قوله تعالى : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } ، يقهرون ويستذلون بذبح الأبناء ، واستخدام النساء ، والاستعباد ، وهم بنو إسرائيل .
قوله تعالى : { مشارق الأرض ومغاربها } يعني مصر والشام .
قوله تعالى : { التي باركنا فيها } بالماء ، والأشجار ، والثمار ، والخصب ، والسعة .
قوله تعالى : { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل } يعني : وتمت كلمة الله ، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين في الأرض ، وذلك قوله تعالى : { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } [ القصص : 5 ] { بما صبروا } على دينهم وعلى عذاب فرعون .
قوله تعالى : { ودمرنا } أهلكنا .
قوله تعالى : { ما كان يصنع فرعون وقومه } ، في أرض مصر من العمارات .
قوله تعالى : { وما كانوا يعرشون } قال مجاهد : يبنون من البيوت والقصور . وقال الحسن : يعرشون من الأشجار والثمار والأعناب . وقرأ أبو بكر وابن عامر : { يعرشون } بضم الراء هاهنا وفي النحل ، وقرأ آخرون بكسرها .
وتنسيقاً للجو الحاسم يعجل السياق كذلك بعرض الصفحة الأخرى - صفحة استخلاف المستضعفين - ذلك أن استخلاف بني إسرائيل - في الفترة التي كانوا أقرب ما يكونون فيها إلى الصلاح وقبل أن يزيغوا فيكتب عليهم الذل والتشرد - لم يكن في مصر ، ولم يكن في مكان فرعون وآله . إنما كان في أرض الشام ، وبعد عشرات السنوات من حادث إغراق فرعون - بعد وفاة موسى عليه السلام وبعد التيه أربعين سنة كما جاء في السورة الأخرى - ولكن السياق يطوي الزمان والأحداث ، ويعجل بعرض الاستخلاف هنا تنسيقاً لصفحتي المشهد المتقابلتين :
( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها " . . . " وتمت كلمة ربك السنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ، وما كانوا يعرشون ) . .
على أننا نحن البشر - الفانين المقيدين بالزمان - إنما نقول " قبل " و " بعد " لأننا نؤرخ للأحداث بوقت مرورها بنا وإدراكنا لها ! لذلك نقول : إن استخلاف القوم الذين كانوا يستضعفون ، كان متأخراً عن حادث الإغراق . . ذلك إدراكنا البشري . . فأما الوجود المطلق والعلم المطلق فما " قبل " عنده وما " بعد " ؟ ! والصفحة كلها معروضة له سواء ، مكشوفة لا يحجبها زمان ولا مكان . . ولله المثل الأعلى . وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً . .
وهكذا يسدل الستار على مشهد الهلاك والدمار في جانب ؛ وعلى مشهد الاستخلاف والعمار في الجانب الآخر . . وإذا فرعون الطاغية المتجبر وقومه مغرقون ، وإذا كل ما كانوا يصنعون للحياة ، وما كانوا يقيمون من عمائر فخمة قائمة على عمد وأركان ، وما كانوا يعرشون من كروم وثمار . . إذا هذا كله حطام ، في ومضة عين ، أو في بضع كلمات قصار !
مثل يضربه الله للقلة المؤمنة في مكة ، المطاردة من الشرك وأهله ؛ ورؤيا في الأفق لكل عصبة مسلمة تلقى من مثل فرعون وطاغوته ، ما لقيه الذين كانوا يستضعفون في الأرض ، فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها المباركة - بما صبروا - لينظر كيف يعملون !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ الْحُسْنَىَ عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وأورثنا القوم الذين كان فرعون وقومه يستضعفونهم ، فيذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، ويستخدمونهم تسخيرا واستعبادا من بني إسرائيل ، مشارق الأرض الشأم ، وذلك ما يلي الشرق منها ، ومغاربها التي باركنا فيها ، يقول : التي جعلنا فيها الخير ثابتا دائما لأهلها . وإنما قال جلّ ثناؤه : وأوْرَثْنا لأنه أورث ذلك بني إسرائيل ، بمهلك من كان فيها من العمالقة .
وبمثل الذي قلنا في قوله : مَشارِقَ الأرْضِ وَمَغارِبَها قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن إسرائيل ، عن فُرات القزّاز ، عن الحسن ، في قوله : وأوْرَثَنا القَوْمَ الّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها التي باركْنا فِيها قال : الشأم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن فُرات القزاز ، قال : سمعت الحسن يقول ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن فُرات القزاز ، عن الحسن : الأرض التي باركنا فيها ، قال : الشأم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأوْرَثْنا القَوْمَ الّذِينَ كانُوا يُستَضْعَفُونَ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها التي باركْنا فِيها هي أرض الشأم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : مَشارِقَ الأرْضِ وَمَغارِبَها التي باركْنا فيها قال : التي بارك فَيها : الشأم .
وكان بعض أهل العربية يزعم أن مشارق الأرض ومغاربها نصب على المحلّ ، يعني : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن قوله : وأوْرَثنا إنما وقع على قوله : التي باركْنا فِيها وذلك قول لا معنى له ، لأن بني إسرائيل لم يكن يستضعفهم أيام فرعون غير فرعون وقومه ، ولم يكن له سلطان إلاّ بمصر ، فغير جائز والأمر كذلك أن يقال : الذين يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها .
فإن قال قائل : فإن معناه : في مشارق أرض مصر ومغاربها فإن ذلك بعيد من المفهوم في الخطاب : مع خروجه عن أقوال أهل التأويل والعلماء بالتفسير .
وأما قوله : وَتمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ الحُسْنَى فإنه يقول : وفي وعد الله الذي وعد بني إسرائيل بتمامه ، على ما وعدهم من تمكينهم في الأرض ، ونصره إياهم على عدوّهم فرعونَ . وكلمته الحسنى قوله جلّ ثناؤه : ونُريدُ أنْ نَمُنّ على الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمّةً وَنجْعَلَهُمُ الوَارِثينَ ونُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَتمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ الحُسْنَى عَلى بَنِي إسْرائِيلَ قال : ظهور قوم موسى على فرعون . و «تمكين الله لهم في الأرض » : وما ورّثهم منها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .
وأما قوله : وَدَمّرْنَا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ فإنه يقول : وأهلكنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع . وما كانُوا يَعْرِشُونَ يقول : وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور ، وأخرجناهم من ذلك كله ، وخرّبنا جميع ذلك . وقد بيّنا معنى التعريش فيما مضى بشواهده .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانُوا يَعْرِشُونَ يقول : يبنون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَعْرِشُونَ يبنون البيوت والمساكن ما بلغت ، وكان عنبهم غير معروش .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الحجاز والعراق يَعْرِشُونَ بكسر الراء ، سوى عاصم بن أبي النجود ، فإنه قرأه بضمها . وهما لغتان مشهورتان في العرب ، يقال : عرَش يعرِش ويعرُش ، فإذا كان ذلك كذلك ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب لاتفاق معنى ذلك ، وأنهما معروفان من كلام العرب ، وكذلك تفعل العرب في فعَل إذا ردّته إلى الاستقبال ، تضمّ العين منه أحيانا ، وتكسره أحيانا . غير أن أحبّ القراءتين إليّ كسر الراء لشهرتها في العامّة وكثرة القراءة بها وأنها أصحّ اللغتين .
{ وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون } بالاستبعاد وذبح الأبناء من مستضعفيهم . { مشارق الأرض ومغاربها } يعني ارض الشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا في نواحيها . { التي باركنا فيها } بالخصب وسعة العيش . { وتمّت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل } ومضت عليهم واتصلت بالانجاز عدته اياهم بالنصرة والتمكين وهو قوله تعالى : { ونريد أن نمن } إلى قوله : { ما كنوا يحذرون } وقرئ " كلمات ربك " لتعدد المواعيد { بما صبروا } بسبب صبرهم على الشدائد . { ودمّرنا } وخربنا . { ما كان يصنع فرعون وقومه } .