تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن لَّمۡ يَتُبۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (11)

11

المفردات :

السخرية : الاحتقار وذكر العيوب والنقائص على وجه يضحك منه ، يقال : سخر به ، وسخر منه ، وضحك به ومنه ، وهزئ به ومنه ، والاسم : السخرية ، وقد تكون بالمحاكاة بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالضحك على كلام المسخور منه ، أو على صنعته ، أو على قبح صورته .

قوم : شاع إطلاقه على الرجال دون النساء ، كما قال زهير :

وما أدري ولست إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء

ولا تلمزوا أنفسكم : لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة ، باليد أو العين أو نحوهما .

التنابز : التعاير والمناداة للشخص بما يكرهه من الألقاب .

الاسم : الذكر والصيت ، من قولهم : طار اسمه بين الناس بالكرم أو اللؤم .

التفسير :

11- { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن . . . }

هذه الآية وما بعدها تكاد تكون دائرة معارف إنسانية ، تركز على أهم العيوب التي تشيع بين الناس ، ومنها ما يأتي :

السخرية والاستهزاء بالآخرين ، وهذا تطاول على عباد الله متضمن معنى الأنانية ، كأن الساخر كامل ، والمسخور منه ناقص ، ولتأصّل هذه العادة في الناس تكرر النهي عنها مرتين ، فقال سبحانه :

{ يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم . . . }

أي : لا يسخر ولا يستهزئ رجال من آخرين ، عسى أن يكون المسخور منه أفضل حالا أو أعلى قدرا عند الله من الساخر ، وربما انحط قدر الساخر ، وارتفع شأن المسخور منه ، كما قال بعضهم :

ولا تهن الفقير علك أن *** تركع يوما والدهر قد رفعه

وبالرغم من أن النساء يدخلن في هذا النهي عادة في الخطاب التشريعي ، إلا أن القرآن الكريم أفردهن بالنهي لأهمية الموضوع ، وتأكيده بالنسبة لهن ، قال :

{ لا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن . . . }

ولا تسخر امرأة جميلة من ذميمة ، أو طويلة من قصيرة ، أو بيضاء من سوداء ، أو كاملة الأطراف من ناقصتها ، أو السليم من المريض ، أو الصحيح من المعاق -كالأعمى والأعرج والأبرص والأقرع والكسيح والمريض- فكل هؤلاء ضعفاء في حاجة إلى المساعدة والمعاونة والتشجيع والحنان ، وربما كانت المسخور منها أفضل وأعلى قدرا عند الله من الساخرة .

قال صلى الله عليه وسلم : ( رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس ، لو أقسم على الله لأبره )14 . رواه الحاكم . ( الطمر : الثوب الخلق البالي ) .

ورواه أحمد ، ومسلم بلفظ : ( رب أشعث مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبره )15 .

وإنما خص مجامع الرجال والنساء ، لأن أغلب السخرية تكون في مجامع الناس .

ولكن علة النهي عامة ، فتفيد عموم الحكم لعموم العلة ، فلا يجوز أن يسخر فرد من فرد ، ولا رجل من امرأة ، ولا امرأة من رجل ، فالتمايز عند الله تعالى بالأعمال ، ونظافة القلوب والتقوى ، لا بالمظاهر والثروات ، ولا بالألوان والصور ، ولا بالأعراق والأجناس .

أخرج مسلم ، وابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )16 .

{ و لا تلمزوا أنفسكم . . . }

واللمز هو التنبيه على عيوب الآخرين ، قال تعالى :

{ ويل لكل همزة لمزة } . ( الهمزة : 1 ) .

والعيّاب اللَّماز إنما يعيب نفسه أو يرشد إلى حقارة شأنه ، فمن كان رفيع القدر انشغل بعيوب نفسه عن عيوب أخيه .

ولأن المؤمنين إخوة فمن عاب أخاه فكأنما عاب نفسه ، لذلك قال تعالى :

{ ولا تلمزوا أنفسكم . . . }

أي : لا تعيبوا الآخرين ، ولا تنشغلوا بعيوبهم ونقائصهم ، فإنكم بذلك إنما تعيبون أنفسكم ، وترشدون إلى تدنّي قدركم ، ورحم الله امرأ انشغل بعيوب نفسه عن عيوب أخيه .

والفرق بين السخرية واللمز ، أن السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته ، واللمز هو التنبيه على معايبه باللفظ أو الإشارة .

{ ولا تنابزوا بالألقاب . . . }

ولا يخاطب أحدكم غيره بالألفاظ التي يكرهها ، بأن يقول له : يا أحمق ، أو يا أعرج ، أو يا ابن السوداء ، أي : لا يعير شخص أخاه بما يسوؤه ، سواء أكان هذا اللقب المكروه للشخص ، أم لأمه ، أم لأبيه ، أم لغيرهم . ويستثنى من ذلك أن يشتهر الشخص بلقب لا يسوؤه ، فيجوز إطلاقه عليه ، كالأعمش والأعرج من رواة الحديث ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي أصحابه بأحب الأسماء لديهم .

مثل : عتيق لأبي بكر ، والفاروق لعمر ، وذو النورين لعثمان ، وأبو تراب لعلي17 ، وسيف الله لخالد ، وأمين الأمة لأبي عبيدة .

{ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان . . . }

بئس الذكر والشهرة لإنسان بالفسوق والخروج عن أمر الله ، بعد دخوله في الإيمان ، فمن تعود على السخرية أو اللمز ، أو النقص للآخرين يصبح فاسقا بعد إيمانه ، وبئس هذا التحول .

من تفسير الطبري

قال الطبري : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان . . . }

يقول تعالى : ومن فعل ما نهينا عنه ، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه ، فسخر من المؤمنين ، ولمز أخاه المؤمن ، ونبزه بالألقاب ، فهو فاسق ، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ، يقول : فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقا بعد أن وصفتم بصفة الإيمان . . .

وقال الفخر الرازي في تفسيره :

قوله تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان . . . }

من تمام الزجر ، كأنه تعالى يقول :

{ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم }{ ولا تلمزوا أنفسكم{ - { ولا تنابزوا } ، فإن من يفعل ذلك يفسق بعد إيمانه ، والمؤمن يقبح منه أن يأتي بعد إيمانه بفسوق ، ويصير التقدير : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان . . . }

وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان . . . } بئس أن يسمى الرجل كافرا أو فاسقا بعد إسلامه وتوبته ، أي : لا يجوز أن تقول للمسلم : يا فاسق ، بعد أن هداه الله للإسلام ، أو بعد أن تاب إلى الله .

{ ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } .

ومن لم يرجع عن الانشغال بعيوب الناس ، والتنقيب عن خطاياهم ، وعيبهم ولمزهم واتهامهم ، لقد ظلم نفسه وظلم إخوانه ، والله لا يحب الظالمين .