وقوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم } الآية ، قال ابن عباس نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه كان في أذنه وقر ، فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه ، فيسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر ، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم ، فضن كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد ، فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلساً يجلس فيه قام قائماً كما هو ، فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطى رقاب الناس ويقول : تفسحوا تفسحوا ، فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبينه وبينه رجل ، فقال للرجل : تفسح ، فقال له : قد أصبت مجلساً فاجلس ، فجلس ثابت خلفه مغضباً ، فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل ، فقال : من هذا ؟ قال : أنا فلان ، فقال له ثابت : ابن فلان ؟ وذكر أماً له كان يعير بها في الجاهلية ، فنكس الرجل رأسه واستحيا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم الذين ذكرناهم ، كانوا يستهزؤون بفقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فأنزل الله تعالى في الذين آمنوا منهم : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } أي : رجال من رجال . والقوم : اسم يجمع الرجال والنساء ، وقد يختص بجمع الرجال ، { عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن } . روي عن أنس أنها نزلت في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عيرن أم سلمة بالقصر . وعن عكرمة عن ابن عباس : أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب ، قال لها النساء : يهودية بنت يهوديين . { ولا تلمزوا أنفسكم } أي : لا يعب بعضكم بعضاً ، ولا يطعن بعضكم على بعض ، { ولا تنابزوا بالألقاب } التنابز : التفاعل من النبز ، وهو اللقب ، وهو أن يدعى الإنسان بغير ما سمي به . قال عكرمة : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق يا منافق يا كافر . وقال الحسن : كان اليهودي والنصراني يسلم ، فيقال : بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني ، فنهوا عن ذلك . قال عطاء : هو أن تقول لأخيك : يا كلب يا حمار يا خنزير .
وروي عن ابن عباس قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله . { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } أي : بئس الاسم أن يقول : يا يهودي أو يا فاسق بعدما آمن وتاب ، وقيل معناه : إن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق ، بئس الاسم الفسوق بعد الاسم الإيمان ، فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق ، { ومن لم يتب } من ذلك ، { فأولئك هم الظالمون } .
( يا أيها الذين آمنوا ، لا يسخر قوم من قوم ، عسى أن يكونوا خيرا منهم ؛ ولا نساء من نساء ، عسى أن يكن خيرا منهن . ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم : الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) . .
إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن مجتمع له أدب رفيع ، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس . وهي من كرامة المجموع . ولمز أي فرد هو لمز لذات النفس ، لأن الجماعة كلها وحدة ، كرامتها واحدة .
والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب : يا أيها الذين آمنوا . وينهاهم أن يسخر قوم بقوم ، أي رجال برجال ، فلعلهم خير منهم عند الله ، أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان الله .
وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة التي يراها الرجال في أنفسهم ويراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية ، التي يوزن بها الناس . فهناك قيم أخرى ، قد تكون خافية عليهم ، يعلمها الله ، ويزن بها العباد . وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير . والرجل القوي من الرجل الضعيف ، والرجل السوي من الرجل المؤوف . وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخام . وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم . وذو العصبية من اليتيم . . . وقد تسخر الجميلة من القبيحة ، والشابة من العجوز ، والمعتدلة من المشوهة ، والغنية من الفقيرة . . ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس ، فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين !
ولكن القرآن لا يكتفي بهذا الإيحاء ، بل يستجيش عاطفة الأخوة الإيمانية ، ويذكر الذين آمنوا بأنهم نفس واحدة من يلمزها فقد لمزها : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) . . واللمز : العيب . ولكن للفظة جرسا وظلا ؛ فكأنما هي وخزة حسية لا عيبة معنوية !
ومن السخرية واللمز التنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها ، ويحسون فيها سخرية وعيبا . ومن حق المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويزري به . ومن أدب المؤمن ألا يؤذي أخاه بمثل هذا . وقد غير رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أسماء وألقابا كانت في الجاهلية لأصحابها ، أحس فيها بحسه المرهف ، وقلبه الكريم ، بما يزري بأصحابها ، أو يصفهم بوصف ذميم .
والآية بعد الإيحاء بالقيم الحقيقية في ميزان الله ، وبعد استجاشة شعور الأخوة ، بل شعور الاندماج في نفس واحدة ، تستثير معنى الإيمان ، وتحذر المؤمنين من فقدان هذا الوصف الكريم ، والفسوق عنه والانحراف بالسخرية واللمز والتنابز : ( بئس الاسم : الفسوق بعد الإيمان ) . فهو شيء يشبه الارتداد عن الإيمان ! وتهدد باعتبار هذا ظلما ، والظلم أحد التعبيرات عن الشرك : ( ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) . . وبذلك تضع قواعد الأدب النفسي لذلك المجتمع الفاضل الكريم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىَ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مّن نّسَآءٍ عَسَىَ أَن يَكُنّ خَيْراً مّنْهُنّ وَلاَ تَلْمِزُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ وَمَن لّمْ يَتُبْ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ يقول : المهزوء منهم خير من الهازئين وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ يقول : ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات ، عسى المهزوء منهنّ أن يكنْ خيرا من الهازئات .
واختلف أهل التأويل في السخرية التي نهى الله عنها المؤمنين في هذه الاَية ، فقال بعضهم : هي سخرية الغنيّ من الفقير ، نُهِي أن يُسخر من الفقير لفقره . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ قال : لا يهزأ قوم بقوم أن يسأل رجل فقير غنيا ، أو فقيرا ، وإن تفضل رجل عليه بشيء فلا يستهزىء به .
وقال آخرون : بل ذلك نهي من الله من ستر عليه من أهل الإيمان أن يسخر ممن كشف في الدنيا ستره منهم ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَى أنْ يَكُنّ خَيْرا مِنْهُنّ قال : ربما عثر على المرء عند خطيئته عسى أن يكونوا خيرا منهم ، وإن كان ظهر على عثرته هذه ، وسترت أنت على عثرتك ، لعلّ هذه التي ظهرت خير له في الاَخرة عند الله ، وهذه التي سترت أنت عليها شرّ لك ، ما يدريك لعله ما يغفر لك قال : فنُهي الرجل عن ذلك ، فقال : لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ وقال في النساء مثل ذلك .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية ، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره ، ولا لذنب ركبه ، ولا لغير ذلك .
وقوله : وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ يقول تعالى ذكره : ولا يغتب بعضكم بعضا أيها المؤمنون ، ولا يطعن بعضكم على بعض وقال : لا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ فجعل اللامز أخاه لامزا نفسه ، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من تحسين أمره ، وطلب صلاحه ، ومحبته الخير . ولذلك رُوي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «المُؤْمِنُونَ كالجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سائِرُ جَسَدِهِ بالحُمّى والسّهَر » . وهذا نظير قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالِكُمْ بَيْنَكُمُ بالباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ بمعنى : ولا يقتل بعضكم بعضا . وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ قال : لا تطعنوا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ يقول : ولا يطعن بعضكم على بعض .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَلْمزُوا أنْفُسَكُمْ يقول : لا يطعن بعضكم على بعض .
قوله : وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب يقول : ولا تداعوا بالألقاب والنبز واللقب بمعنى واحد ، يُجمع النبز : أنبازا ، واللقب : ألقابا .
واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى الله عن التنابز بها في هذه الاَية ، فقال بعضهم : عنى بها الألقاب التي يكره النبز بها الملقّب ، وقالوا : إنما نزلت هذه الاَية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية ، فلما أسلموا نهوا أن يدعو بعضهم بعضا بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، قال : قال أبو جبيرة بن الضحاك : فينا نزلت هذه الاَية في بني سلمة ، قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دعا الرجل بالاسم ، قلنا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا ، فنزلت هذه الاَية وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب . . . الاَية كلها .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن أبي جُبَيرة بن الضحاك ، قال : كان أهل الجاهلية يسمون الرجل بالأسماء ، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً باسم من تلك الأسماء ، فقالوا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا ، فأنزل الله وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، قال : ثني أبو جُبَيرة بن الضحاك ، فذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُليَة ، قال : أخبرنا داود عن الشعبيّ ، قال : ثني أبو جبيرة بن الضحاك ، قال : نزلت في بني سلمة وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال : قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان يدعو الرجل ، فتقول أمه : إنه يغضب من هذا ، قال : فنزلت وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ . وقال مرّة : كان إذا دعا باسم من هذا ، قيل : يا رسول الله إنه يغضب من هذا ، فنزلت الاَية .
وقال آخرون : بل ذلك قول الرجل المسلم للرجل المسلم : يا فاسق ، يا زاني . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، قال : سألت عكرِمة ، عن قول الله وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال : هو قول الرجل للرجل : يا منافق ، يا كافر .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرِمة ، في قوله وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق ، يا منافق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حصين ، عن عكرِمة وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال : يا فاسق ، يا كافر .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد أو عكرِمة وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال : يقول الرجل للرجل : يا فاسق ، يا كافر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال : دُعي رجل بالكفر وهو مسلم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ يقول للرجل : لا تقل لأخيك المسلم : ذاك فاسق ، ذاك منافق ، نهى الله المسلم عن ذلك وقدّم فيه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب يقول : لا يقولنّ لأخيه المسلم : يا فاسق ، يا منافق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تَنابَزُوا بالألقابِ قال : تسميته بالأعمال السيئة بعد الإسلام زان فاسق .
وقال آخرون : بل ذلك تسمية الرجل الرجل بالكفر بعد الإسلام ، وبالفسوق والأعمال القبيحة بعد التوبة ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ . . . الاَية ، قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها ، وراجع الحقّ ، فنهى الله أن يُعيّر بما سلف من عمله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن : كان اليهودي والنصرانيّ يسلم ، فيلقب ، فيقال له : يا يهوديّ ، يا نصراني ، فنهوا عن ذلك .
والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب والتنابز بالألقاب : هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة ، وعمّ الله بنهيه ذلك ، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض ، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه ، أو صفة يكرهها . وإذا كان ذلك كذلك صحّت الأقوال التي قالها أهل التأويل في ذلك التي ذكرناها كلها ، ولم يكن بعض ذلك أولى بالصواب من بعض ، لأن كلّ ذلك مما نهى الله المسلمين أن ينبز بعضهم بعضا .
وقوله : بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ يقول تعالى ذكره : ومن فعل ما نهينا عنه ، وتقدّم على معصيتنا بعد إيمانه ، فسخر من المؤمنين ، ولمز أخاه المؤمن ، ونبزه بالألقاب ، فهو فاسق بِئْسَ الاِسْمْ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ يقول : فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقا ، بئس الاسم الفسوق ، وترك ذكر ما وصفنا من الكلام ، اكتفاء بدلالة قوله : بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ عليه .
حدثنا به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وقرأ بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ قال : بئس الاسم الفسوق حين تسميه بالفسق بعد الإسلام ، وهو على الإسلام . قال : وأهل هذا الرأي هم المعتزلة ، قالوا : لا نكفره كما كفره أهل الأهواء ، ولا نقول له مؤمن ، كما قالت الجماعة ، ولكنا نسميه باسمه إن كان سارقا فهو سارق ، وإن كان خائنا سموه خائنا وإن كان زانيا سموه زانيا قال : فاعتزلوا الفريقين أهل الأهواء وأهل الجماعة ، فلا بقول هؤلاء قالوا ، ولا بقول هؤلاء ، فسموا بذلك المعتزلة .
فوجه ابن زيد تأويل قوله : بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ إلى من دَعي فاسقا ، وهو تائب من فسقه ، فبئس الاسم ذلك له من أسمائه . . وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام ، وذلك أن الله تقدّم بالنهي عما تقدّم بالنهي عنه في أوّل هذه الاَية ، فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدّم على بغيه ، أو بقبيح ركوبه ما ركب مما نهى عنه ، لا أن يخبر عن قُبح ما كان التائب أتاه قبل توبته ، إذ كانت الاَية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح ، فيختم آخرها بالوعيد عليه أو بالقبيح .
وقوله : وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ يقول تعالى ذكره : ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب ، أو لمزه إياه ، أو سخرتيه منه ، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم ، فأكسبوها عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ قال : ومن لم يتب من ذلك الفسوق فأولئك هم الظالمون .
{ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن } أي لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيرا عند الله من الساخر ، والقوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر وزور ، والقيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال الله تعالى : { الرجال قوامون على النساء } وحيث فسر بالقبيلين كقوم عاد وفرعون ، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع ، واختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع و { عسى } باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي ولا خبر لها لإغناء الاسم عنه . وقرئ " عسوا أن يكونا " و " عسين أن يكن " فهي على هذا ذات خبر . { ولا تلمزوا أنفسكم } أي ولا يغتب بعضكم بعضا فإن المؤمنين كنفس واحدة ، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه . واللمز الطعن باللسان . وقرأ يعقوب بالضم . { ولا تنابزوا بالألقاب } ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء ، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفا . { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به ، والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسق إلى المؤمنين خصوصا إذ روي أن الآية نزلت في صفية بنت حيي رضي الله عنها ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها " هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد عليهم السلام " . أو للدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإيمان مستقبح . { ومن لم يتب } عما نهى عنه . { فأولئك هم الظالمون } بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن }
لما اقتضت الأخوة أن تَحْسُن المعاملة بين الأخوين كان ما تقرر من إيجاب معاملة الإخوة بين المسلمين يقتضي حسن المعاملة بين آحادهم ، فجاءت هذه الآيات منبهة على أمور من حسن المعاملة قد تقع الغفلة عن مراعاتها لكثرة تفشّيها في الجاهلية لهذه المناسبة ، وهذا نداء رابع أريد بما بَعده أمرُ المسلمين بواجب بعض المجاملة بين أفرادهم .
وعن الضحاك : أن المقصود بنو تميم إذ سخروا من بلال وعَمار وصهيب ، فيكون لنزول الآية سبب متعلق بالسبب الذي نزلت السورة لأجله وهذا من السخرية المنهي عنها .
وروى الواحدي عن ابن عباس أن سبب نزولها : « أن ثابت بن قيس بن شمَّاس كان في سمعه وَقْر وكان إذا أتى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أوسِعوا له ليجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فجاء يوماً يتخطى رقاب الناس فقال رجل : قد أصبتَ مجلساً فاجلِس . فقال ثابت : مَنْ هذا ؟ فقال الرجل : أنا فلان . فقال ثابت : ابنُ فلانة وذكر أمًّا له كان يُعيّر بها في الجاهلية ، فاستحيا الرجل . فأنزل الله هذه الآية » ، فهذا من اللمز . وروي عن عكرمة : « أنها نزلت لما عَيّرت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمة بالقِصَر » ، وهذا من السخرية . وقيل : عير بعضهن صفية بأنها يهودية ، وهذا من اللمز في عرفهم .
وافتتحت هذه الآيات بإعادة النداء للاهتمام بالغرض فيكون مستقلاً غير تابع حسبما تقدم من كلام الفخر . وقد تعرضت الآيات الواقعة عقب هذا النداء لصنف مُهمّ من معاملة المسلمين بعضهم لبعض مما فشا في الناس من عهد الجاهلية التساهلُ فيها . وهي من إساءة الأقوال ويقتضي النهي عنها الأمر بأضدادها . وتلك المنهيات هي السخرية واللمز والنبز .
والسَّخر ، ويقال السخرية : الاستهزاء ، وتقدم في قوله : { فيسخرون منهم } في سورة براءة ( 79 ) ، وتقدم وجه تعديته ب ( من ) .
والقوم : اسم جمع : جماعة الرجال خاصة دون النساء ، قال زهير :
وما أدري وسوف أخال أدري *** أقوم آلُ حصن أم نساء ؟
وتنكير { قوم } في الموضعين لإفادة الشياع ، لئلا يتوهم نهي قوم معينين سخروا من قوم معينين . وإنما أسند { يسخر } إلى { قوم } دون أن يقول : لا يسخر بعضُكم من بعض كما قال : { ولا يغتب بعضكم بعضاً } [ الحجرات : 12 ] للنهي عما كان شائعاً بين العرب من سخرية القبائل بعضها من بعض فوجّه النهي إلى الأقوام . ولهذا أيضاً لم يقل : لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة . ويفهم منه النهي عن أن يسخر أحد من أحد بطريق لحن الخطاب . وهذا النهي صريح في التحريم .
وخص النساء بالذكر مع أن القوم يشملهم بطريق التغليب العرفي في الكلام ، كما يشمل لفظُ { المؤمنين } المؤمنات في اصطلاح القرآن بقرينة مقام التشريع ، فإن أصله التساوي في الأحكام إلا ما اقتضى الدليل تخصيص أحد الصنفين به دفعاً لتوهم تخصيص النهي بسخرية الرجال إذ كان الاستسخار متأصلاً في النساء ، فلأجل دفع التوهم الناشىء من هذين السيئين على نحو ما تقدم في قوله من آية القصاص { والأنثى بالأنثى } في سورة العقود ( 178 ) .
وجملة { عسى أن يكونوا خيراً منهم } مستأنفة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين تفيد المبالغة في النهي عن السخرية بذكر حالة يكثر وجودها في المسخُورية ، فتكون سخرية الساخر أفظع من الساخر ، ولأنه يثير انفعال الحياء في نفس الساخرة بينه وبين نفسه . وليست جملة { عسى أن يكونوا خيراً منهم } صفةً لقوم من قومه : { من قوم } وإلا لصار النهي عن السخرية خاصاً بما إذا كان المسخور به مظنة أنه خير من الساخر ، وكذلك القول في جملة { عسى أن يكُنَّ خيراً منهنّ } وليست صفة ل { نسَاء } من قوله : { من نسَاء } .
وتشابه الضميرين في قوله : { أن يكونوا خيراً منهم } وفي قوله : { أنْ يَكُنَّ خيراً منهن } لا لبس فيه لظهور مرجع كل ضمير ، فهو كالضمائر في قوله تعالى : { وعَمروها أكثَر مما عمَروها } في سورة الروم ( 9 ) ، وقول عباس بن مرداس :
عُدنا ولولا نحن أحْدَق جمعهم *** بالمسلمين وأحرَزُوا ما جَمَّعوا
{ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } .
اللمز : ذكر ما يَعُده الذاكر عيباً لأحد مواجهةً فهو المباشرة بالمكروه . فإن كان بحق فهو وقاحة واعتداء ، وإن كان باطلاً فهو وقاحة وكذب ، وكان شائعاً بين العرب في جاهليتهم قال تعالى : { ويل لكلِّ هُمَزة لُمزة } [ الهمزة : 1 ] يعني نفراً من المشركين كان دأبهم لَمز رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون بحالة بين الإشارة والكلام بتحريك الشفتين بكلام خفيّ يعرِف منه المواجه به أنه يذمّ أو يتوعد ، أو يتنقص باحتمالات كثيرة ، وهو غير النبز وغير الغِيبة . وللمفسرين وكتب اللغة اضطراب في شرح معنى اللمز وهذا الذي ذكرته هو المنخول من ذلك .
ومعنى { لا تلمزوا أنفسكم } لا يلمز بعضكم بعضاً فَنُزِّلَ البعضُ الملموز نَفْساً للامزه لتقرر معنى الأخوة ، وقد تقدم نظيره عند قوله : { ولا تخرجونَ أنفسكم من دياركم } في سورة البقرة ( 84 ) .
والتنابز : نبز بعضهم بعضاً ، والنبْز بسكون الباء : ذكر النَبَز بتحريك الباء وهو اللقب السوء ، كقولهم : أنف الناقة ، وقُرْقُور ، وبطَة . وكان غالب الألقاب في الجاهلية نبزا . قال بعض الفزاريين :
أكنيه حين أناديه لأكرمه *** ولا ألقبه والسَّؤْأةُ اللقب
روي برفع السوأْةُ اللقب فيكون جرياً على الأغلب عندهم في اللقب وأنه سوأة . ورواه ديوان الحماسة } بنصب السوأةَ على أن الواو واو المعية . وروي بالسوأة اللقبا أي لا ألقبه لقباً ملابساً للسوءة فيكون أراد تجنب بعض اللقب وهو ما يدل على سُوء ورواية الرفع أرجح وهي التي يقتضيها استشهاد سيبويه ببيت بعده في باب ظن . ولعل ما وقع في « ديوان الحماسة » من تغييرات أبي تمام التي نسب إليه بعضها في بعض أبيات الحماسة لأنه رأى النصب أصح معنى .
فالمراد ب { الألقاب } في الآية الألقاب المكروهة بقرينة { ولا تنابزوا } . واللقب ما أشعر بخسّة أو شرف سواء كان ملقباً به صاحبه أم اخترعه له النابز له .
وقد خصص النهي في الآية ب { الألقاب } التي لم يتقادم عهدها حتى صارت كالأسماء لأصحابها وتنوسي منها قصد الذم والسب خُصّ بما وقع في كثير من الأحاديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم " أصدق ذو اليدين " ، وقوله لأبي هريرة « يا أبا هِرّ » ، ولُقب شاول ملك إسرائيل في القرآن طالوت ، وقول المحدثين الأعرج لعبد الرحمن بن هرمز ، والأعمش لسليمان من مَهران .
وإنما قال { ولا تلمزوا } بصيغة الفعل الواقع من جانب واحد وقال : { ولا تَنابزوا } بصيغة الفعل الواقع من جانبين ، لأن اللمز قليل الحصول فهو كثير في الجاهلية في قبائل كثيرة منهم بنو سلمة بالمدينة قاله ابن عطية .
{ بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون } .
تذييل للمنهيات المتقدمة وهو تعريض قوّي بأن ما نُهوا عنه فُسوق وظلم ، إذ لا مناسبة بين مدلول هذه الجملة وبين الجمل التي قبلها لولا معنى التعريض بأن ذلك فسوق وذلك مذموم ومعاقب عليه فدلّ قوله : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } ، على أن ما نهوا عنه مذموم لأنه فسوق يعاقب عليه ولا تزيله إلا التوبة فوقع إيجاز بحذف جملتين في الكلام اكتفاء بما دل عليه التذييل ، وهذا دال على اللمز والتنابز معصيتان لأنهما فسوق . وفي الحديث " سباب المسلم فسوق " .
ولفظ { الاسم } هنا مطلق على الذكر ، أي التسمية ، كما يقال : طار اسمه في الناس بالجود أو باللؤم . والمعنى : بئس الذِكر أن يذكر أحد بالفسوق بعد أن وُصِف بالإيمان . وإيثار لفظ الاسم هنا من الرشاقة بمكان لأن السياق تحذير من ذكر الناس بالأسماء الذميمة إذ الألقاب أسماء فكان اختيار لفظ الاسم للفسوق مشاكلة معنوية .
ومعنى البعديَّة في قوله : { بعد الإيمان } : بعدَ الاتصاف بالإيمان ، أي أن الإيمان لا يناسبه الفسوق لأن المعاصي من شأن أهل الشرك الذين لا يزعهم عن الفسوق وازع ، وهذا كقول جميلة بنت أُبيّ حين شكت للنبيء صلى الله عليه وسلم أنها تكره زوجها ثابت بن قيس وجاءت تطلب فراقه : « لا أعيب على ثابت في دين ولا في خُلق ولكنّي أكره الكفر بعد الإسلام تريد التعريض بخشية الزنا وإني لا أطيقه بغضاً » .
وإذ كان كل من السخرية واللمز والتنابز معاصي فقد وجبت التوبة منها فمن لم يتب فهو ظالم : لأنه ظلم الناس بالاعتداء عليهم ، وظلم نفسه بأن رضي لها عقاب الآخرة مع التمكن من الإقلاع عن ذلك فكان ظلمه شديداً جداً . فلذلك جيء له بصيغة قصر الظالمين عليهم كأنه لا ظالم غيرهم لعدم الاعتداد بالظالمين الآخرين في مقابلة هؤلاء على سبيل المبالغة ليزدجروا . والتوبة واجبة من كل ذنب وهذه الذنوب المذكورة مراتب وإدمان الصغائر كبيرة .
وتوسيط اسم الإشارة لزيادة تمييزهم تفظيعاً لحالهم وللتنبيه ، بل إنهم استحقوا قصر الظلم عليهم لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين" عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ "يقول: المهزوء منهم خير من الهازئين "وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ" يقول: ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات، عسى المهزوء منهنّ أن يكنْ خيرا من الهازئات.
واختلف أهل التأويل في السخرية التي نهى الله عنها المؤمنين في هذه الآية؛ فقال بعضهم: هي سخرية الغنيّ من الفقير، نُهِي أن يُسخر من الفقير لفقره...
وقال آخرون: بل ذلك نهي من الله من ستر عليه من أهل الإيمان أن يسخر ممن كشف في الدنيا ستره منهم... قال ابن زيد، في قوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَى أنْ يَكُنّ خَيْرا مِنْهُنّ" قال: ربما عثر على المرء عند خطيئته عسى أن يكونوا خيرا منهم، وإن كان ظهر على عثرته هذه، وسترت أنت على عثرتك، لعلّ هذه التي ظهرت خير له في الآخرة عند الله، وهذه التي سترت أنت عليها شرّ لك، ما يدريك لعله ما يغفر لك قال: فنُهي الرجل عن ذلك، فقال: "لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ" وقال في النساء مثل ذلك.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك.
وقوله: "وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ" يقول تعالى ذكره: ولا يغتب بعضكم بعضا أيها المؤمنون، ولا يطعن بعضكم على بعض وقال: "لا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ" فجعل اللامز أخاه لامزا نفسه، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من تحسين أمره، وطلب صلاحه، ومحبته الخير. ولذلك رُوي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المُؤْمِنُونَ كالجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سائِرُ جَسَدِهِ بالحُمّى والسّهَر». وهذا نظير قوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالِكُمْ بَيْنَكُمُ بالباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ" بمعنى: ولا يقتل بعضكم بعضا... قوله: "وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب" يقول: ولا تداعوا بالألقاب، والنبز واللقب بمعنى واحد...
واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى الله عن التنابز بها في هذه الآية؛ فقال بعضهم: عنى بها الألقاب التي يكره النبز بها الملقّب، وقالوا: إنما نزلت هذه الآية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا نهوا أن يدعو بعضهم بعضا بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية... وقال آخرون: بل ذلك قول الرجل المسلم للرجل المسلم: يا فاسق، يا زاني... عن حصين، قال: سألت عكرِمة، عن قول الله "وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ" قال: هو قول الرجل للرجل: يا منافق، يا كافر..
عن مجاهد، قوله: "وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ" قال: دُعي رجل بالكفر وهو مسلم...
وقال آخرون: بل ذلك تسمية الرجل الرجل بالكفر بعد الإسلام، وبالفسوق والأعمال القبيحة بعد التوبة... عن ابن عباس "وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ"... الآية، قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها، وراجع الحقّ، فنهى الله أن يُعيّر بما سلف من عمله...
والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب، والتنابز بالألقاب: هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعمّ الله بنهيه ذلك، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه، أو صفة يكرهها. وإذا كان ذلك كذلك صحّت الأقوال التي قالها أهل التأويل في ذلك التي ذكرناها كلها، ولم يكن بعض ذلك أولى بالصواب من بعض، لأن كلّ ذلك مما نهى الله المسلمين أن ينبز بعضهم بعضا.
وقوله: "بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ" يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وتقدّم على معصيتنا بعد إيمانه، فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن، ونبزه بالألقاب، فهو فاسق، "بِئْسَ الاِسْمْ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ" يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقا، بئس الاسم الفسوق، وترك ذكر ما وصفنا من الكلام، اكتفاء بدلالة قوله: "بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ" عليه...
وقوله: "وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ" يقول تعالى ذكره: ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخرتيه منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم} ظاهر الآية نهي للجماعة عن سخرية جماعة، لأن السخرية إنما تقع، وتكون في الأغلب بين قوم وقوم، وقلَّ ما تقع بين الأفراد والآحاد. فعلى ذلك جرى النهي. ولكن يكون ذلك النهي للجماعة والأفراد والآحاد جميعا، والله أعلم.
ثم تحتمل السخرية المذكورة في الآية وجهين:
أحدهما: في الأفعال؛ يقول: {لا يسخر قوم من قوم} في الأفعال {عسى أن يكونوا خيرا منهم} في النية في تلك الأفعال، أو {خيرا منهم} أي أفعالهم أخلص عند الله من أفعال أولئك أو أقرب إلى القبول.
والثاني: السخرية في الخِلقة، وذلك راجع إلى مُنشئها لا إليهم، وهم قد رضوا بالخلقة التي أُنشئوا عليها، وعسى أن يكونوا هم في تلك الأحوال والأفعال التي هم عليها اليوم...
وقوله تعالى: {ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهن} ذكر سخرية نساء من نساء لأن النساء ليس لهن اختلاط مع الرجال حتى تجري السخرية بينهم، وإنما الاختلاط في الغالب بين أفراد الجنس يكون. فعلى ذلك جرى النهي عن السخرية، والله أعلم...
وقوله تعالى: {ولا تلمِزوا أنفسكم} واللّمز هو الطّعن. ثم منهم من يقول: هو الطعن باللسان، ومنهم من يقول: بالشِّدق والشّفة، ومنهم من يقول بالعين. وحاصله هو الطعن فيه...
وقوله تعالى: {ولا تنابَزُوا بالألقاب} أي لا تدعوا بالألقاب، والنّبز اللقب؛ يقال: نبزت فلانا، أي لقّبته... ولو قال: {ولا تنابزوا} لكان كافيا، لكن كأنه قال: ولا تُظهروا ألقابهم فيسوءهم ما أظهرتم من اللّقب، والله أعلم...
ثم قال الله تعالى: {ومن لم يتُب فأولئك هم الظالمون} أي واضعون الشيء في غير موضعه، والله أعلم...
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ}، نهى الله بهذه الآية عن عَيْب من لا يستحق أن يُعاب على وجه الاحتقار له؛ لأن ذلك هو معنى السخرية، وأخبر أنه وإن كان أرفع حالاً منه في الدنيا فعسى أن يكون المسخور منه خيراً عند الله...
وإنما نهى بذلك عن عيب من لا يستحق وليس بمَعِيبٍ، فإن من كان معيباً فاجراً فعيبه بما فيه جائز...
وقوله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ}... وهذا يدل على أن اللقب المكروه هو ما يكرهه صاحبه ويفيد ذمّاً للموصوف به؛ لأنه بمنزلة السباب والشتيمة، فأما الأسماء والأوصاف الجارية غير هذا المجرى فغير مكروهة لم يتناولها النهي؛ لأنها بمنزلة أسماء الأشخاص والأسماء المشتقة من أفعال...
تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره، ويجب تلقيبه بما يحب؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لقب عمر بالفاروق، وأبا بكر بالصديق، وعثمان بذي النورين، وخزيمة بذي الشهادتين، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين؛ في أشباه ذلك...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
معنى السخرية: الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء...
وفي الآية إشارة إلى أمور ثلاثة مرتبة بعضها دون بعض وهي السخرية واللمز والنبز، فالسخرية: هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته، وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب، وهذا كما قال بعض الناس تراهم إذا ذكر عندهم عدوهم يقولون هو دون أن يذكر، وأقل من أن يلتفت إليه، فقال لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم...
(الثاني) هو اللمز وهو ذكر ما في الرجل من العيب في غيبته وهذا دون الأول، لأن في الأول لم يلتفت إليه ولم يرض بأن يذكره أحد وإنما جعله مثل المسخرة الذي لا يغضب له ولا عليه.
(الثالث) هو النبز وهو دون الثاني، لأن في هذه المرتبة يضيف إليه وصفا ثابتا فيه يوجب بغضه وحط منزلته، وأما النبز فهو مجرد التسمية وإن لم يكن فيه وذلك لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن إذا وضع لواحد وعلق عليه لا يكون معناه موجودا فإن من يسمى سعدا وسعيدا قد لا يكون كذلك، وكذا من لقب إمام الدين وحسام الدين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة وزينة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} أي أوقعوا الإقرار بالتصديق {لا يسخر} أي يهزأ ويستذل. ولما كانت السخرية تكون بحضرة ناس، قال معبراً بما يفهم أن من شارك أو رضي أو سكت وهو قادر فهو ساخر مشارك للقائل: {قوم} أي ناس فيهم قوة المحاولة... {من قوم} فإن ذلك يوجب الشر لأن أضعف الناس إذا حرك للانتقاص قوي بما يثور عنده من حظ النفس...
{عسى} أي لأنه جدير وخليق لهم {أن يكونوا} أي المستهزئ بهم {خيراً منهم} فينقلب الأمر عليهم ويكون لهم سوء العاقبة، قال ابن- مسعود رضي الله عنه: البلاء موكل بالقول ولو- سخرت من كلب خشيت أن- أحول كلباً...
{ولا نساء من نساء} ثم علل النهي بقوله: {عسى} أي ينبغي أن يخفن من {أن يكن} المسخور بهن {خيراً منهن} أي الساخرات...
{ولا تلمزوا} أي تعيبوا على وجه الخفية {أنفسكم} بأن يعيب بعضكم بعضاً بإشارة أو نحوها، فكيف إذا كان على وجه الظهور، فإنكم في التواصل والتراحم كنفس واحدة، أو يعمل الإنسان ما يعاب به، فيكون قد لمز نفسه أو يلمز غيره...
{ولا تنابزوا} أي ينبز بعضكم بعضاً، أي يدعو على وجه التغير والتسفل {بالألقاب} بأن يدعو المرء صاحبه بلقب يسوءه سواء كان هو المخترع له أولاً...
{بئس الاسم الفسوق} أي الخروج من ربقة الدين {بعد الإيمان} ترك الجارّ إيذاناً بأن من وقع في ذلك أوشك أن يلازمه فيستغرق زمانه فيه...
فمن فعل ذلك فقد رضي لنفسه أو يوسم بالفسق بعد أن كان موصوفاً بالإيمان. ولما كان التقدير: فمن تاب فأولئك هم الراشدون، وكان المقام بالتحذير أليق، عطف عليه قوله: {ومن لم يتب} أي يرجع عما نهى الله عنه، فخفف عن نفسه ما كان شدد عليها {فأولئك} أي البعداء من الله {هم} أي خاصة {الظالمون} أي العريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا أيضًا، من حقوق المؤمنين، بعضهم على بعض، أن {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، لا يجوز، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخور به خيرًا من الساخر، كما هو الغالب والواقع، فإن السخرية، لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق، متحل بكل خلق ذميم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم"...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن مجتمع له أدب رفيع، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس. وهي من كرامة المجموع. ولمز أي فرد هو لمز لذات النفس، لأن الجماعة كلها وحدة، كرامتها واحدة. والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب: يا أيها الذين آمنوا. وينهاهم أن يسخر قوم بقوم، أي رجال برجال، فلعلهم خير منهم عند الله، أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان الله. وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة التي يراها الرجال في أنفسهم ويراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية، التي يوزن بها الناس. فهناك قيم أخرى، قد تكون خافية عليهم، يعلمها الله، ويزن بها العباد ....
... (ولا تلمزوا أنفسكم).. واللمز: العيب. ولكن للفظة جرسا وظلا؛ فكأنما هي وخزة حسية لا عيبة معنوية! ومن السخرية واللمز التنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها، ويحسون فيها سخرية وعيبا. ومن حق المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويزري به. ومن أدب المؤمن ألا يؤذي أخاه بمثل هذا. وقد غير رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أسماء وألقابا كانت في الجاهلية لأصحابها، أحس فيها بحسه المرهف، وقلبه الكريم، بما يزري بأصحابها، أو يصفهم بوصف ذميم...
(بئس الاسم: الفسوق بعد الإيمان). فهو شيء يشبه الارتداد عن الإيمان! وتهدد باعتبار هذا ظلما، والظلم أحد التعبيرات عن الشرك: (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون).. وبذلك تضع قواعد الأدب النفسي لذلك المجتمع الفاضل الكريم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما اقتضت الأخوة أن تَحْسُن المعاملة بين الأخوين كان ما تقرر من إيجاب معاملة الإخوة بين المسلمين يقتضي حسن المعاملة بين آحادهم، فجاءت هذه الآيات منبهة على أمور من حسن المعاملة قد تقع الغفلة عن مراعاتها لكثرة تفشّيها في الجاهلية لهذه المناسبة، وهذا نداء رابع أريد بما بَعده أمرُ المسلمين بواجب بعض المجاملة بين أفرادهم.