السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (40)

{ إنّ الله لا يظلم } أحداً { مثقال } أي : وزن { ذرّة } وهي أصغر نملة ، ويقال : لكل جزء من أجزاء الهباء في الكوّة ، أي : لا ينقص قدر ذلك من حسناته ولا يزيده في سيئاته كما قال تعالى : { إنّ الله لا يظلم الناس شيئاً } ( يونس ، 44 ) ، وفي ذكر المثقال إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أدخل يده في التراب فرفعها ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة { وإن تك حسنة } أي : وإن يك المثقال حسنة { يضاعفها } أي : ثوابها من عشر إلى أكثر من سبعمائة ، وعن أبي عثمان النهدي أنه قال لأبي هريرة : بلغني عنك أنك تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنّ الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ) قال أبو هريرة : لا بل سمعته يقول ( إنّ الله يعطيه ألفي ألف حسنة ) . ثم تلا هذه الآية .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزيه بها في الآخرة ) قال : وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً . وفي رواية : ( إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار ، قال : يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا فأدخلتهم النار قال : فيقول اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم فيأتون فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى ركبتيه فيخرجونهم فيقولون : ربنا قد أخرجنا من أمرتنا قال : ثم يقول : أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار حتى يقول من كان في قلبه مثقال ذرّة ، قال أبو سعيد : فمن لم يصدّق فليقرأ هذه { إنّ الله } الخ . . قال : ( فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق أحد في النار فيه خير ثم يقول الله عز وجل : شفعت الملائكة وشفعت الأنبياء وشفعت المؤمنون وبقي أرحم الراحمين قال : فيقبض قبضة من النار أو قال قبضتين ناساً لم يعملوا خيراً حتى احترقوا حتى صاروا حمماً فيؤتى بهم إلى ماء يقال له : ماء الحياة فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل وهي بكسر الحاء المهملة وتجمع على حبب قال : فتخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم عتقاء الله فيقال لهم : ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم قال : فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين قال : فيقول الله تعالى : فإنّ لكم عندي أفضل منه فيقولون : ربنا وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً ) .

فإن قيل : لم أنث الضمير مع أنه راجع للمثقال وهو مذكر ؟ أجيب : بأنه أنثه لتأنيث الخبر أو لإضافة المثقال إلى مؤنث ، وقيل : إنّ الضمير راجع إلى ذرّة وهي مؤنثة لا إلى مثقال وحذفت النون تشبيهاً بحروف العلة ، وقرأ نافع وابن كثير : حسنة برفع التاء على كان التامّة والباقون بنصبها على كان الناقصة ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ( يضعفها ) بتشديد العين ولا ألف قبلها والباقون بتخفيف العين وألف قبلها { ويؤت } أي : يعط صاحب الحسنة { من لدنه } أي : من عند الله على سبيل التفضل زائداً على ما وعد في مقابلة العمل { أجراً عظيماً } أي : عطاء جزيلاً وإنما سماه أجراً ؛ لأنه تابع للأجر مزيد عليه لا يثبت إلا بثباته .