مِن بُيُوتِكُمْ} لأن ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه...ومعنى {مِن بُيُوتِكُمْ} من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم؛ ولأنّ الولدَ أقرب ممن عدّد من القرابات، فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة: كان الذي هو أقرب منهم أولى.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}. فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده، ومع الجماعة، وإن كان الأكل مع الجماعة أفضل وأبرك، كما رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، عن وَحْشيّ بن حَرْب، عن أبيه، عن جده؛ أنّ رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا نأكلُ ولا نشبَع. قال:"فلعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يُبَاركْ لكم فيه"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتم سبحانه ما ذكر من حرمات البيوت المستلزمة لصيانة الأبضاع على وجه يلزم منه إحراز الأموال، أتبعه ما يباح من ذلك للأكل الذي هو من أجلّ مقاصد الأموال اجتماعاً وانفراداً، فقال في جواب من كأنه سأل: هل هذا التحجير في البيوت سارٍ في الأقارب وغيرهم في جميع الأحوال؟: {ليس على الأعمى حرج} أي في مؤاكلة غيره وما يأتي من الأحكام، وإن كره غيره أكله لمد يده كيفما اتفق فإنه مرحوم، والاستئذان من أجل البصر {ولا على الأعرج} الذي لا يرجى {حرج} وإن تقذر منه بعض المترفين فإنه يجامعه في أنه يرحم لنقصه {ولا على المريض} أي مرضاً يرجى بعرج أو غيره {حرج} كذلك لمرضه، وأخره لرجاء برئه {ولا على أنفسكم} أي ولا على غير من ذكر، وعبر بذلك تذكيراً بأن الكل من نفس واحدة {أن تأكلوا من بيوتكم} أي التي فيها عيالكم، وذكرها سبحانه لئلا يحصل من تركها لو تركها ريبة، وليدخل فيها بيوت الأولاد لأنهم من كسب الأب "أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ""أنت ومالك لأبيك" {أو بيوت آبائكم} وإن بعدت أنسابكم -ولعله جمع لذلك- فإنها مرباكم وحرمتها حرمتكم {أو بيوت أمهاتكم} كذلك، وقدم الأب لأنه أجل وهو حاكم بيته دائماً والمال له {أو بيوت إخوانكم} من الأبوين أو الأب أو الأم بالنسب أو الرضاع، فإنهم من أولى من رضي بذلك بعد الوالدين، لأنهم أشقاؤكم، وهم أولياء بيوتهم {أو بيوت أخواتكم} فإنهن بعدهم، من أجل أن ولي البيت -إذا كن مزوجات- الزوج {أو بيوت أعمامكم} فإنهم شقائق آبائكم سواء كانوا أشقاء أو لأب أو أم، ولو أفرد العم لتوهم أنه الشقيق فقط فإنه أحق بالاسم {أو بيوت عماتكم} فهن بعد الأعمام لضعفهن، ولأنه ربما كان أولياء بيوتهن الأزواج {أو بيوت أخوالكم} لأنهم شقائق أمهاتكم {أو بيوت خالاتكم} أخرهن لما ذكر {أو ما ملكتم مفاتحه} أي التصرف فيه بوجه من الوجوه كالوكالة {أو صديقكم} الذي تعرفون رضاه بذلك ولو بقرينة كما هو الغالب، ولذلك أطلقه، وإن لم يكن أمكنكم من مفتاحه بل كان عياله فيه، كل ذلك من غير إفساد ولا حمل ولا ادخار، وقد عدل الصديق هنا بالقريب، تنبيهاً على شريف رتبة الصداقة ولطيف سرها، وخفيف أمرها، وأفرده لعزته؛ وعن جعفر بن محمد: من عظم حرمة الصديق أن جعله كالنفس والأب ومن معه. قال الأصبهاني: وقالوا: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح، وربما سمج الاستئذان وثقل كمن قدم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل.
ولما ذكر معدن الأكل، ذكر حاله فقال: {ليس عليكم جناح} أي شيء من الإثم الذي من شأنه أن يميل بصاحبه عن السواء في {أن تأكلوا جميعاً} أي مجتمعين وإن كان بينكم ناقص الخلقة، لأن من كان معرضاً للآفات جدير بأن يرحم المبتلى، فلا يستقذره حذراً من انعكاس الحال.
ولما رغب في أول الإسلام -لما كان فيه أكثر الناس من الضيق- في المؤاساة، والاجتماع مع الضيوف، ترغيباً ظن به الوجوب، مع ما كانوا عليه من الكرم الباعث على الجود والاجتماع للأنس بالمحتاج، خفف عنهم بقوله: {أو أشتاتاً} أي متفرقين لغير قصد الاستقذار، والترفع والإضرار، وإن كان الأكل في جماعة أفضل وأبرك -كما يفهمه تقديمه، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده "أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نأكل ولا نشبع، قال:"فلعلكم تأكلون متفرقين؟ اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه "" ولابن ماجه عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كلوا جميعاً ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة".
ولما ذكر موطن الأكل وكيفيته، ذكر الحال التي يكون عليها الداخل إلى تلك المواطن أو غيرها، فقال مسبباً عما مضى من الإذن، معبراً بأداة التحقيق، بشارة بأنهم يطيعون بعد أن كانوا تحرجوا من ذلك حين أنزل تعالى
{لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [النساء: 29]: {فإذا دخلتم} أي بسبب ذلك أو غيره {بيوتاً} أي مأذوناً فيها، أيّ بيوت كانت مملوكة أو لا، مساجد أو غيرها {فسلموا} عقب الدخول {على أنفسكم} أي أهلها الذين هم منكم ديناً وقرباً، وعبر بذلك ترغيباً في السلام، والإحسان في الإكرام، ولتصلح العبارة لما إذا لم يكن فيها أحد فيقال حينئذ "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" فيكون من الاستعمال في الحقيقة والمجاز {تحية} مصدر من المعنى دون اللفظ، أو أوقعوا الدعاء للمحيي بسلامة وحياة وملك بقاء {من عند الله} أي هي جديرة لتمام حسنها أن تضاف إلى من له الكمال كله سبحانه {مباركة} أي ثابتة أعظم ثبات بكونها موافقة لما شرع الله من خالص قلوبكم {طيبة} تلذذ السمع؛ ثم وصف البيان، تنبيهاً على ما في هذه الآيات من الحسن والإحسان، فقال مستأنفاً كما مر غير مرة: {كذلك} أي مثل هذا البيان، العظيم الشأن {يبين الله} أي المحيط بكل شيء {لكم الآيات} التي لا أكمل منها.
ولما كان الله تعالى، بعلمه وحكمته، وعزه وقدرته، ولطفه وخبرته، قد خلق عقلاً نيراً يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، وقسمه بين عباده، وخلق فيهم أنواعاً من العوائق لذلك العقل عن النفوذ على سمت الاستقامة، من الهوى والكسل، الفتور والملل، جعلها حجباً تحجبه عن النفوذ، وتستر عنه المدارك، و تمنعه من البلوغ، إلا برياضات ومجاهدات تكل عنها القوى، وتضعف عندها العزائم، فلا يكاد الماهر منهم يرتب قياساً صحيحاً، لغلطه في المقدمات، فتكون النتيجة حينئذ فاسدة القاعدة، واهية الأساس، فكانوا لا يزالون لذلك مختلفين، حتى يوصلهم الاختلاف إلى الإحن، والمشاجرة والفتن، فيجرهم إلى السيف وذهاب النفوس وتلف الأرواح، فأنزل سبحانه لهم في كل وقت شرعاً يليق بذلك الزمان على لسان رسول من رسله عليهم الصلاة والسلام، جعل ذلك الشرع يطابق العقل السوي، والنور الضوي، والمنهل الروي، والسبب القوي، من تمسك به هدي ولم يزغ، حد فيه سبحانه حدوداً، وأقام فيه زواجر، لتظهر حكمته، ويتضح علمه وقدرته، فصارت شرائع متفقة الأصول، مختلفة الفروع، بحسب الأزمنة، إشارة إلى أن الفاعل في تغيير الأحكام بحسب الأزمان واحد مختار، وامتحاناً للعباد، تمييزاً لأهل الصلاح منهم من أهل الفساد، وكانت الإغارة على شيء من الأعراض والأموال على غير ما أذن فيه تُذهب العقول، وتعمي البصائر، ختم الآية بقوله: {لعلكم تعقلون} أي لتكونوا على رجاء عند من يصح منه الرجاء من ثبات هذا الوصف لكم، وهو ضبط النفوس وردها عن الأهوية، باتباع آيات الشرع التي أنزلها الذي كرر وصفه هنا بأنه عليم حكيم، فلا تتولوا بعد قولكم (سمعنا وأطعنا} [المائدة: 7] عن الإذعان للأحكام وأنتم معرضون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمباركة: المجعولة فيها البركة. والبركة: وفرة الخير. وإنما كانت هذه التحية مباركة لما فيها من نية المسالمة وحسن اللقاء والمخالطة وذلك يوفر خير الأخوة الإسلامية. والطيِّبة: ذات الطيِّب، وهو طِيب مجازي بمعنى النزاهة والقبول في نفوس الناس ووجه طِيب التحية أنها دعاء بالسلامة وإيذان بالمسالمة والمصافاة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}، أي ضيق أو إثم، وهذا فريق الفقراء العاجزين الذي يشترط فيهم مع الفقر العجز عن الكسب... {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} ولم يذكر في هذا العجز، بل ذكر مطلقا عن العجز، فهذا يدل على أن العجز ليس بشرط بالنسبة لأنفسكم... {أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ} ذكر البيوت مضافة إلى من يأخذ النفقة، فيه إشارة إلى تشابه بيت طالب النفقة والمطلوب منه، فهما كبيت واحد بالنسبة للمستحق للنفقة، إذ هو كبيته لما بينهما من قرابة أوجبت هذا التعاون. {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ} ويلاحظ هنا ملاحظتين: أولهما: أن (أو) ليست للتخيير المجرد، إنما هي تدل على الترتيب الأقرب فالأقرب، فالأول الآباء، فإن لم يكن فالأمهات بأن كان الآباء عاجزين، وهكذا...
{فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} على أنفسكم، لأنك حين تسلم على غيرك كأنك تسلم على نفسك، لأن غيرك هو أيضا سيسلم عليك، ذلك لأن الإسلام يريد أن يجعل المجتمع الإيماني وحدة متماسكة، فحين تقول لغيرك: السلام عليكم سيرد: وعليكم السلام. فكأنك تسلم على نفسك.
{تحية من عند الله مباركة طيبة}... والتحية فوق أنها من عند الله فقد وصفها بأنها {مباركة} والشيء المبارك: الذي يعطي فوق ما ينتظر منه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وأمثالهم من أصحاب العاهات التي تجعل من اكتساب الرزق والعمل أمراً صعباً عليهم، ما يجعلهم في حاجةٍ ماسّةٍ إلى تناول قوتهم من بيوت هؤلاء المذكورين في الآية، وليس لهؤلاء خصوصية تجعل الحكم محصوراً بهم، لكن التنصيص عليهم قد يعود إلى كونهم النموذج البارز في هذا الحكم الترخيصي فيما بين الناس الآخرين. {وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ} إذا كانت إليكم حاجةٌ، أو في الحالات الطبيعية من حياتكم {أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} وقد يكون في الحديث عن بيوت الناس أنفسهم إشارة إلى أن النظرة الإسلامية تريد أن تصنع من المجتمع الإسلامي وحدةً في حركة العلاقات والممارسة، بحيث لا يجد فيه الإنسان فرقاً بين بيته وبيوت هؤلاء الناس من الأقرباء والأصدقاء... {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} وهذا من آداب الدخول إلى البيوت، فعلى الإنسان إذا دخل أي بيت من بيوت الناس أن يسلم عليهم، وأما التعبير عنهم بكلمة {أَنفُسِكُمْ} فللدلالة على ارتباط المجتمع العضوي، بحيث يكون بعضهم من بعض، باعتبار أن ما يجمعهم من الإيمان يوحّدهم في دائرةٍ واحدة، تماماً كما هو الجسد الواحد، فإذا ما سلّم الإنسان على أخيه المؤمن، كان كمن سلّم على نفسه...