فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن لَّمۡ يَتُبۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (11)

{ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم } أي : رجال منكم { من قوم } تنكير القوم للتبعيض ، وأن المعنى على الإفراد ، وإن جاء النظم على الجمع لأن السخرية تقع في المجامع ، قال الكرخي : إنه من نسبة فعل البعض إلى الجميع ، لرضاهم به في الأغلب ولوجوده فيما بينهم ، والسخرية والاستهزاء وحكى أبو زيد : سخرت به وضحكت به وهزأت به ، وقال الأخفش : سخرت به وسخرت منه ، وضحكت به ومنه وهزأت منه وبه كل ذلك يقال : والاسم السخرية والسخري بالكسر وبالضم لغة فيه ، وقرئ بهما في قوله { ليتخذ بعضهم بضعا سخريا } ومعنى الآية النهي للمؤمنين عن أن يستهزئ بعضهم ببعض .

{ عسى أن يكونوا خيرا منهم } علل النهي بأن يكون المسخور بهم عند الله خيرا من الساخرين بهم ، فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال ، أو ذا عاهة في بدنه ؛ أو غير لبق قي محادثته ، فلعله أخلص ضميرا وأتقى قلبا ممن هو على ضد صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى ، قال ابن مسعود : إن البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا ، ولما كان لفظ قوم مختصا بالرجال لأنهم القوام على النساء أرفد النساء بالذكر فقال :

{ ولا } يسخر { نساء من نساء عسى أن يكن } المسخور بهن { خيرا منهن } يعني من الساخرات منهن وقيل أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر ، عن مقاتل قال : نزلت في قوم من بني تميم استهزأوا من فقراء المسلمين كبلال وسلمان وعمار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حنيفة ، وعن أنس نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم عيرن أم سلمة بالقصر ، وعن ابن عباس نزلت في صفية بني حيي ، قال لها بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم : يهودية بنت يهودي .

{ ولا تلمزوا أنفسكم } أي : لا تطعنوا أهل دينكم . واللمز العيب والطعن وقد مضى تحقيقه في سورة براءة عند قوله ومنهم من يلمزك في الصدقات قال ابن جرير : اللمز باليد والعين واللسان والإشارة ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، والمعنى : لا يلمز بعضكم بعضا ، كما في قوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } وقوله { فسلموا على أنفسكم } ، والمؤمنون كنفس واحدة ، فإذا عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه ، وقيل : لا تفعلوا ما تلمزون به ، لأن فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة ، قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ، لا يطعن بعضكم على بعض ، وبه قال ابن عباس ، وقال الضحاك : لا يلعن بعضكم بعضا .

{ ولا تنابزوا بالألقاب } أي لا تدعوا الإنسان بغير ما سمي به والتنابز التفاعل من النبز بالتسكين ، وهو المصدر والنبز بالتحريك اللعب مطلقا ، أي حسنا كان أو قبيحا ، خص في العرف بالقبيح ، والجمع أنباز ، والألقاب جمع لقب ، وهو اسم غير الذي سمي به الإنسان ، والمراد هنا لقب السوء والتنابز بالألقاب أن يلقب بعضهم بعضا ، والتداعي بها قال الواحدي : قال المفسرون : هو أن يقول لأخيه المسلم يا فاسق يا منافق ، أو يقول لمن أسلم يا يهودي يا نصراني ، قال عطاء : هو كل شيء أخرجت به أخاك من الإسلام كقولك يا كلب يا حمار يا خنزير قال الحسن ومجاهد كان الرجل يعير بكفره فيقال له يا يهودي يا نصراني فنزلت ، وبه قال قتادة وأبو العالية وعكرمة .

عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة ، " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دعا واحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله إنه يكرهه ، فنزلت { ولا تنابزوا بالألقاب } " {[1524]} أخرجه البخاري في الأدب ، وأهل السنن الأربعة ، وغيرهم ، وعن ابن عباس ونحوه ، وعنه قال التنابز أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق ، فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله .

وعن ابن مسعود في الآية قال : إذا كان الرجل يهوديا فأسلم فيقول : يا يهودي يا مجوسي ، ويقول للرجل المسلم يا فاسق ، قيل والتلقيب المنهي عنه هو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيرا به ، فأما ما يحبه فلا بأس به ، ومنه الألقاب التي صارت كالأعلام لأصحابها نخو الأخفش والأعمش وما أشبه ذلك قال القرطبي : إنه يستثني من هذا من غلب عليه الاستعمال ، كالأعرج والأحدب ؛ ولم يكن له سبب يجد في نفسه منه عليه فجوزته الأئمة واتفق أهل اللغة على قوله انتهى ، وأما الألقاب التي تكسب حمدا أو مدحا وتكون حقا وصدقا فلا تكره ، كما قيل لأبي بكر عتيق ولعمر الفاروق ولعثمان ذو النورين ولعلي أبو تراب ، ولخالد سيف الدين .

{ بئس الاسم الفسوق } أي بئس الاسم أن يذكر بالفسق ، والاسم هنا ليس المراد به ما يقابل اللقب والكنية ، ولا ما يقابل الفعل والحرف ، بل المراد به الذكر المرتفع لأنه من السمو من قولهم : طار اسمه في الناس بالمكرم أو باللؤم ، وحقيقة ما سما من ذكره وارتفع بين الناس ، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق { بعد } دخولهم في { الإيمان } استقباح للجمع بين الإيمان والفسق الذي يحضره الإيمان ، كما تقول : بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة ، قال ابن زيد : أي لفسق أن يسمي الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته ، وقيل أن من فعل ما نهى عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق .

{ ومن لم يتب } عما نهى الله عنه { فأولئك هم الظالمون } لارتكابهم ما نهى الله عنه ، وامتناعهم من التوبة ، وظلموا من لقبوه ، وظلموا أنفسهم بما لزمهم من الإثم .


[1524]:رواه البخاري.