فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ إِخۡوَٰنِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَعۡمَٰمِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ عَمَّـٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخۡوَٰلِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (61)

{ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة ، أو منسوخة ؟ قال بالأوّل جماعة من العلماء ، وبالثاني جماعة . قيل : إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمانهم ، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ، ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرّجون من ذلك وقالوا : لا ندخلها ، وهم غيب ، فنزلت هذه الآية رخصة لهم ؛ فمعنى الآية : نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو . قال النحاس : وهذا القول من أجلّ ما روي في الآية لما فيه من الصحابة ، والتابعين من التوقيف . وقيل إن هؤلاء المذكورين كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصحاء حذاراً من استقذارهم إياهم وخوفاً من تأذيهم بأفعالهم ، فنزلت . وقيل إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به القدرة الكاملة على المشي على وجه يتعذر الإتيان به مع العرج ، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه . وقيل المراد بهذا الحرج المرفوع عن هؤلاء في تأخرهم عن الغزو . وقيل : كان الرجل إذا أدخل أحداً من هؤلاء الزمنى إلى بيته ، فلم يجد فيه شيئاً يطعمهم إياه ذهب بهم إلى بيوت قرابته ، فيتحرج الزمنى من ذلك ، فنزلت . ومعنى قوله { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ } . عليكم وعلى من يماثلكم من المؤمنين { أَن تَأْكُلُواْ } أنتم ومن معكم ، وهذا ابتداء كلام : أي ولا عليكم أيها الناس . والحاصل أن رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض إن كان باعتبار مؤاكلة الأصحاء ، أو دخول بيوتهم فيكون { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ } متصلاً بما قبله ، وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر ، وعدم العرج وعدم المرض ، فقوله : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ } ابتداء كلام غير متصل بما قبله .

ومعنى { مِن بُيُوتِكُمْ } : البيوت التي فيها متاعهم وأهلهم ، فيدخل بيوت الأولاد ، كذا قال المفسرون ، لأنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن الرجل بيته ، فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد ، وذكر بيوت الآباء ، وبيوت الأمهات ، ومن بعدهم . قال النحاس : وعارض بعضهم هذا ، فقال : هذا تحكم على كتاب الله سبحانه بل الأولى في الظاهر أن يكون الابن مخالفاً لهؤلاء . ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الأولاد بالنسبة إلى الآباء لا تنقص عن رتبة الآباء بالنسبة إلى الأولاد ، بل للآباء مزيد خصوصية في أموال الأولاد لحديث : «أنت ومالك لأبيك » ، وحديث : «ولد الرجل من كسبه » ، ثم قد ذكر الله سبحانه هاهنا بيوت الإخوة والأخوات ، بل بيوت الأعمام والعمات ، بل بيوت الأخوال والخالات ، فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء ، ولا ينفيه عن بيوت الأولاد ؟ وقد قيد بعض العلماء جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم . وقال آخرون : لا يشترط الإذن . قيل : وهذا إذا كان الطعام مبذولاً ، فإن كان محرزاً دونهم لم يجز لهم أكله . ثم قال سبحانه : { أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ } أي البيوت التي تملكون التصرّف فيها بإذن أربابها ، وذلك كالوكلاء والعبيد والخزّان ، فإنهم يملكون التصرّف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته ، وإعطائهم مفاتحه . وقيل المراد بها بيوت المماليك . قرأ الجمهور { ملكتم } بفتح الميم وتخفيف اللام . وقرأ سعيد بن جبير بضم الميم وكسر اللام مع تشديدها . وقرأ أيضاً { مفاتيحه } بياء بين التاء والحاء . وقرأ قتادة ؛ { مفاتحه } على الإفراد ، والمفاتح جمع مفتح ، والمفاتيح جمع مفتاح { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي لا جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم ، وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة ، فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك وتطيب به نفسه ، والصديق يطلق على الواحد والجمع ، ومنه قول جرير :

دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا *** بأسهم أعداء وهنّ صديق

ومثله العدوّ والخليط والقطين والعشير ، ثم قال سبحانه : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ } من بيوتكم { جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } انتصاب { جميعاً أو أشتاتاً } على الحال . والأشتات جمع شتّ ، والشتّ المصدر : بمعنى التفرّق ، يقال شتّ القوم أي : تفرقوا ، وهذه الجملة كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله : أي ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم مجتمعين أو متفرقين ، وقد كان بعض العرب يتحرّج أن يأكل وحده حتى يجد له أكيلاً يؤاكله فيأكل معه ، وبعض العرب كان لا يأكل إلاّ مع ضيف ، ومنه قول حاتم :

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له *** أكيلاً فإني لست آكله وحدي

{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً } هذا شروع في بيان أدب آخر أدّب به عباده : أي إذا دخلتم بيوتاً غير البيوت التي تقدّم ذكرها { فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } أي على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم . وقيل المراد البيوت المذكورة سابقاً . وعلى القول الأوّل ، فقال الحسن والنخعي : هي المساجد ، والمراد : سلموا على من فيها من صنفكم ، فإن لم يكن في المساجد أحد ، فقيل يقول : السلام على رسول الله ، وقيل يقول : السلام عليكم مريداً للملائكة ، وقيل يقول : السلام علينا ، وعلى عباد الله الصالحين . وقال بالقول الثاني : أعني أنها البيوت المذكورة سابقاً جماعة من الصحابة والتابعين ، وقيل المراد بالبيوت هنا هي كلّ البيوت المسكونة وغيرها ، فيسلم على أهل المسكونة ، وأما غير المسكونة فيسلم على نفسه . قال ابن العربي : القول بالعموم في البيوت هو الصحيح ، وانتصاب { تَحِيَّةً } على المصدرية ، لأن قوله : { فَسَلّمُواْ } معناه فحيوا : أي تحية ثابتة { مِنْ عِندِ الله } أي إن الله حياكم بها . وقال الفرّاء : أي إن الله أمركم أن تفعلوها طاعة له ، ثم وصف هذه التحية فقال : { مباركة } أي كثيرة البركة والخير دائمتهما { طَيّبَةً } أي تطيب بها نفس المستمع ، وقيل : حسنة جميلة . وقال الزجاج : أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك طيب لما فيه من الأجر والثواب ، ثم كرّر سبحانه ، فقال : { كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } تأكيداً لما سبق . وقد قدّمنا : أن الإشارة بذلك إلى مصدر الفعل { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } تعليل لذلك التبيين برجاء تعقل آيات الله سبحانه ، وفهم معانيها .

/خ61