التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن لَّمۡ يَتُبۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (11)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } .

ذلك نهي من الله شديد عن السخرية من الناس . فأيما استهزاء أو استسخار من أحد أو جماعة أو طائفة ، حرام مهما كان السبب لدى الساخر المستهزئ كما لو سخر من غيره لكونه قصيرا أو فقيرا أو دميما أو صعلوكا ذليلا أو أسود اللون أو عييا

لا يحسن الخطاب أو غير ذلك من الأسباب والصفات ، فلا يسخر أحد من أحد لشيء مما ذكر إلا طوّقه الإثم وأحاطت به الخطيئة وباء بالذنب الكبير ووقع فيما نهى الله عنه ، وهو قوله : { لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن } ربما كان المستهزأ به خيرا من الساخر المستهزئ عند الله فيكون أفضل منه بطيب نيته وحسن سريرته وتقواه . وفي ذلك روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " .

وفي التنديد الشديد بالسخرية من عباد الله ، وتغليظ النكير عليها ، روى الترمذي عن عائشة قالت : حكيت للنبي صلى الله عليه وسلم رجلا{[4294]} ، فقال : " ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا كذا " فقلت : يا رسول الله إن صفية امرأة – وقالت بيدها- هكذا ، يعني أنها قصيرة . فقال : " لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج " .

قوله : { ولا تلمزوا أنفسكم } تلمزوا من اللمز ، وهو الإشارة بالعين ونحوها كالرأس والشفة مع كلام خفي . واللّمزة : العيّاب للناس{[4295]} .

والمراد : لا يطعن بعضكم بعض . أو لا يعب بعضكم بعضا بيد أو لسان أو عين أو إشارة ، فكل ذلك إهانة للمسلم واستخفاف به وتحقير له ، وذلك كله حرام . وقوله : { أنفسكم } كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } أي لا يقتل بعضكم بعضا ، لأن المسلمين جميعا كنفس واحدة ، فكأن قاتل أخيه المسلم قاتل لنفسه . وكذلك الذي يلمز أخاه المسلم بعيب أو طعن أو إهانة وتحقير فكأنما لمز نفسه .

قوله : { ولاتنابزوا بالألقاب } أي لا تعايروا ولا تداعوا بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها{[4296]} . وقد روى الإمام أحمد عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة { ولا تنابزوا بالألقاب } قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا فنزلت الآية { ولا تنابزوا بالألقاب } وقيل : كان الرجل يعيّر بعد إسلامه بكفره : يا يهودي ، يا نصراني . فنزلت . وقيل : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق ، يا منافق . والصواب عموم النهي عن التنابز بالألقاب على اختلاف صوره ومعاينه . وحقيقته دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة . فلا يجوز لمسلم أن يعيّر أخاه أو يناديه باسم يكرهه أو بصفة يغتاظ بها .

قوله : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } يعني بئس أن يسمي الرجل الرجل باسم يكرهه . كما لو نعته بالكفر بعد أن أسلم ، أو نعته بالزنا بعد أن تاب أو نحو ذلك من وجوه التنابز بعد الدخول في الإسلام فمن فعل ما نهى الله عنه من النبز بسوء الأسماء فقد تلبس بالفسق ، أي من سخر من أخيه فلقبه بما يغيظه من الأسماء والأوصاف فهو فاسق . وفي الحديث الصحيح : " من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه " وروي أن أبا ذر ( رضي الله عنه ) كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فنازعه رجل فقال له أبو ذر : يا ابن اليهودية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما ترى ههنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه " يعني بالتقوى . وفي الحديث : " من عيّر مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة " .

قوله : { ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } يعني من لم يتب من تعيير أخيه بما يكرهه من الأسماء والألقاب ، ونبزه إياه بما يسيئه من الأوصاف مما نهى الله عنه فأولئك قد ظلموا أنفسهم بما اكتسبوه من الإثم ليبوءوا بالعقاب{[4297]} .


[4294]:حكيت الشيء أحكيه، إذا أتيت بمثله، على الصفة التي أتى بها غيرك. انظر المصباح المنير جـ 1 ص 158.
[4295]:المعجم الوسيط جـ 2 ص 838 والمصباح المنير جـ 2 ص 221.
[4296]:المعجم الوسيط جـ 2 ص 897.
[4297]:تفسير ابن كثير جـ 4 ص 212 وتفسير القرطبي جـ 16 ص 324- 330.