السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن لَّمۡ يَتُبۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (11)

واختلف في سبب نزول قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي : أوقعوا الإقرار بالتصديق { لا يسخر } أي : لا يهزأ والسخرية : هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته { قوم } أي : ناس فيهم قوة المحاولة وهم الرجال وفي التعبير بذلك تنبيه على قيام الإنسان على نفسه وكفها عما تريده من النقائص منكراً لما أعطاه الله تعالى من القوّة { من قوم } أي : من رجال ، فإنّ ذلك يوجب الشرّ لأنّ أضعف الناس إذا استهزئ به قوي لما يثور عنده من حظ النفس .

فقال ابن عباس : «نزلت في ثابت بن قيس كان في أذنه وقر أي ثقل فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم فضنّ أي بخل كل رجل منهم بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلساً قام قائماً فلما فرغ ثابت من صلاته أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطى رقاب الناس ويقول تفسحوا تفسحوا فجعلوا يتفسحون حتى انتهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له : تفسح فقال الرجل : قد أصبت مجلساً فاجلس . فجلس ثابت خلفه مغضباً فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل فقال : من هذا . فقال له : أنا فلان فقال له ثابت : ابن فلانة ذكر أمّاً له كان يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه فاستحيا فأنزل الله تعالى هذه الآية » .

وقال الضحاك نزلت في وفد تميم كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل عمار وخبيب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوا من رثاثة حالهم . ومعنى الآية : لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم ثم علل النهي بقوله تعالى : { عسى } أي : لأنه جدير وخليق لهم { أن يكونوا } أي : المستهزأ بهم { خيراً منهم } فينقلب الأمر عليهم وتكون لهم سوء العاقبة . قال ابن مسعود : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب خشيت أن أحوّل كلباً وقال القشيري : ما استصغر أحد أحداً إلا سلط عليه ولا ينبغي أن يغتر بظاهر أحوال الناس ، فإنّ في الزوايا خبايا . والحق سبحانه يستر أولياءه في حجاب الظنة وكذا في الخبر " كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره " .

{ ولا } يسخر { نساء من نساء } ثم علل النهي بقوله تعالى : { عسى } أي : ينبغي أن يخفن من { أن يكن } أي : المسخور بهنّ { خيراً منهنّ } أي الساخرات . روي أنها نزلت في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم عيرن أمّ سلمة بالقصر . وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب قال لها النساء يهودية بنت يهوديين .

تنبيهان : أحدهما : قال الرازي : القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم . والقائم بالأمور هم الرجال وعلى هذا ففي أفراد الرجال والنساء . فائدة : وهي أنّ عدم الالتفات والاستحقار أن يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال لأنّ المرأة في نفسها ضعيفة ، قال صلى الله عليه وسلم «النساء لحم على وضم » فالمرأة لا يوجد منها استحقار لرجل لأنها مضطرّة إليه في رفع حوائجها ، وأمّا الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فإنه يوجد فيهنّ ذلك .

الثاني : في حكمه قوله تعالى : { عسى أن يكونوا خيراً منهم } هي أنهم إذا وجدوا منهم التكبر المقتضى إلى إحباط العمل جعل نفسه خيراً منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم ، وقال : أنا خير منه فصار هو خيراً منه . ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى { يكونوا } أي يصيروا فإنّ من استحقر إنساناً لفقره أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويقوى الضعيف { ولا تلمزوا } أي تعيبوا على وجه الظهور الخفية { أنفسكم } بأن يعيب بعضكم بعضاً بإشارة أو نحوها فكيف إذا كان على وجه فإنّكم في التواصل والتراحم كنفس واحدة أو يعمل الإنسان ما يعاب به فيكون الإنسان قد لمز نفسه أو يلمز غيره فيكون لمزه له سبباً لأن يبحث عن عيوبه فيلمزه فيكون هو الذي لمز نفسه { ولا تنابزوا بالألقاب } أي : ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء فإنّ النبز يختص بلقب السوء . واختلف في هذا اللقب فقال عكرمة هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق يا كافر . وقال الحسن : كان اليهوديّ والنصرانيّ يسلم فيقال له بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك . وقال عطاء : هو أن يقول الرجل لأخيه يا حمار يا خنزير

وعن ابن عباس : التنابز بالألقاب : هو أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله والحاصل أنه يحرم تلقيب الشخص بما يكره وإن كان فيه كالأعور والأعمش ويجوز ذكره بنية التعريف لمن لا يعرفه إلا به وأمّا ألقاب المدح فنعما هي فقد لقب الصديق بعتيق ، وعمر بالفاروق ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بن الوليد بسيف الله ، ومازالت الألقاب الحسنة في الجاهلية والإسلام .

قال الزمخشري : إلا ما أحدثه الناس في زماننا من التوسع حتى لقبوا السفلة بالألقاب العلية وهب أنّ العذر مبسوط فما أقول لمن ليس من الدين في قبيل ولا دبير بفلان الدين لعمري والله إنها الغصة التي لا تساغ . ومعنى اللقب : اسم زائد على الاسم يشعر بضعة المسمى أو رفعته والمقصود به الشهرة فما كان مكروهاً نهى عنه ، ويسنّ أن يكنى أهل الفضل الرجال والنساء وإن لم يكن لهم ولد وأمّا التكني بأبي القاسم فهو حرام .

وقيل : إنما يحرم في زمانه صلى الله عليه وسلم فقط وقيل : إنما يحرم على من اسمه محمد ولا يكنى كافر ولا فاسق ولا مبتدع لأنّ الكنية للتكرمة وليسوا من أهلها بل أمرنا بالإغلاظ عليهم إلا لخوف فتنة من ذكره باسمه أو تعريفه كما قيل به في قوله تعالى : { تبت يد أبي لهب } [ المسد : 1 ] واسمه عبد العزى ولا بأس بكنية الصغير . ويسنّ أن يكنى من له أولاد بأكبر أولاده ويسنّ لولد الشخص وتلميذه وغلامه أن لا يسميه باسمه والأدب أن لا يكني الشخص نفسه في كتاب أو غيره إلا إن كان لا يعرف بغيرها أو كانت أشهر من الاسم .

تنبيه : ذكر في الآية ثلاثة أمور مرتبة بعضها دون بعض كما علم من تقريرها { بئس الاسم } أي المذكور من السخرية واللمز والتنابز . وقوله تعالى : { الفسوق } أي : الخروج من ربقة الدين { بعد الإيمان } بدل من الاسم لإفادة أنه فسق لتكرّره عادة . وروي أنّ الآية " نزلت في صفية بنت حيي أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال : هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم " { ومن لم يتب } أي : يرجع عما نهى الله عنه فخفف على نفسه ما كان شدّد عليها { فأولئك } أي : البعداء من الله تعالى { هم الظالمون } أي الغريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها . وأدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء . واختلف عن خلاد والباقون بالإظهار .