ثم قال : } ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج{[49218]} }[ 59 ] ، الآية .
هذه الآية نزلت{[49219]} ترخيصا للمسلمين أن يأكلوا مع العميان والعرج / والمرضى{[49220]} ، وأن يأكلوا في بيوت غيرهم ، وعلى بمعنى " في " وذلك أنهم تحرجوا{[49221]} من ذلك لما نزلت { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ، قاله ابن عباس{[49222]} .
وقال{[49223]} الضحاك : كان أهل المدينة قبل النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ، ولا أعرج ، ولا مريض على طريق{[49224]} التقزز .
وقيل{[49225]} : على طريق التحرج . لأن المريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح ، والأعرج المحتبس لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والأعمى لا يبصر طيب{[49226]} الطعام ، فأنزل الله تعالى{[49227]} إباحة ذلك في هذه الآية .
وقيل{[49228]} : نزلت{[49229]} ترخيصا لأهل الزمانة في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية . لأن قوما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم{[49230]} كانوا إذا لم يكن عندهم في بيوتهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمى الله ، وكان أهل الزمانة يتحرجون{[49231]} أن يطعموا ذلك الطعام ، قال ذلك مجاهد . وقيل{[49232]} : نزلت{[49233]} ترخيصا لأهل الزمانة أن يأكلوا من بيوت من خلفهم في{[49234]} بيوته من الغزاة . وكان الغزاة يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم{[49235]} ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا فكانوا يتحرجون من ذلك . قاله الزهري{[49236]} .
وقيل{[49237]} : بل عني بذلك الجهاد ، أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد . ثم ابتدأ كلاما آخر فقال : { ولا على أنفسكم }[ 59 ] ، قاله ابن زيد .
وقيل{[49238]} : إنها منسوخة بقوله{[49239]} تعالى{[49240]} : { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستانسوا }[ 27 ] ، فإذا فرض عليهم لا يدخلوا حتى يستأذنوا ، فالدخول{[49241]} والأكل آكد ألا يفعل إلا بعد إذن ، ولا يأكل حتى يدخل ، وقد فرض{[49242]} عليه ألا يدخل إذا لم يجد فيها أحدا ، فالأكل ممتنع لامتناع الدخول فهو ناسخ له .
قال ابن{[49243]} زيد في قوله تعالى : { ولا{[49244]} على أنفسكم أن تأكلوا }[ 59 ] ، الآية . هذا شيء قد انقطع ونسخ ؛ إنما كان هذا{[49245]} في أول الإسلام ، ولم تكن لهم أبواب ، وكانت الستور مرخاة{[49246]} ، فربما دخل الرجل البيت ولا أحد فيه ، وهو جائع{[49247]} فيجد طعاما فسوغه الله أن يأكله ، وقد ذهب ذلك ، اليوم البيوت فيها أهلها وإذا خرجوا أغلقوها ولا يحل لأحد أن يفتح باب أحد ، فليأكل متاعه بإجماع . وأكثر أهل النظر على أن الآية منسوخة{[49248]} بقوله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم{[49249]} بالباطل }{[49250]} ، وبقوله{[49251]} : { لا تدخلوا بيوت النبيء إلا أن يوذن لكم }{[49252]} .
وبقول{[49253]} النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه " {[49254]} .
وقيل{[49255]} : نزلت{[49256]} ترخيصا لمن كان{[49257]} يتقي مؤاكلة الزمنى .
فالآية على قول ابن زيد : منسوخة ، وهي ناسخة لتحرجهم عن الأكل مع الزمنى{[49258]} على قول{[49259]} ابن عباس المتقدم{[49260]} ، وهو قول جماعة من أهل العلم .
وقوله{[49261]} { أو ما ملكتم مفاتحه }[ 59 ] ، يعني وكيل الرجل وقيِّمه في ضيعته أنه لا بأس أن يأكل من الثمر ونحوه . قاله ابن عباس{[49262]} .
قال أبو عبيد{[49263]} : هذا كله إنما هو بعد الإذن لأن الناس توقفوا أن يأكلوا{[49264]} لأحد شيئا بإذن أو بغير إذن لما نزلت : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }{[49265]} .
وقيل{[49266]} : عني به منزل الرجل نفسه . أنه لا بأس عليه أن يأكل منه{[49267]} .
وقال{[49268]} مجاهد : يعني خزائن الرجل ومتاعه .
وقرأ{[49269]} قتادة : { مفاتحه }{[49270]} وهي{[49271]} لغة ، ومفتح أكثر من مفتاح والمفتح{[49272]} : الخزانة .
و{[49273]} قرأ ابن جبير : { أو ما ملكتم مفاتحه }[ 59 ] ، على من{[49274]} لم يسم فاعله ، ومعنى{[49275]} { ولا على أنفسكم }[ 59 ] ، ولا عليكم أيها الناس . ولما اجتمع مخاطب وغير مخاطب غلب المخاطب . فقوله{[49276]} { تاكلوا من بيوتكم }[ 59 ] ، وما بعده من المخاطبة ، يراد به جميع من{[49277]} ذكر من الأعمى ، والأعرج ، والمريض ، وأصحاب البيوت .
وقوله : { أو صديقكم }[ 59 ] ، قال{[49278]} قتادة : فلو أكلت من بيت صديقك من غير أمره لم يكن بذلك بأس .
وقوله : { أو بيوت آبائكم }[ 59 ] ، وما بعده ، ولم يذكر بيوت الأبناء يدل على أن بيت الابن داخل في بيت{[49279]} الرجل ، فهو داخل في قوله : { أن تاكلوا من بيوتكم }[ 59 ] ، فبيت ابن الرجل مثل بيته ، فدل{[49280]} ذلك على صحة قول النبي صلى الله عليه وسلم : أنت ومالك لأبيك{[49281]} .
فمال ابن الرجل كمال الرجل ، إلا ما{[49282]} أحكمته السنة في غير المأكول في بيت الابن ، وهذه الآية تدل على أن / للرجل أن يأكل من بيت ابنه بغير إذنه ، كما يأكل من بيت نفسه{[49283]} ، لأن{[49284]} له أن يأخذ ماله ويستحل كسبه ، وهو غني{[49285]} عن ذلك ، فإن كان الأب فقيرا ، فليس له{[49286]} على الابن إلا ما أحكمته السنة من النفقة بالمعروف .
ثم قال : { ليس عليكم جناح }[ 59 ] ، أي إثم وحرج أن تأكلوا جميعا أي مع الفقراء والزمنى { أو أشتاتا } أي متفرقين ، وأشتاتا{[49287]} نصب{[49288]} على الحال ، وكذلك جميعا .
قال{[49289]} ابن عباس : كان الرجل الغني يدخل على الفقير ، من ذوي قرابته وصداقته{[49290]} فيدعوه إلى الطعام ، فيتحرج أن يأكل معه ، لأنه فقير ، فأمروا أن يأكلوا جميعا أو أشتاتا .
وقيل{[49291]} : عني بذلك حي من العرب ، كان{[49292]} لا يأكل أحدهم شيئا وحده ، ولا يأكل إلا مع غيره ، فأذن الله أن يأكل من شاء منهم وحده{[49293]} ، و{[49294]} من شاء مع غيره .
وعن{[49295]} ابن عباس أيضا قال{[49296]} : كانوا يأنفون{[49297]} أن يأكل الرجل وحده حتى يكون معه غيره ، فرخص الله لهم في ذلك .
وقال{[49298]} ابن جريج : كانت بنو{[49299]} كنانة يستحي الرجل منهم أن يأكل وحده ، حتى نزلت{[49300]} الآية .
وقال{[49301]} الضحاك : كانوا لا يأكلون متفرقين دينا لهم فأنزل الله إباحة ذلك .
وقيل{[49302]} : عني به قوم من الأنصار . كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم فرخص الله لهم{[49303]} أن يأكلوا كيف شاءوا . روي في ذلك عن أبي صالح وعكرمة .
وروى مطرف عن مالك عن ابن شهاب{[49304]} ، عن ابن المسيب : أنه كان يقول في هذه الآية : إنها نزلت{[49305]} في ناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيه وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى ، والأعرج ، والمريض ، وعند أقاربهم ، وكانوا{[49306]} يأمرونهم{[49307]} أن يأكلوا مما في بيوتهم ، إذا احتاجوا إلى ذلك ، فكانوا يتقون{[49308]} أن يأكلوا منها ، ويقولون : نخشى ألا تكون أنفسهم{[49309]} طيبة بذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية أباح لهم الأكل منها .
وقوله : { من بيوتكم أو بيوت آبائكم }[ 59 ] ، ولم يذكر الأبناء{[49310]} ، يدل{[49311]} على أن بيت الابن بيت الأب مع قول النبي صلى الله عليه وسلم{[49312]} " أنت ومالك لأبيك " ، ولما كانت بيوت{[49313]} الأب لا يملكها الابن قال : { أو بيوت آبائكم }[ 59 ] ، لو كان يملكها لكانت{[49314]} كبيته وبيت أبيه{[49315]} .
وقوله عن أم{[49316]} مريم : { إني نذرت لك ما في بطني محررا }{[49317]} يدل على أن الرجل يملك أمر ابنه وماله{[49318]} حتى يبلغ ، إذ لم تنذر أم مريم إلا فيما{[49319]} تملك ، فإذا بلغ الولد فعل بنفسه{[49320]} ما شاء بالإجماع على ذلك .
ثم قال تعالى : { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم }[ 59 ] ، أي يسلم بعضكم على بعض ، أي سلموا على أهليكم وعيالكم .
قال{[49321]} عمرو{[49322]} بن دينار : فإن لم يكن في البيت أحد فقل{[49323]} السلام على النبي ورحمة الله وبركاتهن السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله .
وقال{[49324]} ابن عباس : يقول إذا لم يكن في البيت أحد : السلام علينا من ربنا .
وعن{[49325]} ابن عباس أنه{[49326]} : عني به المساجد تسلم{[49327]} إذا دخلت فإن لم يكن فيها أحد قلت : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وقال{[49328]} النخعي : إذا لم يكن في المسجد أحد فقل : السلام على رسول الله ، وإذا لم يكن في البيت أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وقال{[49329]} الحسن معناه : إذا دخلتم بيوتا من{[49330]} بيوت المسلمين فليسلم بعضكم على بعض .
وقيل معناه : إذا دخلتم بيوتا لا أحد فيها ، فسلموا على أنفسكم .
وقوله : { تحية من عند الله }[ 59 ] ، أي ليحيي بعضكم بعضا ، والتحية البركة ويكون{[49331]} في غير هذا الملك نعتت{[49332]} بطيبة لأن سامعها يستطيب سماعها{[49333]} .
ثم قال تعالى : {[49334]} { كذلك يبين الله لكم الآيات }[ 59 ] ، أي هكذا يفصل لكم معالم دينكم ، لعلكم تعقلون عنه{[49335]} أمره ، ونهيه ، وأدبه .