معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

قوله تعالى : { وإذ فرقنا بكم البحر } . قيل : معناه فرقنا لكم وقيل : فرقنا البحر بدخولكم إياه ، وسمي البحر بحراً لاتساعه ، ومنه قيل للفرس : بحر إذا اتسع في جريه ، وذلك أنه لما دنا هلاك فرعون أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر ليلاً فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح ، وأخرج الله تعالى كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إليهم ، وكل ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط حتى رجع كل إلى أبيه ، وألقى الله الموت على القبط فمات كل بكر لهم فاشتغلوا بدفنهم حتى أصبحوا حتى طلعت الشمس ، وخرج موسى عليه السلام في ستمائة ألف وعشرين مقاتل ، لا يعدون ابن العشرين لصغره ، ولا ابن الستين لكبره ، وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنساناً ما بين رجل وامرأة . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كان أصحاب موسى ستمائة ألف وسبعين ألفاً .

وعن عمرو بن ميمون قال : كانوا ستمائة ألف فلما أرادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبون فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك فقالوا : إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ على إخوته عهداً أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسد علينا الطريق ، فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا فقام موسى ينادي : أنشد الله كل من يعلم أين موضع قبر يوسف عليه السلام إلا أخبرني به ومن لم يعلم به فصمت أذناه عن قولي ، وكان يمر بين الرجلين ينادي فلا يسمعان صوته حتى سمعته عجوز لهم فقالت : أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما سألتك . فأبى عليها وقال : حتى أسأل ربي فأمره الله تعالى بإيتائها سؤلها . فقالت : إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر ، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة من الجنة إلا نزلتها معك قال : نعم قالت : إنه في جوف الماء في النيل ، فادع الله حتى يحسر عنه الماء ، فدعا الله تعالى فحسر عنه الماء ، ودعا أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف عليه السلام ، فحفر موسى عليه السلام ذلك الموضع واستخرجه في صندوق من مرمر ، وحمله حتى دفنه بالشام ، ففتح لهم الطريق فساروا وموسى عليه السلام على ساقتهم وهارون على مقدمتهم ، وندر بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الديك ، فوالله ما صاح ديك تلك الليلة ، فخرج فرعون في طلب بني إسرائيل وعلى مقدمة عسكره هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف .

وقال محمد بن كعب رضي الله عنه : كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشيات ، وكان فرعون يكون في الدهم وقيل : كان فرعون في سبعة آلاف ألف ، وكان بين يديه مائة ألف ناشب ، ومائة ألف أصحاب حراب ، ومائة ألف أصحاب الأعمدة ، فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر أو الماء ، في غاية الزيادة ونظروا فإذا هم بفرعون حين أشرقت الشمس فبقوا متحيرين فقالوا : يا موسى كيف نصنع ؟ وأين ما وعدتنا ؟ هذا فرعون خلفنا ، إن أدركنا قتلنا ، والبحر أمامنا ، إن دخلناه غرقنا . قال الله تعالى : ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون . قال كلا إن معي ربي سيهدين ) . فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم يطعه ، فأوحى الله إليه أن كنه فضربه وقال : انفلق يا أبا خالد بإذن الله تعالى ، فانفلق ، فكان كل فرق كالطود العظيم ، وظهر فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق ، وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل الله الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبساً فخاضت بنو إسرائيل البحر ، كل سبط في طريق ، وعن جانبيهم الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضاً ، فخافوا وقال كل سبط : قد قتل إخواننا فأوحى الله تعالى إلى جبال الماء : أن تشبكي ، فصار الماء شبكات كالطبقات يرى بعضهم بعضاً ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين فذلك قوله تعالى( وإذ فرقنا بكم البحر ) .

قوله تعالى : { فأنجيناكم } . من آل فرعون والغرق .

قوله تعالى : { وأغرقنا آل فرعون } . وذلك أن فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منغلقاً قال لقومه : انظروا إلى البحر انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا مني ادخلوا البحر ، فهاب قومه أن يدخلوه وقيل : قالوا له إن كنت رباً فادخل البحر كما دخل موسى ، وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون أنثى فجاء جبريل على فرس أنثى وديق فتقدمهم وخاض البحر فلما شم أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر في أثرها وهم لا يرونه ولم يملك فرعون من أمره شيئاً وهو لا يرى فرس جبريل واقتحمت الخيول خلفه في البحر ، وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يسوقهم حتى لا يشذ رجل منهم ويقول لهم : الحقوا بأصحابكم حتى خاضوا كلهم البحر ، وخرج جبريل من البحر ، وخرج ميكائيل من البحر وهم أولهم بالخروج فأمر الله تعالى البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم وغرقهم أجمعين . وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ وهو على طرف بحر من بحر فارس ، قال قتادة : بحر من وراء مصر يقال له إساف ، وذلك بمرأى من بني إسرائيل فذلك قوله تعالى : { وأنتم تنظرون } . إلى مصارعهم وقيل : إلى هلاكهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

40

فإذا فرغ من التعقيب جاء بمشهد النجاة بعد مشاهد العذاب . .

( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . .

وقد وردت تفصيلات هذه النجاة في السور المكية التي نزلت من قبل . أما هنا فهو مجرد التذكير لقوم يعرفون القصة . سواء من القرآن المكي ، أو من كتبهم وأقاصيصهم المحفوظة . إنما يذكرهم بها في صورة مشهد ، ليستعيدوا تصورها ، ويتأثروا بهذا التصور ، وكأنهم هم الذين كانوا ينظرون إلى فرق البحر ، ونجاة بني إسرائيل بقيادة موسى - عليه السلام - على مشهد منهم ومرأى ! وخاصية الاستحياء هذه من أبرز خصائص التعبير القرآني العجيب .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }

أما تأويل قوله : وَإذْ فَرَقْنا بكُمُ فإنه عطف على : وَإذْ نَجّيْناكُمْ بمعنى : واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون ، وإذ فرقنا بكم البحر . ومعنى قوله : فَرَقْنا بِكُمْ : فصلنا بكم البحر ، لأنهم كانوا اثني عشر سبطا ، ففرق البحر اثني عشر طريقا ، فسلك كل سبط منهم طريقا منها . فذلك فرق الله بهم جل ثناؤه البحر ، وفصله بهم بتفريقهم في طرقه الاثني عشر . كما :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي : لما أتى موسى البحر كناه أبا خالد ، وضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، فدخلت بنو إسرائيل ، وكان في البحر اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط .

وقد قال بعض نحويي البصرة : معنى قوله : وَإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ فرقنا بينكم وبين الماء : يريد بذلك : فصلنا بينكم وبينه وحجزناه حيث مررتم به . وذلك خلاف ما في ظاهر التلاوة لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنه فرق البحر بالقوم ، ولم يخبر أنه فرق بين القوم وبين البحر ، فيكون التأويل ما قاله قائلو هذه المقالة ، وفرقه البحر بالقوم ، إنما هو تفريقه البحر بهم على ما وصفنا من افتراق سبيله بهم على ما جاءت به الاَثار .

القول في تأويل قوله تعالى : فأنْجَيْناكُمْ وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ .

قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف أغرق الله جل ثناؤه آل فرعون ، ونَجّى بني إسرائيل ؟ قيل له : كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دُهْم الخيل سوى ما في جنده من شُهْبِ الخيل وخرج موسى ، حتى إذا قابله البحر ولم يكن له عنه منصرف ، طلع فرعون في جنده من خلفهم ، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لَمُدْرَكُونَ قال موسى : كَلاّ إنّ مَعِي رَبي سَيَهْدِينِ أي للنجاة ، وقد وعدني ذلك ولا خلف لوعده .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : أوحى الله إلى البحر فيما ذكر إذا ضربك موسى بعصاه فانفلقْ له ، قال : فبات البحر يضرب بعضه بعضا فَرَقا من الله وانتظار أمره ، فأوحى الله جل وعزّ إلى موسى : أنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه ، فانْفَلَقَ فَكانَ كُلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيمِ أي كالجبل على يبس من الأرض . يقول الله لموسى : اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا في البَحْرِ يَبَسا لاَ تَخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى فلما استقرّ له البحر على طريق قائمة يَبَسٍ سلك فيه موسى ببني إسرائيل ، وأتبعه فرعون بجنوده .

762وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي ، قال : حدثت أنه لما دخل بنو إسرائيل البحر ، فلم يبق منهم أحد ، أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل حتى وقف على شفير البحر ، وهو قائم على حاله ، فهاب الحصان أن ينفذه فعرض له جبريل على فرس أنثى وَدِيق ، فقرّبها منه فشمها الفحل ، فلما شمها قدّمها ، فتقدم معها الحصان عليه فرعون ، فلما رأى جند فرعون فرعونَ قد دخل دخلوا معه وجبريل أمامه ، وهم يتبعون فرعون وميكائيل على فرس من خلف القوم يسوقهم ، يقول : الحقوا بصاحبكم . حتى إذا فصل جبريل من البحر ليس أمامه أحد ، ووقف ميكائيل على ناحيته الأخرى وليس خلفه أحد ، طبق عليهم البحر ، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله عزّ وجلّ وقدرته ما رأى وعرف ذلته وخذلته نفسه : آمَنْتُ أنّهُ لاَ إلَهَ إِلاّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وأنا مِنَ المُسْلِمِينَ .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله : وَإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ فَأنْجَيْنَاكُمْ وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ قال : لما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون ، فقال : لا تتبعوهم حتى يصيح الديك . قال : فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا فدعا بشاة فذبحت ، ثم قال : لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط . فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط . ثم سار ، فلما أتى موسى البحر ، قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون : أين أمرك ربك يا موسى ؟ قال : أمامك يشير إلى البحر . فأقحم يوشك فرسه في البحر حتى بلغ الغمر ، فذهب به ثم رجع ، فقال : أين أمرك ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت ففعل ذلك ثلاث مرات ، ثم أوحى الله جل ثناؤه إلى موسى : أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْر فانْفَلَقَ فَكانَ كُل فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيم يقول : مثل جبل . قال : ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم ، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم ، فلذلك قال : وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ قال معمر : قال قتادة : كان مع موسى ستمائة ألف ، وأتبعه فرعون على ألف ألف ومائة ألف حصان .

وحدثني عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أوحى الله جل وعز إلى موسى أنْ أسْرِ بعِبادِي لَيْلاً إنّكُمْ مُتّبَعُونَ قال : فسرى موسى ببني إسرائيل ليلاً ، فأتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث وكان موسى في ستمائة ألف ، فلما عاينهم فرعون قال : إنّ هؤلاءِ لِشَرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وإنّهُمْ لَنا لَغَائِظُونَ وإنّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ . فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر ، فالتفتوا فإذا هم برَهْج دوابّ فرعون فقالوا : يا موسى أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أنْ تأتِيَنَا ومِن بعدِ ما جِئْتَنا هذا البحر أمامنا ، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه . قال عَسَى رَبّكُمْ أنْ يُهْلِكَ عَدُوّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكم فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ . قال : فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البحر وأوحى إلى البحر : أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك . قال : فبات/ فثاب البحر له أفكل يعني له رعدة لا يدرى من أيّ جوانبه يضربه ، قال : فقال يوشع لموسى : بماذا أمرت ؟ قال : أمرت أن أضرب البحر . قال : فاضربه قال : فضرب موسى البحر بعصاه ، فانفلق ، فكان فيه اثنا عشر طريقا ، كل طريق كالطود العظيم ، فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه . فلما أخذوا في الطريق ، قال بعضهم لبعض : ما لنا لا نرى أصحابنا ؟ قالوا لموسى : أين أصحابنا لا نراهم ؟ قال : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم . قالوا : لا نرضى حتى نراهم قال سفيان ، قال عمار الدهني : قال موسى : اللهمّ أعني على أخلاقهم السيئة . قال : فأوحى الله إليه : أن قل بعصاك هكذا وأومأ إبراهيم بيده يديرها على البحر قال موسى بعصاه على الحيطان هكذا ، فصار فيها كُوًى ينظر بعضهم إلى بعض ، قال سفيان : قال أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : فساروا حتى خرجوا من البحر ، فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر هو وأصحابه ، وكان فرعون على فرس أدهم ذَنُوب حصان . فلما هجم على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر ، فتمثل له جبريل على فرس أنثى وَدِيق . فلما رآها الحصان تقحّم خلفها ، وقيل لموسى : اترك البحر رَهْوا قال : طرقا على حاله قال : ودخل فرعون وقومه في البحر ، فلما دخل آخر قوم فرعون وجاز آخر قوم موسى أطبق البحر على فرعون وقومه فأغرقوا .

حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي : أن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ، فقال : أسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إنّكُمْ مُتَبّعُونَ فخرج موسى وهارون في قومهما ، وأُلقي على القبط الموت فمات كل بكر رجل . فأصبحوا يدفنونهم ، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس ، فذلك حين يقول الله جل ثناؤه : فأتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فكان موسى على ساقة بني إسرائيل ، وكان هارون أمامهم يقدُمُهم . فقال المؤمن لموسى : يا نبيّ الله ، أين أمرت ؟ قال : البحر . فأراد أن يقتحم ، فمنعه موسى . وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل ، لا يعدّون ابنَ العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره ، وإنما عدوّا ما بين ذلك سوى الذرية . وتبعهم فرعون وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ما ذبانه ، يعني الأنثى وذلك حين يقول الله جل ثناؤه : فأرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ إنّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ يعني بني إسرائيل . فتقدم هارون ، فضرب البحر ، فأبى البحر أن ينفتح ، وقال : من هذا الجبار الذي يضربني ؟ حتى أتاه موسى ، فكناه أبا خالد وضربه فانفلق فكانَ كلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيم يقول : كالجبل العظيم . فدخلت بنو إسرائيل . وكان في البحر اثنا عشر طريقا ، في كل طريق سبط ، وكانت الطرق انفلقت بجدران ، فقال كل سبط : قد قتل أصحابنا : فلما رأى ذلك موسى ، دعا الله ، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطّيقان . فنظر آخرهم إلى أولهم ، حتى خرجوا جميعا . ثم دنا فرعون وأصحابه ، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا ، قال : ألا ترون البحر فرق مني قد انفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم ؟ فذلك حين يقول الله جل ثناؤه : وأزْلَفْنا ثَمّ الاَخرِينَ يقول : قرّبنا ثم الاَخرين يعني آل فرعون . فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم ، فنزل جبريل على ماذبانه ، فشامّ الحصان ريح الماذبانه ، فاقتحم في أثرها ، حتى إذا همّ أولهم أن يخرج ودخل آخرهم ، أمر البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم .

وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لما أخذ عليهم فرعون الأرض إلى البحر قال لهم فرعون : قولوا لهم يدخلون البحر إن كانوا صادقين . فلما رآهم أصحاب موسى ، قالوا : إنّا لَمُدْرَكُونَ قال كَلاّ إنّ مَعِي رَبي سَيَهْدِينِ فقال موسى للبحر : ألست تعلم أني رسول الله ؟ قال : بلى . قال : وتعلم أن هؤلاء عباد من عباد الله أمرني أن آتي بهم ؟ قال : بلى . قال : أتعلم أن هذا عدوّ الله ؟ قال : بلى . قال : فانفرقْ لي طريقا ولمن معي . قال : يا موسى ، إنما أنا عبد مملوك ليس لي أمر إلا أن يأمرني الله تعالى . فأوحى الله عزّ وجل إلى البحر : إذا ضربك موسى بعصاه فانفرق ، وأوحى إلى موسى أن يضرب البحر ، وقرأ قول الله تعالى : فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا في البَحْرِ يَبَسا لاَ تَخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى وقرأ قوله : وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوا سَهَلاً ليس فيه تعدّ . فانفرق اثنتي عشرة فرقة ، فسلك كل سبط في طريق . قال : فقالوا لفرعون : إنهم قد دخلوا البحر . قال : ادخلوا عليهم ، قال : وجبريل في آخر بني إسرائيل يقول لهم : ليلحق آخركم أولكم . وفي أول آل فرعون ، يقول لهم : رويدا يلحق آخركم أولكم . فجعل كل سبط في البحر يقولون للسبط الذين دخلوا قبلهم : قد هلكوا . فلما دخل ذلك قلوبهم ، أوحى الله جلّ وعزّ إلى البحر ، فجعل لهم قناطر ينظر هؤلاء إلى هؤلاء ، حتى إذا خرج آخر هؤلاء ودخل آخر هؤلاء أمر الله البحر فأطبق على هؤلاء .

ويعني بقوله : وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي تنظرون إلى فَرْقِ الله لكم البحر وإهلاكه آل فرعون في الموضع الذي نجاكم فيه ، وإلى عظيم سلطانه في الذي أراكم من طاعة البحر إياه من مصيره رُكاما فَلِقا كهيئة الأطواد الشامخة غير زائل عن حدّه ، انقيادا لأمر الله وإذعانا لطاعته ، وهو سائل ذائب قبل ذلك . يوقفهم بذلك جل ذكره على موضع حججه عليهم ، ويذكرهم آلاءه عند أوائلهم ، ويحذرهم في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحلّ بهم ما حلّ بفرعون وآله في تكذيبهم موسى صلى الله عليه وسلم .

وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله : وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ كمعنى قول القائل : «ضُربت وأهلك ينظرون ، فما أتوك ولا أعانوك » بمعنى : وهم قريب بمرأى ومسمع ، وكقول الله تعالى : ألَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ وليس هناك رؤية ، إنما هو علم . والذي دعاه إلى هذا التأويل أنه وجه قوله : وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ : أي وأنتم تنظرون إلى غرق فرعون . فقال : قد كانوا في شغل من أن ينظروا مما اكتنفهم من البحر إلى فرعون وغرقه . وليس التأويل الذي تأوله تأويل الكلام ، إنما التأويل : وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر لكم على ما قد وصفنا آنفا ، والتطام أمواج البحر بآل فرعون في الموضع الذي صير لكم في البحر طريقا يبسا ، وذلك كان لا شك نظر عيان لا نظر علم كما ظنه قائل هذا القول الذي حكينا قوله .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

{ وإذ فرقنا بكم البحر } فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك بسلوككم فيه . أو بسبب إنجائكم ، أو ملتبسا بكم كقوله :

تدوس بنا الجماجم والتريبا *** . . .

وقرئ { فرقنا } على بناء التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر بعدد الأسباط . { فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون } أراد به فرعون وقومه ، واقتصر على ذكرهم للعلم بأنه كان أولى به ، وقيل شخصه كما روي أن الحسن رضي الله تعالى عنه كان يقول : اللهم صل على آل محمد أي شخصه واستغني بذكره عن ذكر أتباعه .

{ وأنتم تنظرون } ذلك ، أي غرقهم وإطباق البحر عليهم ، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة ، أو جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل ، أو ينظر بعضكم بعضا . روي أنه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل ، فخرج بهم فصبحهم فرعون وجنوده ، وصادفهم على شاطئ البحر ، فأوحى الله تعالى إليه أن أضرب بعصاك البحر ، فضربه فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها فقالوا : يا موسى نخاف أن يغرق بعضنا ولا نعلم ، ففتح الله فيها كوى فتراؤوا وتسامعوا حتى عبروا البحر ، ثم لما وصل إليه فرعون ورآه منفلقا اقتحم فيه هو وجنوده فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين .

واعلم أن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل ، ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى عليه الصلاة والسلام ، ثم إنهم بعد ذلك اتخذوا العجل وقالوا : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } ونحو ذلك ، فهم بمعزل في الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية مثل : القرآن والتحدي به والفضائل المجتمعة فيه الشاهدة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم دقيقة تدركها الأذكياء ، وإخباره عليه الصلاة والسلام عنها من جملة معجزاته على ما مر تقريره .