تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن لَّمۡ يَتُبۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (11)

الآية 11 وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } ظاهر الآية نهي للجماعة عن سخرية جماعة ، لأن السخرية إنما تقع ، وتكون في الأغلب بين قوم وقوم ، وقلَّ ما تقع بين الأفراد والآحاد . فعلى ذلك جرى النهي . ولكن يكون ذلك النهي للجماعة والأفراد والآحاد جميعا ، والله أعلم .

ثم تحتمل السخرية المذكورة في الآية وجهين :

أحدهما : في الأفعال ؛ يقول : { لا يسخر قوم من قوم } في الأفعال { عسى أن يكونوا خيرا منهم } في النية في تلك الأفعال ، أو { خيرا منهم } أي أفعالهم أخلص عند الله من أفعال أولئك أو أقرب إلى القبول .

والثاني : السخرية{[19668]} في الخِلقة ، وذلك راجع إلى مُنشئها لا إليهم ، وهم قد رضوا بالخلقة التي أُنشئوا عليها ، وعسى أن [ يكونوا هم ]{[19669]} في تلك الأحوال والأفعال التي هم عليها اليوم .

والثاني : عسى أن يكونوا هم عند الله خيرا منهم في الحال كقوله عز وجل : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] أخبر أن الأكرم منهم عند الله تعالى ، هو أتقاهم ، لا ما افتخروا بما هو أسباب الفخار عندهم ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهن } ذكر سخرية نساء من نساء لأن النساء ليس لهن اختلاط مع الرجال حتى تجري السخرية بينهم ، وإنما الاختلاط في الغالب بين [ أفراد ]{[19670]} الجنس يكون . فعلى ذلك جرى النهي [ عن السخرية ]{[19671]} ، والله أعلم .

ويحتمل أنه خص هؤلاء بهؤلاء كما خصّ القصاص في قوله : { كُتب عليكم القِصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد } الآية [ البقرة : 178 ] ثم جمع بين الأحرار والعبيد والذكور والإناث بالمعنى الذي جمعهم فيه ، وهو ما ذكر { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] أبان عن المعنى الذي به وجب القصاص في ما بينهم ، فاشتركوا جميعا في ذلك : الأحرار والعبيد والذكور والإناث . فعلى ذلك ذكر المعنى الذي به نهاهم عن السخرية ، وهو ما ذكر { عسى أن يكونوا خيرا منهم } فذلك المعنى يجمع سُخرية الرجال من النساء وسخرية النساء من الرجال ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولا تلمِزوا أنفسكم } واللّمز هو الطّعن . ثم منهم من يقول : هو الطعن باللسان ، ومنهم من يقول : بالشِّدق والشّفة ، ومنهم من يقول بالعين . وحاصله هو الطعن فيه .

وقال القتبيّ : اللّمز ، هو العيب ، أي لا تعيبوا ، وقال أبو عوسجة : هو شبه العيب .

ثم قوله تعالى : { أنفسكم } يحتمل وجهين :

أحدهما : { ولا تلمزوا أنفسكم } أي تذكروا مساوئ أنفسكم .

[ والثاني : ]{[19672]} فيه الأمر بالسّتر على أنفسهم ، وألا يهتكوا سترهم ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولا تنابَزُوا بالألقاب } أي لا تدعوا بالألقاب ، والنّبز اللقب ؛ يقال : نبزت فلانا ، أي لقّبته . وفي الحديث : ( قوم نبزهم الرافضة ) أي لقبُهم . ولو قال : { ولا تنابزوا } لكان كافيا ، لكن{[19673]} كأنه قال : ولا تُظهروا ألقابهم فيسوءهم ما أظهرتم من اللّقب ، والله أعلم .

ثم قال بعض أهل التأويل : إنما نُهوا عن ذلك لأنهم [ كانوا ]{[19674]} يسمّونهم بعد إسلامهم بالأفعال التي كانوا يفعلون في حال جاهليتهم من الكفر والفسوق ، ويُلقّبونهم بذلك ، ويقولون : يا كافر ، يا فاسق ، ونحو ذلك دلّ على ذلك قوله تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } .

وجائز [ أنهم كانوا يُلقَّبون ]{[19675]} بذلك وبغيره من الألقاب ، فنُهوا أن يسمّونهم بغير أسماءهم التي كانت لهم ، وأن يُعرِّفوا بأسمائهم التي لهم ، ونُهوا عن التعريف بالألقاب وتغيّر الأسباب والأسماء التي لهم إذا كان التعريف بذلك يسوؤهم ، ويغيظُهم ، والله أعلم .

ثم قال الله تعالى : { ومن لم يتُب فأولئك هم الظالمون } أي واضعون الشيء في غير موضعه{[19676]} ، والله أعلم .

ثم قوله تعالى : { بئس الاسم الفُسوق بعد الإيمان } يحتمل وجهين :

أحدهما : ما ذكرنا أي بئس النسبة إلى الفسق التي كانت ، والتسمية بها بعد الإيمان إلى الاسم والفعل الذي كان له ومنه قبل الإيمان ، كأنه قال : لا تسمّوهم بتلك بعد الإيمان ، والله أعلم .

والثاني : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } أي بئس{[19677]} ما اختاروا من اسم الفسق بعد ما كان اختار الله اسم الإيمان وفِعله . فهذا يرجع إلى اختيار الفسق بعد الإيمان ، والله أعلم .


[19668]:في الأصل وم: سخرية.
[19669]:من م، في الأصل: يكون لهم.
[19670]:ساقطة من الأصل م.
[19671]:في الأصل وم: بالسخرية.
[19672]:في الأصل وم: و.
[19673]:في الأصل م: لكنا.
[19674]:ساقطة من الأصل وم.
[19675]:في الأصل وم: أن يلقّبوا.
[19676]:في الأصل وم: موضع.
[19677]:في الأصل وم: تبين.