غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ إِخۡوَٰنِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَعۡمَٰمِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ عَمَّـٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخۡوَٰلِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (61)

51

ثم ختم السورة بسائر الصور التي يعتبر فيها الإذن فقال { ليس على الأعمى حرج } نفى الحرج عن الأصناف الثلاثة ذوي العاهات ثم قال { ولا على أنفسكم أن تأكلوا } فذهب ابن زيد إلى أن المراد نفي الحرج عنهم في القعود عن الجهاد ، ثم عطف على ذلك أنه لا حرج عليكم أن تأكلوا من البيوت المذكورة . ووجه صحة العطف التقاء الطائفتين في أن كل واحدة منهما منفي عنها الحرج . قال جار الله : مثال هذا أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فقلت : ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر . وقال آخرون : كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي الآفات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها ، فخالج قلوب الكل ريبة خوفاً من أن يكون أكلاً بغير حق لقوله { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] فقيل : لهم ليس على هؤلاء الضعفاء ولا على أنفسكم يعني عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك . قال قتادة : كانت الأنصار في أنفسها قزازة وكاننت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا . والقزازة احتراز مع القزة وهي مدح ، والكزازة ذم . وروى الزهري عن سعيد بن السمي وغيره أن المسلمين كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ويدفعون إليهم المفاتيح ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم ، فكانوا يتحرجون كما يحكى عن الحرث بن عمرو أنه خرج غازياً وخلف مالك بن زيد في ماله وبيته ، فلما رجع رآه مجهوداً فقال : ما أصابك ؟ قال : لم يكن عندي شيء ولم يحل لي أن آكل من مالك . فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تخرجوا عنه ، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت . قال الأكثرون : كان هؤلاء الضعفاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم فيقول الأعمى : إني لا أرى شيئاً فربما آخذ الأجود وأترك الرديء ، والأعرج يفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه ، والمريض لا يخلو من رائحة أو غيرها من أسباب الكراهة . وأيضاً كان المؤمنون يقولون الأعمى لا يبصر الطعام الجيد ولا يأكله ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس فلا يقدر على الأكل مما ينبغي ، والمريض لا يتأتى له أن يأكل كما يأكل الأصحاء فقيل : ليس على هؤلاء ولا عليكم في المؤاكلة حرج .

ثم إنه تعالى عدد من مواضع الأكل أحد عشر موضعاً : الأول قوله { من بيوتكم } وفيه سؤال : وهو أنه أيّ فائدة في إباحة أكل الإنسان طعامه من بيته ؟ والجواب أراد من بيوت أزواجكم وعيالكم لأن بيت المرأة بيت الزوج قاله الفراء . وقال ابن قتيبة : أراد بيوت أولادهم ولهذا لم يذكر الأولاد في جملة الأقارب وإن الولد أقرب الأقربين لأنه بعض الرجل وحكمه حكم نفسه ، وفي الحديث " إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه " وباقي البيوت لا إشكال فيها إلى البيت العاشر وهو قوله { أو ما ملكتم مفاتحه } وفيه وجوه : أحدها قال ابن عباس وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا باس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته وملك المفاتيح كونها في يده وحفظه . وثانيها قال الضحاك : يريد الزمني الذين يخلفون الغزاة . وثالثها قيل : أراد بيوت المماليك لأن مال العبد لمولاه . الحادي عشر قوله { أو صديقكم } ومعناه أو بيوت أصدقائكم والصديق يكون واحداً وجمعاً كالعدو . وعن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون ، فتهللت أسارير وجهه سروراً وضحك وقال : هكذا وجدناهم يريد أكابر الصحابة . وعن جعفر الصادق بن محمد عليه السلام : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الإنس والثقة والانبساط بمنزلة النفس والأب والأخ والابن . قال العلماء : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح ، وربما سمج الاستئذان وثقل كمن قدم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه . احتج أبو يوسف بالآية على أنه لا قطع على من سرق من ذي رحم محرم وذلك أنه تعالى أباح الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذن فلا يكون ماله محرزاً منهم ، وأورد عليه أن لا يقطع إذا سرق من صديقه . فأجاب بأن السارق لأي كون صديقاً للمسروق منه . واعلم أن ظاهر الآية دل على أن إباحة الأكل من هذه المواضع لا تتوقف على الاستئذان . فعن قتادة أن الأكل مباح ولكنه يجمل . وجمهور العلماء أنكروا ذلك فقيل : كان ذلك مباحاً في صدر الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " ومما يدل على هذا النسخ قوله { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } [ الأحزاب : 53 ] وقال أبو مسلم : هذا في الأقارب الكفرة . وفي هذه الآية إباحة ما حظر وفي قوله لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله } [ المجادلة : 22 ] وقيل : إن هؤلاء القوم كانت تطيب أنفسهم بأكل من يدخل عليهم والعادة كالإذن في ذلك فلا جرم خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأغلب توجد فيهم ولذلك ضم إليهم الصديق . وإذا علمنا أن الإباحة إنما حصلت في هذه الصورة لأجل حصول الرضا ، فلا حاجة إلى القول بالنسخ .

وحين نفى الحرج عنهم في نفس الأكل أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل فقال { ليس عليكم جناح أن تأكلوا } وانتصب قوله { جميعاً أو أشتاتا } على الحال أي مجتمعين أو متفرقين . والأشتات جمع شت وهو نعت وقيل مصدر وصف به . ثم اجمع أكثر المفسرين ومنهم ابن عباس على أنها نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرّجون عن الانفراد في الطعام ، فربما قعد الرجل منتظراً نهاره إلى الليل فإن لم يجد من يؤاكله أكل . وقال عكرمة وأبو صالح : نزلت في قوم من الأنصار لا يأكلون إلا مع ضيفهم . وقال الكلبي : كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً على حدة ، وكذلك الزمن والمريض فبين الله لهم أن ذلك غير واجب . وقال آخرون : كانوا يأكلون فرادى خوفاً من أن يحصل عند الجمعية ما ينفر أو يؤذى فرفع الله الحرج . ثم علمهم أدباً جميلاً قائلاً { فإذا دخلتم بيوتاً } أي من البيوت المذكورة لتأكلوا { فسلموا على أنفسكم } أي ابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة وانتصب { تحية } ب { سلموا } نحو " قعدت جلوساً " ومعنى { من عند الله } أنها ثابتة من عنده مشروعة من لدنه ، أو أراد أن التحية طلب حياة للمخاطب من عند الله وكذا التسليم طلب السلامة له من عنده . ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق وتضعيف الثواب . عن أنس قال : كنت واقفاً على رأس النبي صلى الله عليه وسلم أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال : " ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها ؟ قلت : بلى بأبي وأمي يا رسول الله . قال : متى لقيت من أمتي أحداً فسلم عليه يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصلّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوّابين " قال العلماء : إن لم يكن في البيت أحد فليقل " السلام علينا من ربنا ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " .

/خ64