البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ إِخۡوَٰنِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَعۡمَٰمِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ عَمَّـٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخۡوَٰلِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (61)

عن ابن عباس لما نزل { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } تحرج المسلمون عن مواكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله هذه الآية قيل : وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة أن تلك إنما هي في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن من مال من يكره أهله أو بصفقة فاسدة ونحوه .

وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وابن المسيب كانوا إذا نهضوا إلى الغزو وخلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم تحرجوا من أكل مال الغائب فنزلت مبيحة لهم ما تمس إليه حاجتهم من مال الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك .

وقال مجاهد : كان الرجل إذا ذهب بأهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب بهم إلى بيوت قراباته فتحرج أهل الأعذار من ذلك فنزلت .

وقيل : كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار فبعضهم تقذراً لمكان جولان يد الأعمى ، ولانبساط الجلسة مع الأعرج ، ولرائحة المريض وهي أخلاق جاهلية وكبر .

فنزلت واستبعد هذا لأنه لو كان هذا السبب لكان التركيب ليس عليكم حرج أن تأكلوا معهم ولم يكن { ليس على الأعمى حرج } وأجاب بعضهم : بأن { على } في معنى أي في مواكلة الأعمى وهذا بعيد جداً .

وفي كتاب الزهراوي عن ابن عباس أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم فنزلت .

وعلى هذه الأقوال كلها يكون نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في المطاعم .

وقال الحسن وعبد الرحمن بن زيد الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه ، والحرج المنفي عمن بعدهم في الأكل مما ذكر وهو مقطوع مما قبله إذ متعلق الحرجين مختلف .

وإن كان قد اجتمعا في انتفاء الحرج .

وهذا القول هو الظاهر .

ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاء بذكر بيوتكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ، وبيته بيته .

وفي الحديث « إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه » .

ومعنى { من بيوتكم } .

من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ، والولد أقرب من عدد من القرابات فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى .

وقرأ طلحة إمهاتكم بكسر الهمزة .

{ أو ما ملكتم مفاتحه } .

قال ابن عباس : هو وكيل الرجل أن يتناول من التمر ويشرب من اللبن .

وقال قتادة : العبد لأن ماله لك .

وقال مجاهد والضحاك : خزائن بيوتكم إذا ملكتم مفاتيحها .

وقال ابن جرير : الزمنى ملكوا التصرف في البيوت التي سلمت إليهم مفاتيحها .

وقيل : ولي اليتيم يتناول من ماله بقدر مّا قال تعالى { ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } ومفاتحه بيده .

وقرأ الجمهور { ملكتم } بفتح الميم واللام خفيفة .

وقرأ ابن جبير بضم الميم وكسر اللام مشددة ، والجمهور { مفاتحه } جمع مفتح وابن جبير مفاتيحه جمع مفتاح ، وقتادة وهارون عن أبي عمرو مفتاحه مفرداً .

{ أو صديقكم } قرىء بكسر الصاد إتباعاً لحركة الدال حكاه حميد الخزاز ، قرن الله الصديق بالقرابة المحضة .

قيل لبعضهم : من أحب إليك أخوك أم صديقك ؟ فقال : لا أحب أخي إلاّ إذا كان صديقي .

وقال معمر : قلت لقتادة ألا أشرب من هذا الحب ؟ قال : أنت لي صديق فما هذا الاستئذان .

وقال ابن عباس : الصديق أوكد من القرابة ألا ترى استغاثة الجهنميين { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات ومعنى { أو صديقكم } أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون للواحد والجمع كالخليط والقطين ، وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب فجاء فسر بذلك وقال : هكذا وجدناهم يعني كبراء الصحابة ، وكان الرجل يدخل بيت صديقه فيأخذ من كيسه فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك .

وعن جعفر الصادق : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وترك الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ .

وقال هشام بن عبد الملك : نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه .

وقال أهل العلم : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح .

وانتصب { جميعاً أو أشتاتاً } على الحال أي مجتمعين أو متفرقين .

قال الضحاك وقتادة : نزلت في حي من كنانة تحرجوا أن يأكل الرجل وحده فربما قعدوا لطعام بين يديه لا يجد من يؤاكله حتى يمسي فيضطر إلى الأكل وحده .

وقال بعض الشعراء :

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له *** أكيلاً فإني لست آكله وحدي

وقال عكرمة في قوم من الأنصار : إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلاّ معه .

وقيل في قوم : تحرجوا أن يأكلوا جميعاً مخافة أن يزيد أحدهم على الآخرة في الأكل .

وقيل { أو صديقكم } هو إذا دعاك إلى وليمة فحسب .

وقيل : هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام « ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام » وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر : « لا يحلبن أحد ماشية أحد إلاّ بإذنه » وبقوله تعالى { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا } الآية .

{ فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } .

قال ابن عباس والنخعي : المساجد فسلموا على من فيها فإن لم يكن فيها أحد قال السلام على رسول الله .

وقيل : يقول السلام عليكم يعني الملائكة ، ثم يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .

وقال جابر وابن عباس وعطاء : البيوت المسكونة وقالوا يدخل فيها غير المسكونة ، فيقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .

وقال ابن عمر : بيوتاً خالية .

وقال السدّي { على أنفسكم } على أهل دينكم .

وقال قتادة : على أهاليكم في بيوت أنفسكم .

وقيل : بيوت الكفار { فسلموا على أنفسكم } وقال الزمخشري { فإذا دخلتم بيوتاً } من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم فيها منكم ديناً وقرابة .

و { تحية من عند الله } أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، أو لأن التسليم والتحية طلب للسلامة وحياة للمسلم عليه ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة وطيب الرزق انتهى .

وقال مقاتل : مباركة بالأجر .

وقيل : بورك فيها بالثواب .

وقال الضحاك : في السلام عشر حسنات ، ومع الرحمة عشرون ، ومع البركات ثلاثون .

وانتصب { تحية } بقوله { فسلموا } لأن معناه فحيوا كقولك : قعدت جلوساً .