محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ إِخۡوَٰنِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَعۡمَٰمِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ عَمَّـٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخۡوَٰلِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (61)

وقوله تعالى :

{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ } أي في القعود عن الغزو ، لضعفهم وعجزهم . وهذه الآية كالتي في سورة الفتح وكآية براءة {[5863]} : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله } وهذا ما ذهب إليه عطاء وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وزعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده ، مردود بأن المراد أن كلا من الطائفتين منفي عنه الحرج . ومثال هذا – كما قال الزمخشري – أن يستفتيك مسافر في الإفطار عن رمضان . وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر . قلت له : ليس على المسافر حرج أن يفطر ، ولا عليك ، يا حاج أن تقدم الحلق عن النحر . يعني أنه إذا كان في العطف غرابة ، لبعد الجامع في بادئ النظر ، وكان الغرض بيان حكم حوادث تقاربت في الوقوع ، والسؤال عنها والاحتجاج إلى البيان لكونها في معرض الاستفتاء والإفتاء ، كان ذلك جامعا بينها ، محسنا للعطف ، وإن تباينت .

قال الشهاب : وبهذا يظهر الجواب عن زعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده قد عرف وجهها . وأما ملاءمته لما قبله فغير لازمة ، إذ لم يعطف عليه . انتهى .

وقيل : كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم ، وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم ، فيطعمونهم منها . فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك . وخافوا أن يلحقهم فيه حرج . وكرهوا أن يكون أكلا بغير حق ، لقوله تعالى {[5864]} : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } فقيل لهم : ليس على الضعفاء ، ولا على أنفسكم ، يعني عليكم ، وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين ، حرج في ذلك .

وقيل : كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم ، لما عسى يؤدي إلى الكراهة من قبلهم . ولأن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله إليه وهو يشعر . والأعرج يتفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه ، فيضيق على جليسه . والمريض لا يخلوا عن حالة تؤنف .

وقيل : كانوا يخرجون إلى الغزو ، ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ، ويدفعون إليهم المفاتيح ، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم . فكانوا يتحرجون . فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه ، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت .

هذا ما ذكروه . ولا يخفى صدق الآية على جميع ذلك ، ونفي الحرج عنه كله . ولا يستلزم نفي الحرج عن مؤاكلة المريض على هذه الأوجه الأخر ، أن يشرك أكيله الصحيح في غمس يده من إنائه مما حظر منه الطب ، وغدت الأنفس تعافه . بل يراد به حضوره مع الصحيح على مائدة ، واختصاصه بقصعة على حدة . وما أحسن عادة الانفراد بالقصاع ، مما تطيب معه نفس المرضى والأصحاء في الاجتماع . وقوله تعالى : { وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ } أي بيوت أزواجكم وعيالكم . أضافه إليهم ، لأن بيت المرأة كبيت الزوج وعلى هذا قول الفراء .

وقال ابن قتيبة : أراد بيوت أولادهم . فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء ، لأن الولد كسب والده ، وماله كماله . قال عليه الصلاة والسلام {[5865]} ( إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه ) .

قال : والدليل على هذا ، انه تعالى عدد الأقارب ولم يذكر الأولاد . لأنه إذا كان سبب الرخصة هو القرابة ، كان الذي هو أقرب منهم أولى . انتهى .

وعليه ، فلا يقال إنه ليس في أكل الإنسان من بيت نفسه حرج ، فما فائدة ذكره بان المراد بالأنفس من هو بمنزلتها من العيال والأولاد ، كما في قوله {[5866]} : { ولا تقتلوا أنفسكم } .

وفي ( الكشف ) : فائدة إقحام النفس ، أن المراد به ليس على الضعفاء المطعمين ، ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات ، أو من هو في مثل حالهم وهم الأصدقاء – حرج .

وقيل إنه على ظاهره . والمراد إظهار التسوية بينه وبين قرنائه .

قال الشهاب : وهو حسن . ولا يرد عليه أنه حينئذ لم يذكر فيه الأكل من بيوت الأزواج والأولاد ، لأنه داخل في قوله : { من بيوتكم } . انتهى .

{ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ } يعني أموال المرء ، إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها له ، أن يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته . وملك المفاتيح كونها في يده وحفظه { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي أو بيوت أصدقائكم . والصديق يكون واحدا وجمعا . وكذلك الخليط والقطين والعدو . كذا في ( الكشاف ) .

قال الناصر : وقد قال الزمخشري : إن سر إفراده في قوله تعالى {[5867]} : { فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم } دون الشافعين ، التنبيه على قلة الأصدقاء ، ولا كذلك الشافعون فإن الإنسان قد يحمى له ، ويشفع في حقه من لا يعرفه ، فضلا عن أن يكون صديقا .

ويحتمل في الآيتين ، أن يكون المراد به الجمع . فلا كلام . ويحتمل أن يراد الإفراد ، فيكون سره ذلك . والله أعلم .

قال الزمخشري : يحكى عن الحسن أنه دخل داره . وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره . ، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة . وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا ، وضحك وقال : هكذا وجدناهم هكذا وجدناهم . . . يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضي الله عنهم .

وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسه ، فيأخذ منه ما شاء . فإذا حضر مولاها فأخبرته ، أعتقها سرورا بذلك .

وعن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما : من عطم حرمة الصديق ، أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة ، بمنزلة النفس والأب والأخ والابن .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ( الصديق أكبر من الوالدين . إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات . فقالوا {[5868]} : { فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم } ) . وقالوا : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك ، قام ذلك مقام الإذن الصريح . وربما سمج الاستئذان وثقل . كمن قدم إليه طعام ، فاستأذن صاحبه في الأكل منه . انتهى .

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } أي مجتمعين أو متفرقين . روي ( أن قوما من الأنصار إذا نزل بهم ضيف ، لا يأكلون إلا مع ضيفهم . وإن قوما كانوا تحرجوا من الاجتماع على الطعام ، لاختلاف الناس في الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض . فأبيح لهم ذلك ) .

وقال قتادة : كان الحي من بني كنانة ، يرى أحدهم ؛ أن مخزاة عليه ، أن يأكل وحده في الجاهلية . حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحقل وهو جائع ، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه واشتهر هذا عن حاتم لقوله {[5869]} :

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له *** أكيلا فإني لست آكله وحدي

قال الشهاب : وفي الحديث {[5870]} ( شر الناس من آكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده ) والنهي في الحديث لاعتياده بخلا بالقرى ، ونفي الحرج عن وقوعه أحيانا ، بيان لأنه لا إثم فيه ، ولا يذم به شرعا ، كما ذمت به الجاهلية .

{ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ } أي إذا دخلتم بيتا من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ، قرابة ودينا . قاله الزمخشري .

أشار رحمه الله إلى أن المراد بالأنفس من هم بمنزلتها ، لشدة الاتصال كقوله {[5871]} : { ولا تقتلوا أنفسكم } ، ويحتمل أن المسلم ، إذا ردت تحيته عليه ، فكأنه سلم على نفسه . كما أن القاتل لاستحقاقه القتل بفعله ، كأنه قاتل نفسه . وأما إبقاؤه على ظاهره ؛ لأنه إذا لم يكن في البيت أحد ، يسره أن يقول : السلام علينا وعلى عبادنا الصالحين . كما روي عن ابن عباس – فبعيد غير مناسب لعموم الآية . كذا في ( الشهاب ) .

وقال الناصر : في التعبير عنهم ، بالأنفس ، تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من هذه البيوت المعدودة ، وأن ذلك إنما كان ، لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه ، لاتحاد القرابة . . . فليطب نفسا بانبساط فيها { تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ } أي ثابتة بأمره ، مشروعة من لدنه { مُبَارَكَةً } أي مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامها { طَيِّبَةً } أي تطيب بها نفس المستمع { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون } أي ما فيها من الأحكام أو الآداب القائدة إلى سعادة الدارين .


[5863]:(9 التوبة 91).
[5864]:(2 البقرة 188).
[5865]:أخرجه النسائي في: 44 – كتاب البيوع، 1 – باب الحث على الكسب، عن عائشة.
[5866]:(4 النساء 29).
[5867]:(26 الشعراء 100 و 101).
[5868]:(26 الشعراء 100 و 101).
[5869]:من قصيدة مطلعها: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ويا ابنة ذي البردين والأسد الورد
[5870]:لم أقف عليه.
[5871]:(4 النساء 29).