الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ إِخۡوَٰنِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَعۡمَٰمِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ عَمَّـٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخۡوَٰلِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (61)

{ لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ } اختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها فقال ابن عباس : لمّا أنزل الله سبحانه وتعالى قوله

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [ النساء : 29 ] تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله سبحانه عن أكل المال بالباطل ، والاعمى لا يبصر موضع الطعام الطيّب ، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض لا يستوفي الطعام ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في ، يعني ليس عليكم في مواكله الأعمى والأعرج والمريض حرج .

وقال سعيد بن جبير والضحاك ومقسم : كان العرجان والعميان يتنزّهون عن مؤاكلة الأصحّاء لانّ الناس يتقزّزون منهم ويكرهون مؤاكلتهم ، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقزّزاً فأنزل الله سبحانه هذه الآية .

وقال مجاهد : نزلت هذه الآية ترخيصاً للمرضى والزمنى في الأكل من بيوت من سمّى الله سبحانه في هذه الآية وذلك أن قوماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأُمهاتهم أي بعض من سمّى الله في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة : يتحرجون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنّه أطعمهم غير مالكيه ويقولون : إنما يذهبون بنا الى بيوت غيرهم ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .

وروى عبد الرزاق عن معمّر قال : سألت الزهري عن هذه الآية فقال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون : قد أحللناكم أن تأكلوا ممّا في بيوتنا ، فكانوا يتحرّجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غُيّب فأُنزلت هذه رخصة لهم .

وقال الحسن وابن زيد : يعني ليس على الأعمى حرج { وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } في التخلّف عن الجهاد في سبيل الله ، قالا : وههنا تمام الكلام .

وقوله { وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ } الآية . كلام منقطع عمّا قبله .

قال ابن عباس : تحرّج قوم عن الأكل من هذه البيوت لمّا نزل قوله سبحانه

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [ النساء : 29 ] وقالوا : لا يحلّ لأحد مّنا أن يأكل عند أحد ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية { وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } .

قال ابن عباس : عنى بذلك وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته وماشيته ، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته .

وقال الضحّاك : يعني من بيوت عبيدكم ومماليككم .

مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم ممّا اخترتم وملكتم ، وقرأ سعيد بن جبير : مُلّكتم بالتشديد .

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في الحرث بن عمرو ، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً وخلّف ملك بن زيد على أهله فلمّا رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال : تحرّجت أن آكل من طعامك بغير إذنك ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .

وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرّج من طعامه من غير استيذان بهذه الآية .

{ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } .

قال قوم : نزلت في حيّ من كنانة يقال لهم بنو ليث بن عمرو ، كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده ، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح الى المساء الرواح والشول جفل والأحوال منتظمة تحرجاً من أن يأكل وحده ، فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل فأنزل الله سبحانه هذه الآية وهذا قول قتادة والضحاك وابن جريج ، ورواية الوالبي عن ابن عباس .

وروى عطاء الخراساني عنه قال : كان الغنىّ يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول : والله إنّى لأحتج أن آكل معك أي أتحرّج وأنا غنىّ وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية .

وقال عكرمة وأبو صالح : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلاّ مع ضيفهم فرخّص لهم في أن يأكلوا حيث شاؤوا جميعاً مجتمعين ، أو أشتاتاً متفرقين .

{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } أي ليسلّم بعضكم على بعض كقوله سبحانه

{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] .

عن الحسن وابن زيد حدّثنا ابن حبيب لفظاً في شهور سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة قال : حدّثنا أبو حاتم محمد بن حيان البستي قال : حدّثنا محمد بن صالح الطبري قال : حدّثنا الفضل بن سهل الأعرج قال : حدّثنا محمد بن جعفر المدائني قال : حدّثنا ورقاء عن الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم ، فإنّ الرجل المسلم إذا مرَّ بالقوم فسلّم عليهم فردّوا عليه كان له عليهم فضل درجة بذكره إيّاهم بالسلام ، فإن لم يردّوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم وأطيب " .

وحدّثنا أبو القاسم قال : أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن العباس البغوي قال : حدّثنا أبو محمد عبد الملك بن محمد بن عبد الوهاب البغوي قال : حدّثنا يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ابن سمعان أن سعيد المقبري أخبره عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " إذا وقف أحدكم على المجلس فليسلّم ، فإن بدا له أن يقعد فليقعد ، وإذا قام فليسلّم ، فإنّ الأُولى ليست بأحقّ من الآخرة " .

وقال بعضهم : معناه : فإذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلّموا على أهلكم وعيالكم ، وهو قول جابر بن عبد الله طاووس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار ، ورواية عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قال : فإن لم يكن في البيت أحد فليقل : السلام علينا من ربّنا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله .

حدّثنا ابن حبيب لفظاً قال : حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن كعب العدل إملاءً قال : حدّثنا أبو نصر اليسع بن زيد بن سهل الرسّي بمكة سنة اثنتين وثمانين ومائتين قال : حدّثنا سفيان بن عيينة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : " خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قال لي لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا قال لي لشيء كسرته : لِمَ كسرته ؟ وكنت واقفاً على رأسه أصبّ على يديه الماء فرفع رأسه فقال " ألا أُعلّمك ثلاث خصال تنتفع بها ؟ قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله بلى ، قال : من لقيت من أُمّتي فسلّم عليه يَطُلْ عمرك ، وإذا دخلت فسلّم عليهم يكثر خير بيتك ، وصلّ صلاة الضُحى فإنّها صلاة الأَبرار " " .

وقال بعضهم : يعني فإذا دخلتم المساجد فسلّموا على مَن فيها .

أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن مهل الصنعاني قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } الآية .

قال : إذا دخلت المسجد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .

{ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ } نصب على المصدر أي تحيّون أنفسكم بها تحيّةً ، وقيل : على الحال بمعنى تفعلونه تحيّة من عند الله { مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }