الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (40)

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } إلى آخر الآية ، وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ، وأنفقوا مما رزقهم الله ؟ فإنّ الله لا يظلم أي لا يبخس ولا ينقص أحداً من خلقه من ثواب عمله شيئاً مثقال ذرّة مثلا ، بل يجازيه بها ويثيبه عليها وهذا مثل يقول : إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة ، فكيف بأكثر منها ؟ والمراد من الكلام : لا يظلم قليلا ، لأن الظلم مثقال ذرّة لا ينتفع به الظالم ، ولا يبين ضرره في المظلوم . وقيل : [ . . . ] ، ودليله من التأويل قوله تعالى :

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً } [ يونس : 44 ] في الدنيا .

واختلفوا في الذرّة ، فقال ابن عباس : هي النملة الحميراء الصغيرة ، لا تكاد تبين في رأي العين . وقال يزيد بن هارون : وزعموا أنّ الذرة ليس لها وزن ، ويحكى أنّ رجلا وضع خبزاً حتى علاه الذرّة يستره ، فلم يزد على وزن الخبز شيئاً . ودليل هذا التأويل ما روى بشير بن عمرو عن عبد الله أنّه قرأ : ( إنّ الله لا يظلم مثقال نملة ) .

يزيد بن الأصم عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ، قال : أدخل ابن عباس يده في إناء ثم رفعها ، ثم نفخ فيها ، ثم قال : كلُّ واحدة من هؤلاء ذرّة ، وقال بعضهم : أجزاء الهباء في الكوّة كلّ جزء منها ذرّة . وقيل : هي الخردلة .

وفي الجملة هي عبارة عن أقلّ الأشياء وأصغرها ، روى أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأمّا الكافر ، فيطعم بها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة ، لم يكن له حسنة " .

قتادة : كان بعض أهل العلم يقول : لئن يفضل حسناتي على سيئاتي وزن ذرّة أحبُّ إليّ من أن يكون لي الدنيا جميعاً .

عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا خلص المؤمنون من النار يوم القيامة ، وأمنوا فما مجادلة أحدكم صاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشدّ من مجادلة المؤمنين لربّهم في إخوانهم الذين أُدخلوا النار " ، قال : " يقولون : ربّنا إخواننا كانوا يُصلّون معنا ، ويصومون معنا ، ويحجّون معنا ، فأدخلتهم النار ؟ فيقول الله عزّ وجلّ : اذهبوا وأخرجوا من عرفتم ، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم ، لا تأكل النار صورهم ، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ، ومنهم من أخذته إلى كعبه ، فيخرجونهم فيقولون : ربّنا أخرجْنا من أَمرتَنا ، ثم يقول تعالى : أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان ، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار ، حتى يقول : من كان في قلبه مثقال ذرّة " .

وقال أبو سعيد : فمن لم يصدق بهذا فليقرأ هذه الآية { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ . . . } .

قال : " فيقولون : ربّنا قد أخرجنا من أمرتنا ، فلم يبقَ في النار أحد فيه خير " . قال : " ثم يقول الله عزّ وجلّ : شُفعت الملائكة ، وشُفعت الأنبياء ، وشُفعت المؤمنون ، وبقي أرحم الراحمين " ، قال : " فيقبض قبضة من النار أو قال : " قبضتين " ممن لم يعملوا له عزّ وجلّ خيراً قط ، قد احترقوا حتى صاروا حمماً ، قال : فيؤتى بهم إلى ماء يقال له ماء الحياة فيصبّ عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، فيخرجون وأجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم : ( عتقاء الله عزّ وجلّ ) ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم عندي أفضل من هذا " .

قال : " فيقولون : ربّنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين " . قال : " فيقول : ان لكم عندي أفضل من هذا ، فيقولون : ربّنا وما أفضل من ذلك ؟ " قال : " فيقول : رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً " " .

وقال آخرون : هذا في الخبر عن ابن [ . . . ] عن عبد الله بن مسعود قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين ، ثم نادى مناد من عند الله : ألا من كان يطلب مظلمة إلى أخيه فليأخذ . قال : فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه ، فيأخذ منه ، وإن كان صغيراً ، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى :

{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، فيؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأشهاد : الأولين والآخرين ، هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق ، فليأتِ إلى جنبه ثمّ يقال له : آتِ هؤلاء حقوقهم . فيقول : من أين وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول الله تعالى لملائكته : انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها ، فإن بقي مثقال ذرّة من حسنة ، قالت الملائكة : ربّنا أنت أعلم بذلك منهم ، أعطينا كلّ ذي حق حقه وبقي له مثقال ذرّة من حسنة ، فيقول للملائكة : ضاعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل منّي الجنّة ، ومصداق ذلك في كتاب الله { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } .

وإن كان العبد شقيًّا ، فتقول الملائكة : إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته ، وبقي طالبون كثير ، فيقول عزّ وجلّ : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكّوا له صكاً إلى النار .

فمعنى الآية على هذا التأويل : لا يظلم ، مثقال ذرّة للخصم على الخصم ، بل يثيبه عليها ويضاعفها له ، وذلك قوله { حَسَنَةً } بالنصب على معنى : وان يكن زنةُ الذرّة .

وقرأها أهل الحجاز رفعاً ، بمعنى أن يقع أو يوجد حسنة ، وقال المبرّد : معناه وإن تك حسنة باقية يضاعفها .

وقرأ الحسن : ( نضاعفها ) بالنون الباقون : بالياء ، وهو الصحيح ؛ لقوله : { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ } وقرأ أبو رجاء وأهل المدينة يُضعّفها . الباقون : يُضْعِفها وهما لغتان معناهما التكثير . وقال أبو عبيده : يضاعفها معناه يجعلها أضعافاً كثيرة ، ويضعّفها بالتشديد يجعلها ضعفين .

{ وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ } أي من عنده ، قال الكسائي : في ( لدن ) أربع لغات لدن ، ولدى ولدُ ولدُنْ . ولمّا أضافوها إلى انفسهم شدّدوا النون .

{ أَجْراً عَظِيماً } وهو الجنّة . عن أبي عثمان قال : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : " إنّ الله عزّ وجلّ يعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة ، قال أبو هريرة : لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يعطيه ألفي ألف حسنة " ، ثم تلا : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ، إلى { أَجْراً عَظِيماً } .

وقال : " إذا قال الله : أجراً عظيماً ، فمن بعد يدري قدره ؟ " " .