قوله : " وَأوْرَثْنَا " يتعدى لاثنين ، لأنَّه قبل النَّقلِ بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو : وَرِثْتُ أبي ، فبالنَّقْلِ اكتسب آخَرَ .
فأولهما : القومَ والَّذينَ وصلتُه في محل نصب نعتاً له .
وأما المفعولُ الثَّانِي ففيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرها : أنَّهُ " مشارِقَ الأرضِ ومغَاربَهَا " .
وفي قوله : { التي بَارَكْنَا فِيهَا } على هذا وجهان : أحدهما : أنَّه نعتٌ ل : مشارق ومغارب . والثاني : أنَّهُ نعتٌ للأرض ، وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوف بَيْنَ الصفةِ والموصوفِ .
وهو نظيرُ قولك : قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ .
وقال أبُو البقاءِ{[16754]} هنا : وفيه ضعفٌ ؛ لأنَّ فيه العطفَ على الموصوفِ قبل الصِّفَةِ . وهذا سبْقُ لسان أو قلم ، لأنَّ العطفَ ليس على الموصُوفِ ، بل على ما أضيف إلى الموصوف .
والثاني من الأوجه الثلاثة : أن المفعول الثاني هو : { التي بَارَكْنَا فِيهَا } أي : أورثناهم الأرض التي باركنا فيها .
وفي قوله تعالى : { مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا } وجهان : أحدهما : هو منصوبٌ على الظَّرف ب " يُسْتَضْعَفُونَ " . والثاني : أنَّ تقديره : يُسْتَضْعَفُون في مشارق الأرض ومغاربها فلمَّا حُذِفَ الحرفُ وصل الفعلُ بنفسه ؛ فنصب ، هكذا قال أبو البقاءِ .
قال شهابُ الدِّين : ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن ، فإنَّ القول بالظَّرفية هو عينُ القولِ بكونه على تقدير في ، لأنَّ كلَّ ظرف مقدَّرٌ ب " في " فكيف يجعل شيئاً واحد شيئين ؟
الوجه الثالث : أنَّ المفعول الثَّاني محذوفٌ ، تقديره : أورثناهم الأرضَ ، أو الملكَ ، أو نحوه ويُسْتَضْعَفُونَ يجوز أن يكون على بابه من الطَّلبِ ، أي : يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً وأن يكون استفعل بمعنى : وَجَدَهُ ذَا كَذَا ، والمُرَادُ بالأرْضِ : أرَضُ الشَّام .
وقيل : أرض مصر ، لأنها أرض القبط .
وقيل : مصر والشَّام ، ومشارقها ، ومغاربها جهات المشرق ، والمغرب { الَّتِي بَاركْنَا فِيهَا } بإخراج الزَّرع ، والثِّمار ، والأنهار .
وقيل : المرادُ جملة الأرض ؛ لأنَّه خرج من بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرْضَ .
قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى } . قرأ الحسنُ{[16755]} ورُويت عن أبي عمرو وعاصم كَلِمَات بالجمع .
قال الزمخشري : ونظيره : { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } [ النجم : 18 ] . يعني في كون الجمع وُصِفَ بمُفْردٍ .
قال أبُو حيَّان : ولا يتعيَّن في الكُبْرَى ما ذكر لجواز أن يكون التقدير : لَقَدْ رَأى الآية الكُبْرَى ، فهو وصفُ مُفْردٍ لا جمعٍ ، وهو أبلغُ .
قال شهابُ الدِّين{[16756]} : في بعض الأماكن يتعيَّنُ ما ذكره الزمخشريُّ نحو { مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] وهذه الآية ، فلذلك اختار فيها ما يتعيَّن في غيرها والمرادُ بالكلمةِ الحسنى : قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض } [ القصص : 5 ] إلى قوله : { مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } [ القصص : 6 ] والحُسْنَى : تأنيثُ الأحسنِ صفة للكلمة .
وقيل : معنى تمام الكلمةِ : إنجاز الوعْدِ الذي تقدَّم بإهلاك عدوهم . ومعنى : " تَمَّتْ " أي : مَضَتْ واستمرَّتْ من قولهم : تَمَّ عليه الأمر إذَا مَضَى عليه .
قوله بِمَا صَبَرُوا متعلِّق ب " تَمَّتْ " والبَاءُ للسببيَّةِ و " مَا " مصدريةٌ ، أي : بسبب صبرهم ومتعلَّقُ الصَّبرِ محذوفٌ أي : على أذَى فرعون وقومه .
قوله : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } . يجوزُ ههنا أوجه : أحدها : أن يكون فِرْعَونُ اسم كان ، ويَصْنَعُ خبرٌ مقدم ، والجملةُ الكونِيَّة صلةُ " ما " والعائد محذوف ، والتقديرُ ودَمَّرنا الذي كان فرعون يَصْنَعُهُ ، واستضعف أبُو البقاءِ هذا الوجه .
فقال : لأنَّ يَصْنَعُ يَصْلُحُ أن يعمل في فِرْعَوْن فلا يُقَدَّر تأخيره ، كما لا يُقدَّر تأخيرُ الفعل في قولك : قام زيدُ . يعني : أنَّ قولك : " قَامَ زَيْدٌ " يجب أن يكونَ من باب الفِعْلِ والفاعل ، ولا يجوز أن يُدَّعى فيه أنَّ " قام " فعلٌ وفاعلٌ ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌ ، وزيد : مبتدأ مؤخَّرٌ لأجل اللَّبس بباب الفاعل ، فكذا هنا ؛ لأنَّ يَصْنَعُ يَصحُّ أن يتسلَّطَ على فِرْعَوْنَ فيرفعهُ فاعلاً فلا يُدَّعَى فيه التقديم ، وقد سبقه إلى هذا مكيٌّ .
وقال : ويلزم من يجيز هذا أن يُجيزَ : يقومُ زيدٌ ، على الابتداء والخبر ، والتَّقديم والتَّأخير ، ولمْ يُجزْهُ أحَدٌ .
وقد تقدَّمت هذه المسألةُ وما فيها ، وأنَّهُ هل يجوز أن يكون من باب التَّنازع أم لا ؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان مُتَخَيَّلاً في بادئ الرأي ، فإنه ك : باب الابتداء ، والخبر ، ولكن الجَواب عن ذلك : أنَّ المانع في " قَامَ زيدٌ " هو اللَّبس ، وهو مفقودٌ هَهُنَا .
الثاني : أنَّ اسمَ " كان " ضميرٌ عائدٌ على " مَا " الموصولة ، ويَصْنَعُ مسندٌ ل " فِرْعَوْن " والجُملةُ خبر " كان " والعائدُ محذوف أيضاً ، والتَّقديرُ : ودمَّرْنَا الذي كان هو يصنعه فرعون .
الثالث : أن تكون " كان " زائدةً و " مَا " مصدرية والتقديرُ : ودمَّرْنَا ما يصنع فرعون . أي : صُنْعَهُ ، ذكره أبُو البقاءِ .
قال شهابُ الدِّين{[16757]} : وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً ، وإن كانت " مَا " موصولة اسمية ، على أنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُهُ : ودَمَّرْنَا الذي يصنعه فرعون .
الرابع : أن " ما " مصدرية أيضاً و " كان " لَيْسَتْ زائدةً ، بل ناقصة ، واسمُهَا ضميرُ الأمر والشَّأن ، والجملةُ من قوله يَصْنعُ فرعَونُ خبرُ " كان " فهي مفسِّرة لضمير .
وقال أبُو البقاءِ{[16758]} هنا : وقيل : ليست " كان " زائدةً ، ولكن " كان النَّاقِصَة لا يُفْصَل بها بين " ما " وبين صلتها ، وقد تقدَّم ذلك في قوله : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] وعلى هذا القول تحتاج " كان " إلى اسم .
ويضعُف أن يكون اسمُها ضمير الشَّأنِ ؛ لأَّن الجُملة التي بعدها صلةُ " ما " فلا تَصْلُح للتَّفسير ، فلا يحصُل بها الإيضاحُ ، وتمامُ الاسم ، والمفسِّر يجبُ أن يكون مستقلاً ، فتدعو الحَاجَةُ إلى أن يجعل " فرعون " اسم " كان " وفي : " يَصْنَعُ " ضمير يعود عليه .
قال شهابُ الدِّين{[16759]} بعد فرض كونها ناقصةً : يلزم أن تكون الجملة من قوله : يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ خبراً ل " كان " ويمتنع أن تكون صلةً ل " ما " .
وقوله : فتدعُو الحاجةُ أي : ذلك الوجُه الذي بدأت به ، واستضعفه ، وهو الذي احتاج إليه في هذا المكان فراراً من جعل الاسم ضمير الشَّأن ، لمَّا تخيَّلهُ مانعاً ، والتَّدميرُ : الإهلاكُ .
قال الليث : الدَّمَارُ : الهَلاك التَّام ، يقال : دَمَرَ القومُ يَدمُرُونَ دماراً : أي : هلكوا وهو مُتَعَدٍّ بنفسه ، فأمَّا قوله : { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } [ محمد : 10 ] بمفعولُه محذوفٌ ، أي : خَرَّب عليهم منازلهم وبُيُوتَهم .
وقوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } أي : في أرض مصر من العمارات .
قوله : " يَعْرِشُونَ " قرأ{[16760]} ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النَّحل { يَعرُشُونَ } بضم الرَّاءِ .
والباقون بالكسر فيهما ، وهما لغتانِ : " عَرَشَ الكرمَ يَعْرِشُهُ ويَعْرُشُهُ . والكَسْرُ لغة الحِجَازِ .
وقال مُجاهدٌ : ما كانُوا يبنون من القصور والبيوت{[16761]} . وقُرئ شاذّاً بالغين المعجمةِ والسِّين المهملة ، من غَرْس الأشجَار . وقال الزمخشري وبلغني أنه قرأ بعض الناس يعرشون من عرش وما أظُنّه إلاّ تصحيفاً . وقرأ ابن أبي عبْلَةَ يُعَرِّشُونَ بضمِّ الياء وفتحِ العين ، وكسرِ الرَّاءِ مشدَّدَةً على المُبالغة والتَّكثير . وهذا آخر قصةِ فرعونَ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.