فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن لَّمۡ يَتُبۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (11)

{ ياأيُّها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ } السخرية : الاستهزاء . وحكى أبو زيد : سخرت به ، وضحكت به ، وهزأت به . وقال الأخفش : سخرت منه وسخرت به ، وضحكت منه وضحكت به ، وهزأت منه وهزأت به ، كل ذلك يقال ، والاسم السخرية والسخرى ، وقرئ بهما في : { لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [ الزخرف : 32 ] ، ومعنى الآية : النهي للمؤمنين عن أن يستهزئ بعضهم ببعض ، وعلل هذا النهي بقوله : { عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ } أي أن يكون المسخور بهم عند الله خيراً من الساخرين بهم ، ولما كان لفظ قوم مختصاً بالرجال ، لأنهم القوّم على النساء أفرد النساء بالذكر فقال : { وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء } أي ولا يسخر نساء من نساء { عسى أَن يَكُنَّ } المسخور بهن { خَيْراً مّنْهُنَّ } يعني : خيراً من الساخرات منهنّ ، وقيل : أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهنّ أكثر { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } اللمز العيب ، وقد مضى تحقيقه في سورة براءة عند قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } [ التوبة : 58 ] قال ابن جرير : اللمز باليد والعين واللسان والإشارة ، والهمز لا يكون إلاّ باللسان ، ومعنى : { لا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } : لا يلمز بعضكم بعضاً ، كما في قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] وقوله : { فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] . قال مجاهد ، وقتادة وسعيد بن جبير : لا يطعن بعضكم على بعض . وقال الضحاك : لا يلعن بعضكم بعضاً { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } التنابز : التفاعل من النبز بالتسكين وهو المصدر ، والنبز بالتحريك اللقب ، والجمع أنباز ، والألقاب جمع لقب ، وهو اسم غير الذي سمي به الإنسان ، والمراد هنا لقب السوء ، والتنابز بالألقاب أن يلقب بعضهم بعضاً . قال الواحدي : قال المفسرون : هو أن يقول لأخيه المسلم : يا فاسق يا منافق ، أو يقول لمن أسلم : يا يهودي يا نصراني ، قال عطاء : هو كلّ شيء أخرجت به أخاك من الإسلام ، كقولك : يا كلب يا حمار يا خنزير . قال الحسن ومجاهد : كان الرجل يعير بكفره ، فيقال له : يا يهودي يا نصراني فنزلت ، وبه قال قتادة وأبو العالية وعكرمة { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } أي بئس الاسم الذي يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان ، والاسم هنا بمعنى الذكر . قال ابن زيد : أي بئس أن يسمى الرجل كافراً أو زانياً بعد إسلامه وتوبته . وقيل المعنى : أن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبذ فهو فاسق . قال القرطبي : إنه يستثنى من هذا من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له سبب يجد في نفسه منه عليه ، فجوّزته الأئمة واتفق على قوله أهل اللغة ا ه ، { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } عما نهى الله عنه { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } لارتكابهم ما نهى الله عنه وامتناعهم من التوبة ، فظلموا من لقبوه ، وظلمهم أنفسهم بما لزمها من الإثم .

/خ12