معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (40)

/خ40

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو عمر بكر بن محمد المزني ، أنا أبو بكر محمد بن عبد الله الحفيد ، أنا الحسين بن الفضل البجلي ، أنا عفان ، أنا همام ، أنا قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله لا يظلم مؤمنا حسنةً ، يعطى بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة ) .

قال : وأما الكفار فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أبو الطيب الربيع بن محمد بن أحمد بن حاتم البزار الطوسي ، أنا أحمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن يحيى حدثهم ، أخبرنا عبد الرزاق( ح ) وأخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن يزيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا ، فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار ) . قال : يقولون ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ، ويصومون معنا ، ويحجون معنا ، فأدخلتهم النار ، قال : فيقول الله لهم : اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم ، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم ، لا تأكل النار صورهم ، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ، ومنهم من أخذته إلى كعبيه فيخرجونهم ، فيقولون : ربنا قد أخرجنا من أمرتنا ، قال : ثم يقول : أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان ، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار ، حتى يقول : من كان في قلبه مثقال ذرة من خير ، قال أبو سعيد رضي الله عنه : من لم يصدق هذا فليقرأ هذه الآية : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } قال : فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق في النار أحد فيه خير ، ثم يقول الله عز وجل : شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ، وبقي أرحم الراحمين ، قال : فيقبض قبضة من النار ، -أو قال : قبضتين من النار- فيخرج منها قوما لم يعملوا لله خيراً قط قد احترقوا حتى صاروا حمماً ، فيؤتى بهم إلى ماء الحياة فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، قال : فتخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ ، في أعناقهم الخاتم مكتوب فيه : هؤلاء عتقاء الله ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة ، فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم ، قال : فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين ؟ قال : فيقول فإن عندي لكم أفضل منه ، فيقولون : ربنا وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : رضاي عنكم ، فلا أسخط عليكم أبداً .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله بن الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن ليث بن سعد حدثني عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن المعافري ثم الجيلي قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعةً وتسعين سجلاً ، كل سجل مثل مد البصر ، ثم يقول الله : أتنكر من هذا شيئاً ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب ، فيقول : ألك عذر أو حسنة ؟ فبهت الرجل ، قال : لا يا رب ، فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة ، وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فيقول : احضر وزنك ، فيقول : يا رب ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، قال : فلا يثقل مع اسم الله شيء .

وقال قوم : هذا في الخصوم . وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد : ألا من كان يطلب مظلمة فليجئ إلى حقه فليأخذه ، فيفرح المرء أن يذوب له الحق على والده ، أو ولده ، أو زوجته ، أو أخيه ، فيأخذ منه وإن كان صغيرا .

ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } ، ويؤتى بالعبد فينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين : هذا فلان بن فلان فمن كان له عليه حق فليأت إلى حقه فيأخذه ، ويقال : آت هؤلاء حقوقهم ، فيقول : يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول الله عز وجل لملائكته : انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها ، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة : ربنا بقى له مثقال ذرة من حسنة ، فيقول : ضعفوها لعبدي وادخلوه بفضل رحمتي الجنة . ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنةً يضاعفها } .

وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة : إلهنا فنيت حسناته ، وبقي طالبون ، فيقول الله عز وجل : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صكوا له صكاً في النار .

فمعنى الآية على هذا التأويل ، إن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم بل يأخذ له منه ، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له ، بل يثيبه عليها ويضعفها له ، قوله تعالى : { وإن تك حسنةً يضاعفها } ، قرأ أهل الحجاز{ حسنة } بالرفع ، أي : وإن توجد حسنة ، وقرأ الآخرون بالنصب على معنى : وإن تك زنة الذرة حسنةً يضاعفها ، أي : يجعلها أضعافاً كثيرة .

قوله تعالى : { ويؤت من لدنه أجرا عظيما } . قال أبو هريرة رضي الله عنه : إذا قال الله تعالى ( أجراً عظيماً ) فمن يقدر قدره ؟

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (40)

24

والله عليم بهم بما أنفقوا وبما استقر في قلوبهم من بواعث . والله لا يظلم مثقال ذرة فلا خشية من الجهل بإيمانهم وإنفاقهم . ولا خوف من الظلم في جزائهم . . بل هناك الفضل والزيادة ، بمضاعفة الحسنات ، والزيادة من فضل الله بلا حساب ؟

إن طريق الإيمان أضمن وأكسب - على كل حال وعلى كل احتمال - وحتى بحساب الربح المادي والخسارة المادية ، فإن الإيمان - في هذه الصورة - يبدو هو الأضمن وهو الأربح ! فماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ، وأنفقوا مما رزقهم الله ؟ إنهم لا ينفقون من شيء خلقوه لأنفسهم خلقا ؛ إنما هو رزق الله لهم . ومع ذلك يضاعف لهم الحسنة ؛ ويزيدهم من فضله ، وهم من رزقه ينفقون ويعطون ! فياله من كرم ! وياله من فيض ! ويالها من صفقة لا يقعد عنها إلا جاهل خسران !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (40)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الاَخر ، وأنفقوا مما رزقهم الله ، فإن الله لا يبخس أحدا من خلقه أنفق في سبيله مما رزقه من ثواب نفقته في الدنيا ولا من أجرها يوم القيامة { مِثْقَالَ ذَرّةٍ } أي ما يزنها ويكون على قدر ثقلها في الوزن ، ولكنه يجازيه به ، ويثيبه عليه . كما :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة أنه تلا : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها } قال : لأن تفضل حسناتي ما يزن ذرّة أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان بعض أهل العلم يقول : لأن تفضل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذرّة أحبّ إليّ من أن تكون لي الدنيا جميعا .

وأما الذرّة ، فإنه ذكر عن ابن عباس أنه قال فيها ، كما :

حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { مِثْقالَ ذَرّةٍ } قال : رأس نملة حمراء .

قال لي إسحاق بن وهب : قال يزيد بن هارون : زعموا أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن . وبنحو الذي قلنا في ذلك صحت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً ، يُثابُ عَلَيْها الرّزْقَ فِي الدّنْيا وُيجْزَى بها فِي الاَخِرَةِ¹ وأمّا الكافِرُ فَيُطْعَمُ بها فِي الدّنْيا ، فإذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ لَمْ تَكُنْ لَه حَسَنَةً » .

حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا هشام بن سعد ، قال : أخبرنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : «وَالّذِي نَفْسي بِيَدِهِ ما أحَدُكُمْ بِأشَدّ مُناشَدَةً فِي الحَقّ يَرَاه مُصيبا لَه ، مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي إخْوَانِهِمْ إذَا رأوْا أنْ قَدْ خَلَصُوا مِنَ النّار يَقُولُونَ : أيْ رَبّنا إخْوَانُنا كانُوا يُصَلّونَ مَعَنا وَيَصُومُونَ مَعَنا وَيحُجّونَ مَعَنا ويُجاهِدُونَ مَعَنا ، قَدْ أخَذَتْهُمُ النّارُ ! فَيَقُولُ اللّهُ لَهُمْ : اذْهَبُوا فَمَنْ عَرَفْتُمْ صورَتَه فأخْرِجُوه ! ويحَرّمُ صورَتهُمْ على النّارِ ، فَيَجِدونَ الرّجُلَ قَدْ أخَذَتْه النّارُ إلى أنْصَاف ساقَيْهِ وإلى رُكْبَتَيْهِ وإلى حَقْوَيْهِ ، فَيُخْرِجُونَ مِنْها بَشَرا كَثِيرا ، ثُمّ يَعُودُونَ فَيَتَكَلّمُونَ ، فَيَقُولُ : اذْهَبُوا لِمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقالَ قِيرَاطِ خَيْرٍ فأخْرِجُوهُ ! فَيُخْرِجُونَ مِنْها بَشَرا كَثِيرا ، ثُمّ يَعُودُونَ فَيَتَكَلّمُونَ ، فَلا يَزَالُ يَقولُ لَهُمْ ذَلِكَ حتى يَقُولَ : اذْهَبُوا ، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقالَ ذَرّةٍ فأخْرِجُوهُ ! » فكان أبو سعيد إذا حدّث بهذا الحديث ، قال : إن لم تصدّقوا فاقرءوا : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عظيما } فيقولون : «رَبّنا لم نَذَرْ فيها خَيْرا » .

وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثني أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث عن خالد بن يزيد ، عن ابن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدريّ ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .

وقال آخرون في ذلك . بما :

حدثني به المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا صدقة بن أبي سهل ، قال : حدثنا أبو عمرو ، عن زاذان ، قال : أتيت ابن مسعود ، فقال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والاَخرين ، ثم نادى مناد من عند الله : «ألا من كان يطلب مظلمة ، فليجىءْ إلى حقه فليأخذه ! » قال : فيفرح والله الصبيّ أن يذوب له الحقّ على والده أو ولده أو زوجته ، فيأخذه منه وإن كان صغيرا . ومصداق ذلك في كتاب الله تبارك وتعالى : { فإذَا نُفِخَ فِي الصّورِ فَلا أنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ } فيقال له : «آت هؤلاء حقوقهم » أي أعطهم حقوقهم . فيقول : أي ربّ من أين وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول الله لملائكته : أي ملائكتي انظروا في أعماله الصالحة ، وأعطوهم منها ! فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك منها : يا ربنا أعطيْنا كلّ ذي حقّ حقه ، وبقي له مثقال ذرّة من حسنة . فيقول للملائكة : ضعّفوها لعبدي ، وأدخلوه بفضل رحمتى الجنة ! ومصداق ذلك في كتاب الله : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } : أي الجنة يعطيها . وإن فنيت حسناته وبقيت سيئاته ، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك : إلهنا فنيت حسناته وبقي سيئاته ، وبقي طالبون كثير ! فيقول الله : ضعوا عليها من أوزارهم واكتبوا له كتابا إلى النار ! قال صدقة : «أو صكّا إلى جهنم » ، شكّ صدقة أيتهما قال .

وحُدثت عن محمد بن عبيد ، عن هارون بن عنترة ، عن عبد الله بن السائب ، قال : سمعت زاذان يقول : قال عبد الله بن مسعود : يأخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة ، فينادي منادٍ على رؤوس الأوّلين والاَخرين : هذا فلان ابن فلان ، من كان له حقّ فليأت إلى حقه ! فتفرح المرأة أن يذوب لها الحقّ على أبيها ، أو على ابنها ، أو على أخيها ، أو على زوجها ، ثم قرأ ابن مسعود : { فَلا أنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ } فيغفر الله تبارك وتعالى من حقه ما شاء ، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا ، فينصب للناس فيقول : آتوا إلى الناس حقوقهم ! فيقول : ربّ فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم ؟ فيقول : خذوا من أعماله الصالحة ، فأعطوا كل ذي حقّ حقه بقدر مظلمته ، فإن كان وليا لله ، ففضل له مثقال ذرّة ضاعفها له حتى يدخله بها الجنة ! ثم قرأ علينا : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ } وإن كان عبدا شقيا قال الملك : ربّ فنيت حسناته ، وبقي طالبون كثير . فيقول : خذوا من سيئاتهم ، فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صُكّوا له صَكّا إلى النار .

قال أبو جعفر : فتأويل الاَية على تأويل عبد الله هذا : إن الله لا يظلم عبدا وجب له مثقال ذرّة قِبَل عبد له آخر في معاده ويوم لقائه فما فوقه فيتركه عليه فلا يأخذه للمظلوم من ظالمه ، ولكنه يأخذه منه له ، ويأخذ من كل ظالم لكل مظلوم تَبِعَتَهُ قِبَلَهُ . { وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها } يقول : وإن توجد له حسنة يضاعفها ، بمعنى : يضاعف له ثوابها وأجرها . { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } يقول : ويعطه من عنده أجرا عظيما . والأجر العظيم : الجنة على ما قاله عبد الله .

ولكلا التأويلين وجه مفهوم ، أعنى التأويل الذي قاله ابن مسعود والذي قاله قتادة . وإنما اخترنا التأويل الأوّل لموافقته الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دلالة ظاهر التنزيل على صحته ، إذ كان في سياق الاَية التي قبلها ، التي حثّ الله فيها على النفقة في طاعته ، وذمّ النفقة في طاعة الشيطان ، ثم وصل ذلك بما وعد المنافقين في طاعته بقوله : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } .

واختلفت القراء في قراءة قوله : { وَإنْ تَكُ حَسَنَةً } . فقرأت ذلك عامة قرّاء العراق : { وَإنْ تَكُ حَسَنَةً } بنصب الحسنة ، بمعنى : وإن تك زنة الذرّة حسنة يضاعفها . وقرأ ذلك عامة قراء المدينة : «وَإنْ تَكُ حَسَنَةٌ » برفع الحسنة ، بمعنى : وإن توجد حسنة على ما ذكرت عن عبد الله بن مسعود من تأويل ذلك . وأما قوله : { يُضَاعِفْها } فإنه جاء بالألف ، ولم يقل : «يضعفها » ، لأنه أريد به في قول بعض أهل العربية : يضاعفها أضعافا كثيرة¹ ولو أريد به في قوله يضعف ذلك ضعفين لقيل : «يضعّفها » بالتشديد .

ثم اختلف أهل التأويل في الذين وعدهم الله بهذه الاَية ما وعدهم فيها ، فقال بعضهم : هم جميع أهل الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم . واعتلوا في ذلك بما :

حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن مبارك بن فضالة ، عن عليّ بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، قال : لقيت أبا هريرة فقلت له : إنه بلغني أنك تقول : إن الحسنة لتضاعف ألف ألف حسنة ! قال : وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد سمعته يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ اللّهَ لَيُضَاعِفُ الحَسَنَةَ ألْفَيْ ألْفِ حَسَنَةَ » .

وقال آخرون : بل ذلك المهاجرون خاصة دون أهل البوادي والأعراب . واعتلوا في ذلك بما :

حدثني محمد بن هارون أبو نشيط ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي ، عن عبد الله بن عمر ، قال : نزلت هذه الاَية في الأعراب : { مَنْ جاءَ بالحسَنةِ فَلهُ عَشْرُ أمْثالِهَا } قال : فقال رجل : فما للمهاجرين ؟ قال : «ما هُوَ أعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } وإذَا قال الله لشيءٍ عَظِيمٌ فهَوُ عَظِيم » .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : عنى بهذه الاَية المهاجرين دون الأعراب . وذلك أنه غير جائز أن يكون في أخبار الله أو أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء يدفع بعضه بعضا ، فإذا كان صحيحا وعد الله من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة من الجزاء عشر أمثالها ، ومن جاء بالحسنة منهم أن يضاعفها له ، وكان الخبران اللذان ذكرناهما عنه صلى الله عليه وسلم صحيحين ، كان غير جائز إلا أن يكون أحدهما مجملاً والاَخر مفسرا ، إذ كانت أخباره صلى الله عليه وسلم يصدّق بعضها بعضا . وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن خبر أبي هريرة معناه : إن الحسنة لتضاعف للمهاجرين من أهل الإيمان ألفي ألف حسنة ، وللأعراب منهم عشر أمثالها ، على ما رَوَى ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم¹ وأن قوله : { مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا } يعني : من جاء بالحسنة من أعراب المؤمنين فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالحسنة من مهاجريهم يضاعف له ، ويؤته الله من لدنه أجرا ، يعني : يعطه من عنده أجرا عظيما ، يعني : عوضا من حسنته عظيما . وذلك العوض العظيم : الجنة¹ كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا صدقة بن أبي سهل ، قال : حدثنا أبو عمرو ، عن زاذان ، عن ابن مسعود : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } : أي الجنة يعطها .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عباد بن أبي صالح ، عن سعيد بن جبير ، قوله : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } قال : الأجر العظيم : الجنة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } قال : أجرا عظيما : الجنة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (40)

{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة } لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أصغر شيء كالذرة ، وهي النملة الصغيرة . ويقال لكل جزء من أجزاء الهباء ، والمثقال مفعال من الثقل ، وفي ذكره إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه . { وإن تك حسنة } وإن يكن مثقال الذرة حسنة وأنت الضمير لتأنيث الخبر ، أو لإضافة المثقال إلى مؤنث . وحذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلة . وقرأ بن كثير ونافع { حسنة } بالرفع على كان التامة . { يضاعفها } يضاعف ثوابها وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعفها وكلاهما بمعنى . { ويؤت من لدنه } ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل زائدا على ما وعد في مقابلة العمل { أجرا عظيما } عطاء جزيلا وإنما سماه أجرا لأنه تابع للأجر مزيد عليه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (40)

استئناف بعد أن وصف حالهم ، وأقام الحجّة عليهم ، وأراهم تفريطهم مع سهولة أخذهم بالحيطة لأنفسهم لو شاءوا ، بيّن أنّ الله منزّه عن الظلم القليل ، بله الظلم الشديد ، فالكلام تعريض بوعيد محذوف هو من جنس العقاب ، وأنّه في حقّهم عدل ، لأنّهم استحقّوه بكفرهم ، وقد دلّت على ذلك المقدّر أيضاً مقابلته بقوله : { وإن تك حسنة } ولمّا كان المنفي الظلم ، على أنّ ( مثقال ذرّة ) تقدير لأقلّ ظلم ، فدلّ على أنّ المراد أنّ الله لا يؤاخذ المسيء بأكثر من جزاء سيّئته .

وانتصب { مثقال ذرة } بالنيابة عن المفعول المطلق ، أي لا يظلم ظُلما مقدّراً بمثقال ذرّة ، والمثقال ما يظهر به الثِّقَل ، فلذلك صيغَ على وزن اسم الآلة ، والمراد به المقدار .

والذَّرة تطلق على بيضة النمْلة ، وعلى ما يتطاير من التراب عند النفخ ، وهذا أحقر ما يقدُر به ، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى . وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر { حسنة } بالرفع على أنّ ( تك ) مضارع كان التامّة ، أي إن تُوجَدْ حسنةٌ . وقرأه الجمهور بنصب { حسنة } على الخبرية ل { تَكُ } على اعتبار كان ناقصة ، واسم كان المُسْتتر عائد إلى مثقال ذرّة ، وجيء بفعل الكون بصيغة فِعل المؤنث مراعاةً لفظ ذرّة الذي أضيف إليه مثقالُ ، لأنّ لفظ مثقال مبهم لا يميّزه إلاّ لفظ ذرّة فكان كالمستغنى عنه .

والمضاعفة إضافة الضّعف بكسر الصاد أي المِثْل ، يقال : ضاعف وضَعَّف وأضْعَفَ ، وهي بمعنى واحد على التحقيق عند أيمّة اللغة ، مثل أبي علي الفارسي . وقال أبو عُبيدة ضاعف يقتضي أكثر من ضِعْفٍ واحد وضعّف يقتضي ضعفين . وردّ بقوله تعالى : { يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] . وأمّا دلالة إحدى الصيغ الثلاث على مقدار التضعيف فيؤخذ من القرائن لحكمة الصيغة . وقرأ الجمهور : { يضاعفها } ، وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر : { يُضَعِّفها } بدون ألف بعد العين وبتشديد العين .

والأجر العظيم ما يزاد على الضعف ، ولذلك أضافه الله تعالى إلى ضمير الجلالة ، فقال : { من لدنه } إضافة تشريف . وسمّاه أجرا لكونه جزاء على العمل الصالح ، وقد روي أنّ هذا نزل في ثواب الهجرة .