اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَٰرِبَهَا ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۖ وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ بِمَا صَبَرُواْۖ وَدَمَّرۡنَا مَا كَانَ يَصۡنَعُ فِرۡعَوۡنُ وَقَوۡمُهُۥ وَمَا كَانُواْ يَعۡرِشُونَ} (137)

قوله : " وَأوْرَثْنَا " يتعدى لاثنين ، لأنَّه قبل النَّقلِ بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو : وَرِثْتُ أبي ، فبالنَّقْلِ اكتسب آخَرَ .

فأولهما : القومَ والَّذينَ وصلتُه في محل نصب نعتاً له .

وأما المفعولُ الثَّانِي ففيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرها : أنَّهُ " مشارِقَ الأرضِ ومغَاربَهَا " .

وفي قوله : { التي بَارَكْنَا فِيهَا } على هذا وجهان : أحدهما : أنَّه نعتٌ ل : مشارق ومغارب . والثاني : أنَّهُ نعتٌ للأرض ، وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوف بَيْنَ الصفةِ والموصوفِ .

وهو نظيرُ قولك : قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ .

وقال أبُو البقاءِ{[16754]} هنا : وفيه ضعفٌ ؛ لأنَّ فيه العطفَ على الموصوفِ قبل الصِّفَةِ . وهذا سبْقُ لسان أو قلم ، لأنَّ العطفَ ليس على الموصُوفِ ، بل على ما أضيف إلى الموصوف .

والثاني من الأوجه الثلاثة : أن المفعول الثاني هو : { التي بَارَكْنَا فِيهَا } أي : أورثناهم الأرض التي باركنا فيها .

وفي قوله تعالى : { مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا } وجهان : أحدهما : هو منصوبٌ على الظَّرف ب " يُسْتَضْعَفُونَ " . والثاني : أنَّ تقديره : يُسْتَضْعَفُون في مشارق الأرض ومغاربها فلمَّا حُذِفَ الحرفُ وصل الفعلُ بنفسه ؛ فنصب ، هكذا قال أبو البقاءِ .

قال شهابُ الدِّين : ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن ، فإنَّ القول بالظَّرفية هو عينُ القولِ بكونه على تقدير في ، لأنَّ كلَّ ظرف مقدَّرٌ ب " في " فكيف يجعل شيئاً واحد شيئين ؟

الوجه الثالث : أنَّ المفعول الثَّاني محذوفٌ ، تقديره : أورثناهم الأرضَ ، أو الملكَ ، أو نحوه ويُسْتَضْعَفُونَ يجوز أن يكون على بابه من الطَّلبِ ، أي : يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً وأن يكون استفعل بمعنى : وَجَدَهُ ذَا كَذَا ، والمُرَادُ بالأرْضِ : أرَضُ الشَّام .

وقيل : أرض مصر ، لأنها أرض القبط .

وقيل : مصر والشَّام ، ومشارقها ، ومغاربها جهات المشرق ، والمغرب { الَّتِي بَاركْنَا فِيهَا } بإخراج الزَّرع ، والثِّمار ، والأنهار .

وقيل : المرادُ جملة الأرض ؛ لأنَّه خرج من بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرْضَ .

قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى } . قرأ الحسنُ{[16755]} ورُويت عن أبي عمرو وعاصم كَلِمَات بالجمع .

قال الزمخشري : ونظيره : { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } [ النجم : 18 ] . يعني في كون الجمع وُصِفَ بمُفْردٍ .

قال أبُو حيَّان : ولا يتعيَّن في الكُبْرَى ما ذكر لجواز أن يكون التقدير : لَقَدْ رَأى الآية الكُبْرَى ، فهو وصفُ مُفْردٍ لا جمعٍ ، وهو أبلغُ .

قال شهابُ الدِّين{[16756]} : في بعض الأماكن يتعيَّنُ ما ذكره الزمخشريُّ نحو { مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] وهذه الآية ، فلذلك اختار فيها ما يتعيَّن في غيرها والمرادُ بالكلمةِ الحسنى : قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض } [ القصص : 5 ] إلى قوله : { مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } [ القصص : 6 ] والحُسْنَى : تأنيثُ الأحسنِ صفة للكلمة .

وقيل : معنى تمام الكلمةِ : إنجاز الوعْدِ الذي تقدَّم بإهلاك عدوهم . ومعنى : " تَمَّتْ " أي : مَضَتْ واستمرَّتْ من قولهم : تَمَّ عليه الأمر إذَا مَضَى عليه .

قوله بِمَا صَبَرُوا متعلِّق ب " تَمَّتْ " والبَاءُ للسببيَّةِ و " مَا " مصدريةٌ ، أي : بسبب صبرهم ومتعلَّقُ الصَّبرِ محذوفٌ أي : على أذَى فرعون وقومه .

قوله : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } . يجوزُ ههنا أوجه : أحدها : أن يكون فِرْعَونُ اسم كان ، ويَصْنَعُ خبرٌ مقدم ، والجملةُ الكونِيَّة صلةُ " ما " والعائد محذوف ، والتقديرُ ودَمَّرنا الذي كان فرعون يَصْنَعُهُ ، واستضعف أبُو البقاءِ هذا الوجه .

فقال : لأنَّ يَصْنَعُ يَصْلُحُ أن يعمل في فِرْعَوْن فلا يُقَدَّر تأخيره ، كما لا يُقدَّر تأخيرُ الفعل في قولك : قام زيدُ . يعني : أنَّ قولك : " قَامَ زَيْدٌ " يجب أن يكونَ من باب الفِعْلِ والفاعل ، ولا يجوز أن يُدَّعى فيه أنَّ " قام " فعلٌ وفاعلٌ ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌ ، وزيد : مبتدأ مؤخَّرٌ لأجل اللَّبس بباب الفاعل ، فكذا هنا ؛ لأنَّ يَصْنَعُ يَصحُّ أن يتسلَّطَ على فِرْعَوْنَ فيرفعهُ فاعلاً فلا يُدَّعَى فيه التقديم ، وقد سبقه إلى هذا مكيٌّ .

وقال : ويلزم من يجيز هذا أن يُجيزَ : يقومُ زيدٌ ، على الابتداء والخبر ، والتَّقديم والتَّأخير ، ولمْ يُجزْهُ أحَدٌ .

وقد تقدَّمت هذه المسألةُ وما فيها ، وأنَّهُ هل يجوز أن يكون من باب التَّنازع أم لا ؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان مُتَخَيَّلاً في بادئ الرأي ، فإنه ك : باب الابتداء ، والخبر ، ولكن الجَواب عن ذلك : أنَّ المانع في " قَامَ زيدٌ " هو اللَّبس ، وهو مفقودٌ هَهُنَا .

الثاني : أنَّ اسمَ " كان " ضميرٌ عائدٌ على " مَا " الموصولة ، ويَصْنَعُ مسندٌ ل " فِرْعَوْن " والجُملةُ خبر " كان " والعائدُ محذوف أيضاً ، والتَّقديرُ : ودمَّرْنَا الذي كان هو يصنعه فرعون .

الثالث : أن تكون " كان " زائدةً و " مَا " مصدرية والتقديرُ : ودمَّرْنَا ما يصنع فرعون . أي : صُنْعَهُ ، ذكره أبُو البقاءِ .

قال شهابُ الدِّين{[16757]} : وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً ، وإن كانت " مَا " موصولة اسمية ، على أنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُهُ : ودَمَّرْنَا الذي يصنعه فرعون .

الرابع : أن " ما " مصدرية أيضاً و " كان " لَيْسَتْ زائدةً ، بل ناقصة ، واسمُهَا ضميرُ الأمر والشَّأن ، والجملةُ من قوله يَصْنعُ فرعَونُ خبرُ " كان " فهي مفسِّرة لضمير .

وقال أبُو البقاءِ{[16758]} هنا : وقيل : ليست " كان " زائدةً ، ولكن " كان النَّاقِصَة لا يُفْصَل بها بين " ما " وبين صلتها ، وقد تقدَّم ذلك في قوله : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] وعلى هذا القول تحتاج " كان " إلى اسم .

ويضعُف أن يكون اسمُها ضمير الشَّأنِ ؛ لأَّن الجُملة التي بعدها صلةُ " ما " فلا تَصْلُح للتَّفسير ، فلا يحصُل بها الإيضاحُ ، وتمامُ الاسم ، والمفسِّر يجبُ أن يكون مستقلاً ، فتدعو الحَاجَةُ إلى أن يجعل " فرعون " اسم " كان " وفي : " يَصْنَعُ " ضمير يعود عليه .

قال شهابُ الدِّين{[16759]} بعد فرض كونها ناقصةً : يلزم أن تكون الجملة من قوله : يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ خبراً ل " كان " ويمتنع أن تكون صلةً ل " ما " .

وقوله : فتدعُو الحاجةُ أي : ذلك الوجُه الذي بدأت به ، واستضعفه ، وهو الذي احتاج إليه في هذا المكان فراراً من جعل الاسم ضمير الشَّأن ، لمَّا تخيَّلهُ مانعاً ، والتَّدميرُ : الإهلاكُ .

قال الليث : الدَّمَارُ : الهَلاك التَّام ، يقال : دَمَرَ القومُ يَدمُرُونَ دماراً : أي : هلكوا وهو مُتَعَدٍّ بنفسه ، فأمَّا قوله : { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } [ محمد : 10 ] بمفعولُه محذوفٌ ، أي : خَرَّب عليهم منازلهم وبُيُوتَهم .

وقوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } أي : في أرض مصر من العمارات .

قوله : " يَعْرِشُونَ " قرأ{[16760]} ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النَّحل { يَعرُشُونَ } بضم الرَّاءِ .

والباقون بالكسر فيهما ، وهما لغتانِ : " عَرَشَ الكرمَ يَعْرِشُهُ ويَعْرُشُهُ . والكَسْرُ لغة الحِجَازِ .

قال اليَزِيديُّ : وهي أفصحُ .

وقال مُجاهدٌ : ما كانُوا يبنون من القصور والبيوت{[16761]} . وقُرئ شاذّاً بالغين المعجمةِ والسِّين المهملة ، من غَرْس الأشجَار . وقال الزمخشري وبلغني أنه قرأ بعض الناس يعرشون من عرش وما أظُنّه إلاّ تصحيفاً . وقرأ ابن أبي عبْلَةَ يُعَرِّشُونَ بضمِّ الياء وفتحِ العين ، وكسرِ الرَّاءِ مشدَّدَةً على المُبالغة والتَّكثير . وهذا آخر قصةِ فرعونَ .


[16754]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/283.
[16755]:ينظر: الشواذ 45، الدر المصون 3/333.
[16756]:ينظر: الدر المصون 3/333.
[16757]:ينظر: الدر المصون 3/334.
[16758]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/283.
[16759]:ينظر: الدر المصون 3/334.
[16760]:ينظر البشر 2/271 الحجة ص 294 إتحاف فضلاء النشر 2/61 السبعة ص 292، الدر المصون 3/334.
[16761]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/45) وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/212) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.