تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ إِخۡوَٰنِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَعۡمَٰمِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ عَمَّـٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخۡوَٰلِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (61)

الآية 61 : وقوله تعالى : ]ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج[ الآية ، اختلف في تأويله . قال بعضهم : إن الرجل الصحيح كان يتحرج مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض إشفاقا عليهم ورحمة ، ويقول : إنه لا يبصير طيب الطعام ، ولعله يأكل الخبيث ، وأنا آكل الطيب ، ويقول : إن الأعرج ، لا يستوي جالسا إذا قعد ، فلا يقدر أن يتناول ( كما أتناول ){[14236]} أنا ، وإن المريض لا يأكل الصحيح . وكان الرجل ، لا يأكل من بيت أبيه ولا من بيت أمه إذا لم يكونا فيه . وكذلك الصديق وهؤلاء . فأنزل الله هذه الآية رخصة لذلك كله .

وقال بعضهم : إن هؤلاء المرضى : العميان والعرج والمرضى وأولي الحاجة منهم ، يستتبعهم رجال إلى بيوتهم ، ويستضيفونهم ، فإن لم يجدوا لهم طعاما أو شيئا يأكلونه ذهبوا بهم على بيوت آبائهم ومن عدد معهم ، فكره ذلك المستتبعون التناول في غير بيوت أولئك بلا دعوة ولا إذن ، فأنزل الله في ذلك إباحة لهم ورخصة ، وأجل لهم الطعام حيث وجدوه .

وقال ( بعضهم ){[14237]} : إن الأعمى والأعرج والمريض وهؤلاء الذين كانت بهم زمانة ، كانوا يتحرجون مؤاكلة الأصحاء مخافة أن يتقززوا منهم ، ويستقذروا .

يقول الأعرج : لا أآكل الناس لأني أخذ من المجلس مكان رجلين ، وأضيق عليهم .

ويقول{[14238]} الأعمى : إني أفسد عليهم طعامهم ، وكذلك المريض منهم ، يقول مثل ذلك .

فأنزل الله الرخصة في ذلك ، ورفع عنهم الجناح في مؤاكلتهم ؛ يقول : إن الحق عليهم أن يرحموكم لما بكم من الزمانة وأن يدعوا لكم بالرفع عنكم لا التقزز والاستقذار منكم .

وقال بعضهم : إن الرجل الغني كان يدخل على الرجل الفقير والزمن ، فيدعوه{[14239]} إلى طعامه ، فيقول :

والله إني لا أجنح ، ولا أحرج أن آكل من طعامك ، وأنا غني ، وأنت فقير ، فأنزل الله في ذلك : ]ولا على أنفسكم[ إلى آخر الآية .

وقال بعضهم : كان هذا في أهل الجهاد ، وإن الرجل كان يخرج إلى الجهاد ، فيخلف آخر في منزله في حفظ ماله وأهله والقيام بكفايتهم ، فكان يحرج ، ولا يأكل من ماله شيئا لا من طعامه لما لم يسبق منه الإذن في ذلك . ( فأنزل الله ){[14240]} في ذلك رخصة وإباحة التناول من ذلك .

إلى هذا انتهت أقاويل أهل التأويل وتآويلهم .

والأشبه عندنا أن يكون تأويل الآية في غير ما ذهبوا هم إليه ، وهو أن يكون قوله : ]ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج[ أي ليس على هؤلاء حرج أن يأكلوا من بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بيوت إخوانهم أو بيوت أخواتهم أو بيوت أعمامهم إلى قوله : ]أو بيوت خلاتكم[ لأنهم إنما يأكلون بالحق لأن من كان به زمانه كان له التناول من أموال ما ذكر من الآباء والأمهات والقرابات ؛ إذ تفرض لهم النفقة في أموالهم فيكون في ذلك دلالة وجوب النفقة لهم في أموالهم ، ويكون ]ولا على أنفسكم[ جناح ]أن تأكلوا من بيوتكم( . . . . ]أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم[ أي بأس أن تأكلوا من بيوتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ؛ إذ ليس يباح للرجل التناول من مال نفسه ومن مال صديقه في حال عذر ، ولا يباح في حال الصحة والسلامة ، بل يباح في الأحوال كلها .

دل أن التأويل الذي ذكرنا أشبه ، فيصرف تناول الزمنى من أموال القرابات بحق النفقة ، والحق لمن{[14241]} ليس به زمانة في ماله و مال صديقه بحق الملك و الصداقة ، لأن الزمانة ترفع الصداقة من بينهم ، وكذلك وجوب النفقة في مال الصديق ترفع الصداقة/373- ب/ ولا ترفع القرابة ، ولا تزول صلتها .

ثم اختلف في قوله : ]ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم[ قال بعضهم : من بيوت أولادكم . وقال بعضهم : من بيوت ( أزواجكم ونسائكم ){[14242]} . وقال بعضهم : من بيوت أنفسكم{[14243]} ، وهو ما لا يجد الرجل في بيته من طعام ، فإنه لا بأس أن يأكله ، ولذلك لا بأس للرجل أن يتناول من بيت زوجته لأنه لم يذكر في الآية بيت الولد ، وبيت الزوجة على الإشارة والتفسير ، فيصرفون تأويل قوله : ]أن تأكلوا من بيوتكم[ إلى هؤلاء .

وقوله تعالى : ]أو ما ملكتم مفاتحه[ أي خزائنه ؛ يحتمل العبيد لأن السيد يملك مال عبده ، ويحتمل الوكيل والخازن . أن يأكل من طعامه وأدمه بغير إذن السيد ، ويحتمل قوله : ]أو ما ملكتم مفاتحه[ السيد نفسه صاحب الخزانة ومالكها .

ثم ذكر الأكل من بيوت من ذكر على التاويل الذي ذكرنا ، واستذللنا على إيجاب النفقة لهؤلاء الزمنى في أموال من ذكرنا من القرابات يخرج على وجهين : أحدهما : ذكر البيوت لأنهم إذا كانوا زمنى يستوجبون السكنى أيضا مع النفقة ، فذكر البيوت لكونهم فيها وسكناهم معهم .

والثاني : ذكر الأكل من بيوتهم لئلا يفهم من الأكل الأخذ منها لأنه ذكره من آيات الأكل ، والمراد المفهوم منه الأخذ كقوله : ]يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل[ ( النساء : 29 ) وقوله : ]إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما[ ( النساء : 10 ) وقوله : ]لا تأكلوا الربا[ ( آل عمران : 130 ) مفهوم المراد من الأكل في هذه الآيات الأخذ لا الأكل نفسه .

فذكر ههنا الأكل من بيوتهم لئلا يفهم منه الأخذ كما فهم من تلك .

وعلى تأويل أهل التأويل مستقيم ظاهر ذكر البيوت إذ لا يجعلون ذلك الأكل والتناول منه أكلا وتناولا بحق .

وقوله تعالى : ]ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا[ قال بعضهم : ذكر هذا لأن قوما كانوا لا يأكلون وحدهم{[14244]} ، ولا يرون ذلك حسنا في الخلق ، ويتحرجون عن{[14245]} ذلك حتى يكون معهم غير ( واحد ){[14246]} فرخص الله تعالى لهم ذلك ، ورفع عنهم الحرج ، فقال : ]ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا( .

وعلى تأويل من يقول : إنهم استضافوا قوما ، فلم يجدوا في بيتهم شيئا يأكلون ، فذهبوا بهم إلى بيوت هؤلاء ، فيتخرج أولئك أضياف الأكل من بيوت من ذكر ، وأرباب البيوت ليسوا فيها ، فرخص لهم في ذلك .

وعلى تأويل من يقول : إنهم كانوا يتحرجون الأكل مع العميان{[14247]} إشفاقا عليهم وترحما لما لا يبصرون طيب الطعام ، ولا يأكلون ما يأكل الصحيح ، فرفع عنهم ذلك الحرج ، ورخص لهم في ذلك .

وعلى تأويل من يقول إنهم كانوا يتحرجون الأكل مع هؤلاء تقززا واستقذارا ، فرغبهم في الأكل مع أولئك وترك التقزز من ذلك .

ويدل التأويل الأول على{[14248]} ما روي عن أصحاب رسول الله ؛ روي عن محمد بن علي ( أنه ){[14249]} قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى أحدهم أنه أحق بالدنانير والدراهم من أخيه المسلم . قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليأتين على الناس زمان يكون الدينار والدراهم أحب إلى الرجل من أخيه المسلم " ( بنحوه أحمد : 2/42 ) .

وعن ابن عمر ( أنه{[14250]} ) قال : " لقد رأيتني ومال الرجل المسلم أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم " ( بنحوه أحمد 2/84 ) .

وقوله تعالى : ]فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم[ يحتمل قوله : ]فسلموا على أنفسكم[ أي يسلم بعضكم على بعض . فصير المسلمين أجمعين{[14251]} بعضهم لبعض كأنفسهم كقوله : ]ولا تقتلوا أنفسكم[ ( النساء : 29 ) أي لا يقتل بعضكم بعضا ، وقوله : ]لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل[ ( النساء : 29 ) ونحو ذلك من الآيات .

فصير بعضهم لبعض كأنفسهم لأنهم كشيء واحد ؛ يتألم بعضهم بألم بعض ، ويحزن بعضهم بحزن بعض ، ويسر بعضهم بسرور بعض ونحوه . فهم جميعا كشيء واحد ، وأنفسهم جميعا كنفس واحدة . لذلك جعل سلام بعضهم على بعض في حق السلامة{[14252]} واحدا .

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن بعضهم إذا سلم على بعض ، رد عليه مثله ، فيصير كأنه هو يسلم على نفسه . وكذلك قوله : ]ولا تقتلوا أولادكم [ أي لا يقتل أحد آخر ، فيقتل به ، فيكون قاتل نفسه ، إذ لولا قتله إياه ، لم يقتل به . وكذلك قوله : ]لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل[ إنه إذا أكل مال غيره بغير رضاه ضمنه ، فإذا ضمنه فكأنه أكل مال نفسه بالباطل .

ويحتمل أنه أراد به السلام على أنفسهم ، أي أنه يسلم على نفسه ، وإن لم يكن فيه أحد .

وكذلك روي عن ابن عباس ( أنه ){[14253]} قال : أراد المساجد ؛ إذا دخلتها فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ( وعلى ذلك روي في الخبر : " من دخل بيتا أو مسجدا ليس فيه أحد فليقل : السلام علينا من ربنا ، والسلام على عباد الله الصالحين " {[14254]} ( ابن جرير الطبري في تفسيره : 8/174 ) .

وعلى ذلك جائز أن يكون قوله : ]ولا تقتلوا أنفسكم[ بترك الإنفاق عليها وغيره .

وكذلك قوله : ]لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل( .

وجائز أن يراد بالأنفس أهلهم ، أي سلموا على أهلكم ، وهو الأولى .

ثم اختلف في السلام : قال بعضهم : السلام من السلامة من جميع الآفات والنكبات . وقال بعضهم : السلام هم اسم من أسماء الله تعالى الحسنى ؛ فتأويله : عليك اسم الله الذي لا ( يضرك معه ){[14255]} شيء ، ولا يلحقك به أذى كقوله " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء " ( أحمد : 1/63و62 ) .

وقوله تعالى ]تحية من عند الله[ التحية كأنها الكرامة ، كأنه قال : كرامة من عند الله لكم .

وقوله تعالى : ]مباركة[ المبارك هو الذي ينال به كل خير وبر ، أو( سمي مباركا ){[14256]} لما فيه ينمو الشيء ، ويزكو .

وقوله تعالى : [ طيبة ] أي ما يستطيبه{[14257]} كل واحد . وقال بعضهم : ]طيبة[ أي حسنة ؛ فتأويله : ما يستحسنه{[14258]} كل أحد . وقال بعضهم : قوله : ]تحية من عند الله[ يقول : سلام من أمر الله لكم ]مباركة[ بالأجر ]طيبة[ بالمغفرة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ]كذلك يبين[ أي مثل الذي ]يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون[ أي كي تعقلوا ما لكم وما عليكم وما لله عليكم وما لبعضكم على بعض .

وقوله تعالى : [ بيوتكم[ ما ذكرنا : قال بعضهم : المساجد ، وقال بعضهم : البيوت المسكونة كقوله : ]لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم[ ( النور : 27 ) .


[14236]:في م: فيما أتناول، ساقطة من الأصل.
[14237]:ساقطة من الأصل وم.
[14238]:في الأصل وم: وقال.
[14239]:من م، في الأصل: فيدخل.
[14240]:من م، ساقطة من الأصل.
[14241]:في الأصل وم: ومن.
[14242]:في الأصل وم: أزواجهم ونسائهم.
[14243]:في الأصل وم: أنفسهم.
[14244]:في الأصل وم: وحده.
[14245]:ساقطة من الأصل وم.
[14246]:ساقطة من الأصل وم.
[14247]:في الأصل وم: الأعمى ومن ذلك.
[14248]:ساقطة من الأصل وم.
[14249]:ساقطة من الأصل وم.
[14250]:ساقطة من الأصل وم.
[14251]:في الأصل وم: أجمع.
[14252]:في الأصل وم: السلام.
[14253]:ساقطة من الأصل وم.
[14254]:من م، ساقطة من الأصل.
[14255]:في الأصل وم: يضر معك.
[14256]:في الأصل وم: يسمى مباركة.
[14257]:في الأصل وم: يستطيب به.
[14258]:في الأصل وم: يستحسن به.