الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن لَّمۡ يَتُبۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (11)

وقوله سبحانه : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٌ } الآية : هذه الآية والتي بعدها نزلت في خُلُقِ أهل الجاهلية ؛ وذلك أَنَّهم كانوا يجرون مع شهواتِ نفوسهم ، لم يقومهم أمر من اللَّه ولا نهي ، فكان الرجل يسخر ، ويلمز ، وينبز بالألقاب ، ويَظُنُّ الظنونَ ، ويتكلم بها ، ويغتاب ، ويفتخر بنسبه ، إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطَّالة ، فنزلت هذه الآية ؛ تأديباً لهذه الأُمَّةِ ، وروى البخاريُّ ومسلم والترمذيُّ واللفظ له عن أبي هريرة قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ ، لاَ يَخُونُهُ وَلاَ يَكْذِبُهُ ، وَلاَ يَخْذُلُهُ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ : عِرْضُهُ ، وَمَالُهُ ، وَدَمُهُ ، التَّقْوَى هاهنا ، بِحَسْبِ امرئ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ " انتهى . ( ويسخر ) معناه : يستهزئ ، وقد يكون ذلك المُسْتَهْزَأُ به خيراً من الساخر ، والقوم في كلام العرب واقع على الذُّكْرَان ، وهو من أسماء الجَمْع ؛ ومن هذا قول زُهَيْر :

وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ أخَالُ أَدْرِي *** أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ

وهذه الآية أيضاً تقتضي اختصاص القوم بالذكران ، وقد يكون مع الذكران نساء ، فيقال لهم قوم ؛ على تغليب حال الذكر ، و{ تَلْمِزُواْ } معناه : يطعن بعضُكم على بعض بذكر النقائص ونحوه ، وقد يكون اللَّمْزُ بالقول وبالإشارة ونحوه مِمَّا يفهمه آخر ، والهَمْزُ لا يكون إلاَّ باللسان ، وحكى الثعلبيُّ أَنَّ اللمز ما كان في المشهد ، والهَمْزَ ما كان في المغيب ، وحكى الزهراويُّ عكس ذلك .

وقوله تعالى : { أَنفُسَكُمْ } معناه : بعضكم بعضاً ؛ كما قال تعالى : { أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ النساء : 66 ] كأنَّ المؤمنين كنفس واحدة ، إذ هم إخوة ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : " كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشتكى مِنْهُ عُضْوٌ تداعى سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ والحمى " ، وهم كما قال أيضاً : " كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً " ، والتنابز : التَّلَقُّبُ ، والتَّنَبزُ واللقب واحدٌ ، واللقب يعني المذكور في الآية هو : ما يُعْرَفُ به الإنسان من الأسماء التي يَكْرَهُ سماعَهَا ، وليس من هذا قول المُحَدِّثِينَ : سليمان الأعمش ، وواصل الأحدب ونحوه مِمَّا تدعو الضرورة إليه ، وليس فيه قصد استخفاف وأذى ، وقال ابن زيد : معنى : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } أي : لا يَقُلْ أحد لأحد : يا يهوديُّ ، بعد إسلامه ، ولا : يا فاسقُ ، بعد توبته ، ونحو هذا .

وقوله سبحانه : { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } يحتمل معنيين :

أحدهما : بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فُسَّاقاً بالمعصية بعد إيمانكم .

والثاني : بئس قول الرجل لأخيه : يا فاسق بعد إيمانه ؛ وعن حذيفةَ رضي اللَّه عنه قال : " شَكَوْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَرَبَ لِسَانِي ، فَقَالَ : ( أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاِسْتِغْفَارِ ؟ ! إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ ) رواه النسائي واللفظ له ، وابن ماجه ، والحاكم في «المُسْتَدْرَكِ » ، وقال : صحيحٌ على شرط مسلم ، وفي رواية للنسائي : " إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ وَأَتُوبُ إلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ " ، والذَّرَبُ بفتح الذال والراء هو الفُحْشُ ، انتهى من «السلاح » ، ومنه عن ابن عمر : «إنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في المَجْلِسِ الوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ : رَبِّ اغفر لِي ، وَتُبْ عَلَيَّ ، إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمِ » رَوَاه أبو داود ، وهذا لفظه ، والترمذي والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان في «صحيحه » ، وقال الترمذيُّ : حسن صحيح غريب ، انتهى .