اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (40)

لما بيَّن أنه عَلِيم ببَواطِنِهم وظَواهِرِهم ، بيَّن أنَّه كما علمها ، لا يَظْلِم مثقال ذرَّة منها .

قوله : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } فيها وَجْهَان :

أحدهما : أنه مَنْصُوب على أنه نَعْت لمصْدر مَحْذُوف ، أي : لا يَظْلِم أحَداً ظُلْمَاً وَزْن ذَرَّة{[7918]} ، فحذف المفْعُول والمَصْدر ، وأقام نَعْتَه مَقَامه ، ولمّا ذكر أبو البقاء{[7919]} هذا الوَجْه ، قَدَّر قبله مُضَافاً مَحْذُوفَاً ، قال تقْدِيره : ظلماً قَدْر مِثْقال ذرَّة ، فحذفَ المَصْدر وصِفَتَه ، وأقَام المُضَاف إلَيْه مَقَامَه ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأن المثْقال نفسه هو قَدَرٌ من الأقْدَار ، جُعِل مِعْيَاراً لهذا القَدَر المَخْصُوص .

والثاني : أنه مَنْصُوب على أنه مفعول ثانٍ ل " يظلم " ، والأوّل ، مَحْذُوف ؛ كأنهم ضَمَّنُوا " يظلم " معنى " يغصب " أو " ينقص " فعَدَّوهُ{[7920]} لاثنين ، والأصْل أن الله لا يَظْلِمُ أحَداً مِثْقَالَ ذَرَّة .

والمِثْقَال مِفْعَال من الثِّقَل ، يُقال : هذا على مثال هَذَا ، أي : وَزْنه ، ومعنى الآيَةِ : أنه - تعالى - لا يَظْلَمِ أحداً{[7921]} لا قَلِيلاً ولا كَثِيراً ، وإنما أخْرَجَهُ على أصْغَر ما يتعارَفَه النَّاس ، ويُؤيِّده قوله - تعالى - : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً }{[7922]} [ يونس : 44 ] والذَّرَّة ، قال أهل اللُّغَة : هي النَّمْلَة الحمراء ، وقيل : رَأْسُها{[7923]} ، وقيل : الذَّرَّة جُزْء من أجْزَاء الهَبَاء في الكوة ، ولا يَكُون لها وَزْن .

وروي أن ابْن عبَّاس أدْخَل يَدَه في التُّرَاب ، ثم رَفَعَها ، ثم نَفَخَ فيها ، ثم قال : كل وَاحِدٍ من هَذِه الأشْيَاء{[7924]} .

والأول هو المَشْهُور : لأن النَّمْلَةَ يُضْرب بها المثل في القِلَّة ، وأصغر ما يَكُون إذا مرّ عليها حَوْل ، وقالوا : لأنَّها حينئذٍ تَصْغُرُ جِدَّاً .

قال حَسّان : [ الخفيف ]

لَوْ يَدِبُّ الحَوْليُّ مِنْ وَلَدِ الذَّرْ *** رِ عَلَيْهَا لأنْدَبَتْها الكُلُومُ{[7925]}

وقال امْرُؤُ القَيْس : [ الطويل ]

مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ *** مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الإتْبِ مِنْهَا لأثَّرَا{[7926]}

فصل

روي مُسْلِم عن أنس ؛ قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَظْلِمُ اللَّهُ مُؤْمِناً حَسَنَة ، يُعْطَى بها [ في الدُّنْيَا ]{[7927]} ويُجْزَى بها في الآخِرَة ، وأما الكَافِر فَيُعْطى حسناتٍ ما عامل اللَّه بِهَا في الدُّنْيَا ، حتى إذا مَضَى إلى الآخِرَةِ ، لم يَكُن له حَسَنَة يُجْزَى عَلَيْهَا " {[7928]} .

فصل : دليل أهل السنة على خروج المؤمنين من النار

واحتج أهْل السُّنَّة بهذه الآية ، على أنَّ المُؤمنين يَخْرجُون من النَّار إلى الجَنَّة ؛ قالوا : لأن ثَوَاب الإيمان والمُداوَمَة على التَّوْحيد ، والإقْرَار بالعُبُودِيَّة مائة سَنَة ، أعْظَم ثواباً من عِقَابِ شُرْب جَرْعَة من الخَمْر ، فإذا حضر هذا الشَّارِبُ القيامَة وأسْقِط [ عنه ]{[7929]} قدر عِقَاب هذه المَعْصِية من ذلك الثَّواب العَظيم ، فَضُل له من الثَّواب قَدْر عَظيم ، فإذا دخل النار بسبب القَدْر من العِقَابِ ، فلو بَقي هُنَاك ، لكان ذَلِكَ ظُلْمَاً ، فوجب القَطْع بأنه يَخْرُج إلى الجَنَّة .

وقوله : { وَإِن تَكُ حَسَنَةً } حذفت النَّون تَخْفِيفاً ، لكثرة الاستعمَال ، وهذه قَاعِدَةٌ كُلِّية ، وهو أنه يجوز حذْف نُون " تكُون " مجْزُومة ، بشرط ألاَّ يلِيهَا ضميرٌ متَّصِل ؛ نحو لم يَكُنْه ، وألاَّ تُحرَّك النٌّون لالتقاء الساكنِين ، نحو : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ البينة : 1 ] خلافاً ليُونُس ؛ فإنه أجَازَ ذلك مستدلاً بقوله : [ الطويل ]

فَإنْ لَمْ تَكُ المِرْآةِ أبْدَتْ وَسَامَةً *** فَقَدْ أبْدَتْ [ المِرْآةُ ]{[7930]} جَبْهَةَ ضَيْغَمِ{[7931]}

وهذا عند سيبويه{[7932]} ضرُورةٌ ، وإنما حُذِفَت النَّون لغُنّتها وسُكُونِها ، فأشْبهت الواو ، وهذا بِخلاف سَائِرِ الأفْعال ، نحو : لم يَضِنَّ ، ولم يَهُنْ ؛ لكثرة اسْتِعْمال " كَانَ " ، وكان ينبغي أن تَعُود الواو عند حذف هذه النُّون ؛ لأنها إنَّما حُذِفَت لالتقاء الساكنين ، وقد زالَ{[7933]} ثانيهما وهو النُّونُ ؛ إلا أنَّها كالملفوظ بِهَا .

واعلم أن النُّون السَّاكِنَة ، إذا وقعت طرفاً تشبه حُرُوف اللِّين ، وحُرُوف اللِّين إذا وقعت طرفاً سَقَطت للجزم ، وقد جاء القُرْآن بالحَذْف والإثبات :

أما الحَذْف : فهذه الآية .

[ وأما الإثبات ]{[7934]} فكقوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً } [ النساء :135 ] .

وقرأ الجمهور { حَسَنَةً } نصباً على خَبَر كان النَّاقِصة ، واسْمُهَا مستَتِرٌ فيها يَعُود على مِثْقَال ، وإنَّما أنِّث ضميره حَمْلاً على المَعْنَى ؛ لأنه بمعْنَى : وإن تَكُن زِنة ذَرَّة حَسَنة ، أو لإضافته إلى مُؤنَّثِ ، فاكتَسبَ منه التَّأنِيث .

وقرأ ابن كثير ونافع : " حَسَنَةٌ " رفعاً على أنَّها التَّامَّة ، أي : وإن تقع أو تُوجد حَسَنةٌ وقرأ ابن كثير{[7935]} وابن عامرٍ " يضعفها " بالتضعيف ، والباقون : " يضاعفها " قال أبو عبيدة{[7936]} ضاعَفَهُ يقتضي مِرَاراً كثيرة ، وضَعَّفَ يقتضي مَرَّتَيْن ، وهذا عكس كَلاَم العَرب ، لأن المُضَاعَفَة تقتَضِي زيادة المِثْل ، فإذا شُدِّدت ، دَلَّت البنية على التكثير ، فيقْتَضي ذلك تَكْرِيرُ المُضاعفة ، بحسبِ ما يكون من العَدَدِ .

وقال الفَارِسِيّ{[7937]} : فيها لغتان بمعنى يدُلُّ عليه{[7938]} قوله : { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ }

{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] وقد تقدَّم ذلك ، وقرأ ابن هُرْمُز{[7939]} : " نضاعفها " [ بالنون ، وقُرئ " يضعفها " ]{[7940]} بالتَّخْفيف من أضْعَفَه{[7941]} مثل أكْرَمَ .

فصل

قال أبو عُثْمَان النَّهْدي : بلغني عن أبي هُرَيْرة ؛ أنه قال : إن اللَّه يعطِي عبده المُؤمِن بالحَسَنَةِ الواحِدَةِ ألْف ألف حَسَنَةٍ ، فقدّره الله أنْ ذهبْت إلى مكَّة حَاجّاً أو معتمِراً فلقيته فقلت : بَلَغَني أنك تقول إن اللَّه يُعْطِي عبده المُؤمِن بالحسنة ألف ألف حسنَة ، قال أبو هريرة : لم أقُلْ ذلك ، ولَكِن قُلْتُ : إن الحَسَنَة تُضاعف بألْفي ألْفَي ضِعْف ، ثم تلا هذه الآية{[7942]} ؛ وقال : قال الله - تعالى : { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } لمن يَقْدر قَدْرَه .

قوله : { مِن لَّدُنْهُ } فيه وجهان :

أحدهما : أنه مُتَعَلِّق ب " يؤت " و " من " للابْتِدَاءِ مَجَازاً .

والثاني : متعلِّقٌ بمحْذُوف على أنه حَالٌ من " أجراً " ، فإنه صِفَة نكرة في الأصْلِ ، قُدِّم عليها فانْتَصَب حالاً .

و " لدن " بمعنى عِنْد ، إلا أن " لدن " {[7943]} أكثر تمكيناً ، يقول الرَّجُل : عندي مَالٌ ، إذا كان [ مَالهِ ]{[7944]} ببلَدٍ آخر ، ولا يُقَال : لَدَيّ مالٌ في حالٍ ، ولا لَدَيّ إلاَّ لما كان حَاضِراً .


[7918]:في أ: الذرة.
[7919]:ينظر: الإملاء 1/180.
[7920]:في أ: فعله.
[7921]:في أ: مثقال ذرة.
[7922]:ينظر: الرازي 10/82.
[7923]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/360) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/290) وزاد نسبته لعبد بن حميد.
[7924]:ذكره الرازي في تفسيره 10/82.
[7925]:ينظر البيت في ديوانه 223 والبحر المحيط 3/261، والدر المصون 2/265.
[7926]:ينظر البيت في ديوانه (65): والبحر المحيط 3/216، والدر المصون 2/365.
[7927]:سقط في ب.
[7928]:أخرجه مسلم (2/344 ـ 345) وأحمد (3/123، 125، 283) والطيالسي (11 ـ 2) والطبري في "تفسيره" (8/261) عن أنس بن مالك مرفوعا.
[7929]:سقط في أ.
[7930]:سقط في أ.
[7931]:البيت للخنجر بن صخر الأسدي ينظر خزانة الأدب 9/304، والدرر 2/96، وسر صناعة الإعراب 2/542، وشرح التصريح 1/196، ولسان العرب (كون)، والمقاصد النحوية 2/63، وأوضح المسالك 1/269، وتخليص الشواهد ص 268، وشرح الأشموني 1/120، والدر المصون 2/364.
[7932]:ينظر: الكتاب 2/279.
[7933]:في أ: وقد ترك.
[7934]:سقط في أ.
[7935]:ينظر: السبعة 233، والحجة 3/161، وحجة القراءات 203، والعنوان 84، وإعراب القراءات 1/134، وإتحاف 1/512.
[7936]:ينظر: المجاز 1/127.
[7937]:ينظر: الحجة 3/161.
[7938]:في أ: قلبه.
[7939]:ينظر: الدر المصون 2/364، وفي أ: هرم.
[7940]:سقط في أ.
[7941]:في أ: أضاعفه.
[7942]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/366) وأحمد (9732 ـ شاكر) وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" وابن أبي شيبة كما في "الدر المنثور" (2/290) عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة.
[7943]:في أ: عند.
[7944]:سقط في ب.