الآية 61 : وقوله تعالى : ]ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج[ الآية ، اختلف في تأويله . قال بعضهم : إن الرجل الصحيح كان يتحرج مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض إشفاقا عليهم ورحمة ، ويقول : إنه لا يبصير طيب الطعام ، ولعله يأكل الخبيث ، وأنا آكل الطيب ، ويقول : إن الأعرج ، لا يستوي جالسا إذا قعد ، فلا يقدر أن يتناول ( كما أتناول ){[14236]} أنا ، وإن المريض لا يأكل الصحيح . وكان الرجل ، لا يأكل من بيت أبيه ولا من بيت أمه إذا لم يكونا فيه . وكذلك الصديق وهؤلاء . فأنزل الله هذه الآية رخصة لذلك كله .
وقال بعضهم : إن هؤلاء المرضى : العميان والعرج والمرضى وأولي الحاجة منهم ، يستتبعهم رجال إلى بيوتهم ، ويستضيفونهم ، فإن لم يجدوا لهم طعاما أو شيئا يأكلونه ذهبوا بهم على بيوت آبائهم ومن عدد معهم ، فكره ذلك المستتبعون التناول في غير بيوت أولئك بلا دعوة ولا إذن ، فأنزل الله في ذلك إباحة لهم ورخصة ، وأجل لهم الطعام حيث وجدوه .
وقال ( بعضهم ){[14237]} : إن الأعمى والأعرج والمريض وهؤلاء الذين كانت بهم زمانة ، كانوا يتحرجون مؤاكلة الأصحاء مخافة أن يتقززوا منهم ، ويستقذروا .
يقول الأعرج : لا أآكل الناس لأني أخذ من المجلس مكان رجلين ، وأضيق عليهم .
ويقول{[14238]} الأعمى : إني أفسد عليهم طعامهم ، وكذلك المريض منهم ، يقول مثل ذلك .
فأنزل الله الرخصة في ذلك ، ورفع عنهم الجناح في مؤاكلتهم ؛ يقول : إن الحق عليهم أن يرحموكم لما بكم من الزمانة وأن يدعوا لكم بالرفع عنكم لا التقزز والاستقذار منكم .
وقال بعضهم : إن الرجل الغني كان يدخل على الرجل الفقير والزمن ، فيدعوه{[14239]} إلى طعامه ، فيقول :
والله إني لا أجنح ، ولا أحرج أن آكل من طعامك ، وأنا غني ، وأنت فقير ، فأنزل الله في ذلك : ]ولا على أنفسكم[ إلى آخر الآية .
وقال بعضهم : كان هذا في أهل الجهاد ، وإن الرجل كان يخرج إلى الجهاد ، فيخلف آخر في منزله في حفظ ماله وأهله والقيام بكفايتهم ، فكان يحرج ، ولا يأكل من ماله شيئا لا من طعامه لما لم يسبق منه الإذن في ذلك . ( فأنزل الله ){[14240]} في ذلك رخصة وإباحة التناول من ذلك .
إلى هذا انتهت أقاويل أهل التأويل وتآويلهم .
والأشبه عندنا أن يكون تأويل الآية في غير ما ذهبوا هم إليه ، وهو أن يكون قوله : ]ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج[ أي ليس على هؤلاء حرج أن يأكلوا من بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بيوت إخوانهم أو بيوت أخواتهم أو بيوت أعمامهم إلى قوله : ]أو بيوت خلاتكم[ لأنهم إنما يأكلون بالحق لأن من كان به زمانه كان له التناول من أموال ما ذكر من الآباء والأمهات والقرابات ؛ إذ تفرض لهم النفقة في أموالهم فيكون في ذلك دلالة وجوب النفقة لهم في أموالهم ، ويكون ]ولا على أنفسكم[ جناح ]أن تأكلوا من بيوتكم( . . . . ]أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم[ أي بأس أن تأكلوا من بيوتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ؛ إذ ليس يباح للرجل التناول من مال نفسه ومن مال صديقه في حال عذر ، ولا يباح في حال الصحة والسلامة ، بل يباح في الأحوال كلها .
دل أن التأويل الذي ذكرنا أشبه ، فيصرف تناول الزمنى من أموال القرابات بحق النفقة ، والحق لمن{[14241]} ليس به زمانة في ماله و مال صديقه بحق الملك و الصداقة ، لأن الزمانة ترفع الصداقة من بينهم ، وكذلك وجوب النفقة في مال الصديق ترفع الصداقة/373- ب/ ولا ترفع القرابة ، ولا تزول صلتها .
ثم اختلف في قوله : ]ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم[ قال بعضهم : من بيوت أولادكم . وقال بعضهم : من بيوت ( أزواجكم ونسائكم ){[14242]} . وقال بعضهم : من بيوت أنفسكم{[14243]} ، وهو ما لا يجد الرجل في بيته من طعام ، فإنه لا بأس أن يأكله ، ولذلك لا بأس للرجل أن يتناول من بيت زوجته لأنه لم يذكر في الآية بيت الولد ، وبيت الزوجة على الإشارة والتفسير ، فيصرفون تأويل قوله : ]أن تأكلوا من بيوتكم[ إلى هؤلاء .
وقوله تعالى : ]أو ما ملكتم مفاتحه[ أي خزائنه ؛ يحتمل العبيد لأن السيد يملك مال عبده ، ويحتمل الوكيل والخازن . أن يأكل من طعامه وأدمه بغير إذن السيد ، ويحتمل قوله : ]أو ما ملكتم مفاتحه[ السيد نفسه صاحب الخزانة ومالكها .
ثم ذكر الأكل من بيوت من ذكر على التاويل الذي ذكرنا ، واستذللنا على إيجاب النفقة لهؤلاء الزمنى في أموال من ذكرنا من القرابات يخرج على وجهين : أحدهما : ذكر البيوت لأنهم إذا كانوا زمنى يستوجبون السكنى أيضا مع النفقة ، فذكر البيوت لكونهم فيها وسكناهم معهم .
والثاني : ذكر الأكل من بيوتهم لئلا يفهم من الأكل الأخذ منها لأنه ذكره من آيات الأكل ، والمراد المفهوم منه الأخذ كقوله : ]يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل[ ( النساء : 29 ) وقوله : ]إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما[ ( النساء : 10 ) وقوله : ]لا تأكلوا الربا[ ( آل عمران : 130 ) مفهوم المراد من الأكل في هذه الآيات الأخذ لا الأكل نفسه .
فذكر ههنا الأكل من بيوتهم لئلا يفهم منه الأخذ كما فهم من تلك .
وعلى تأويل أهل التأويل مستقيم ظاهر ذكر البيوت إذ لا يجعلون ذلك الأكل والتناول منه أكلا وتناولا بحق .
وقوله تعالى : ]ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا[ قال بعضهم : ذكر هذا لأن قوما كانوا لا يأكلون وحدهم{[14244]} ، ولا يرون ذلك حسنا في الخلق ، ويتحرجون عن{[14245]} ذلك حتى يكون معهم غير ( واحد ){[14246]} فرخص الله تعالى لهم ذلك ، ورفع عنهم الحرج ، فقال : ]ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا( .
وعلى تأويل من يقول : إنهم استضافوا قوما ، فلم يجدوا في بيتهم شيئا يأكلون ، فذهبوا بهم إلى بيوت هؤلاء ، فيتخرج أولئك أضياف الأكل من بيوت من ذكر ، وأرباب البيوت ليسوا فيها ، فرخص لهم في ذلك .
وعلى تأويل من يقول : إنهم كانوا يتحرجون الأكل مع العميان{[14247]} إشفاقا عليهم وترحما لما لا يبصرون طيب الطعام ، ولا يأكلون ما يأكل الصحيح ، فرفع عنهم ذلك الحرج ، ورخص لهم في ذلك .
وعلى تأويل من يقول إنهم كانوا يتحرجون الأكل مع هؤلاء تقززا واستقذارا ، فرغبهم في الأكل مع أولئك وترك التقزز من ذلك .
ويدل التأويل الأول على{[14248]} ما روي عن أصحاب رسول الله ؛ روي عن محمد بن علي ( أنه ){[14249]} قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى أحدهم أنه أحق بالدنانير والدراهم من أخيه المسلم . قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليأتين على الناس زمان يكون الدينار والدراهم أحب إلى الرجل من أخيه المسلم " ( بنحوه أحمد : 2/42 ) .
وعن ابن عمر ( أنه{[14250]} ) قال : " لقد رأيتني ومال الرجل المسلم أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم " ( بنحوه أحمد 2/84 ) .
وقوله تعالى : ]فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم[ يحتمل قوله : ]فسلموا على أنفسكم[ أي يسلم بعضكم على بعض . فصير المسلمين أجمعين{[14251]} بعضهم لبعض كأنفسهم كقوله : ]ولا تقتلوا أنفسكم[ ( النساء : 29 ) أي لا يقتل بعضكم بعضا ، وقوله : ]لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل[ ( النساء : 29 ) ونحو ذلك من الآيات .
فصير بعضهم لبعض كأنفسهم لأنهم كشيء واحد ؛ يتألم بعضهم بألم بعض ، ويحزن بعضهم بحزن بعض ، ويسر بعضهم بسرور بعض ونحوه . فهم جميعا كشيء واحد ، وأنفسهم جميعا كنفس واحدة . لذلك جعل سلام بعضهم على بعض في حق السلامة{[14252]} واحدا .
ويحتمل وجها آخر ، وهو أن بعضهم إذا سلم على بعض ، رد عليه مثله ، فيصير كأنه هو يسلم على نفسه . وكذلك قوله : ]ولا تقتلوا أولادكم [ أي لا يقتل أحد آخر ، فيقتل به ، فيكون قاتل نفسه ، إذ لولا قتله إياه ، لم يقتل به . وكذلك قوله : ]لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل[ إنه إذا أكل مال غيره بغير رضاه ضمنه ، فإذا ضمنه فكأنه أكل مال نفسه بالباطل .
ويحتمل أنه أراد به السلام على أنفسهم ، أي أنه يسلم على نفسه ، وإن لم يكن فيه أحد .
وكذلك روي عن ابن عباس ( أنه ){[14253]} قال : أراد المساجد ؛ إذا دخلتها فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ( وعلى ذلك روي في الخبر : " من دخل بيتا أو مسجدا ليس فيه أحد فليقل : السلام علينا من ربنا ، والسلام على عباد الله الصالحين " {[14254]} ( ابن جرير الطبري في تفسيره : 8/174 ) .
وعلى ذلك جائز أن يكون قوله : ]ولا تقتلوا أنفسكم[ بترك الإنفاق عليها وغيره .
وكذلك قوله : ]لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل( .
وجائز أن يراد بالأنفس أهلهم ، أي سلموا على أهلكم ، وهو الأولى .
ثم اختلف في السلام : قال بعضهم : السلام من السلامة من جميع الآفات والنكبات . وقال بعضهم : السلام هم اسم من أسماء الله تعالى الحسنى ؛ فتأويله : عليك اسم الله الذي لا ( يضرك معه ){[14255]} شيء ، ولا يلحقك به أذى كقوله " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء " ( أحمد : 1/63و62 ) .
وقوله تعالى ]تحية من عند الله[ التحية كأنها الكرامة ، كأنه قال : كرامة من عند الله لكم .
وقوله تعالى : ]مباركة[ المبارك هو الذي ينال به كل خير وبر ، أو( سمي مباركا ){[14256]} لما فيه ينمو الشيء ، ويزكو .
وقوله تعالى : [ طيبة ] أي ما يستطيبه{[14257]} كل واحد . وقال بعضهم : ]طيبة[ أي حسنة ؛ فتأويله : ما يستحسنه{[14258]} كل أحد . وقال بعضهم : قوله : ]تحية من عند الله[ يقول : سلام من أمر الله لكم ]مباركة[ بالأجر ]طيبة[ بالمغفرة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ]كذلك يبين[ أي مثل الذي ]يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون[ أي كي تعقلوا ما لكم وما عليكم وما لله عليكم وما لبعضكم على بعض .
وقوله تعالى : [ بيوتكم[ ما ذكرنا : قال بعضهم : المساجد ، وقال بعضهم : البيوت المسكونة كقوله : ]لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم[ ( النور : 27 ) .