قوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن } . يعني : المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن يرضعن ، خبر بمعنى الأمر ، وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب ، لأنه لا يجب عليهن الإرضاع إذا كان يوجد من ترضع الولد لقوله تعالى في سورة الطلاق : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) فإن رغبت الأم في الإرضاع فهي أولى من غيرها .
قوله تعالى : { حولين كاملين } . أي سنتين ، وذكر الكمال للتأكيد كقوله تعالى : ( تلك عشرة كاملة ) وقيل إنما قال كاملين لأن العرب قد تسمي بعض الحول حولاً وبعض الشهر شهراً كما قال الله تعالى : ( الحج أشهر معلومات ) ، وإنما هو شهران وبعض الثالث وقال : ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) ، وإنما يتعجل في يوم وبعض يوم ، ويقال : أقام فلان بموضع كذا حولين ، وإنما أقام به حولاً وبعض آخر ، فبين الله تعالى أنهما حولان كاملان ، أربعة وعشرون شهراً ، واختلف أهل العلم في هذا الحد ، فمنهم من قال : هو حد لبعض المولودين ، فروى عكرمة وابن عباس رضي الله عنهما أنها إذا وضعت لستة أشهر فإنها ترضعه حولين كاملين ، وإن وضعته لسبعة أشهر فإنها ترضعه ثلاثة وعشرين شهراً ، وإن وضعت لتسعة أشهر فإنها ترضعه أحدا وعشرين شهراً ، وإن وضعت لعشرة أشهر فإنها ترضعه عشرين شهراً ، كل ذلك تمام ثلاثين شهراً لقوله تعالى : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) . وقال قوم : هو لكل مولود بأي وقت ولد ، لا ينقص رضاعه عن حولين إلا باتفاق الأبوين ، فأيهما أراد الفطام قبل تمام الحولين ليس له ذلك إلا أن يجتمعا عليه ، لقوله تعالى : { فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور } وهذا قول ابن جريج و الثوري ، ورواية الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقيل : المراد من الآية : بيان أن الرضاع الذي تثبت به الحرمة ما يكون في الحولين ، فلا يحرم ما يكون بعد الحولين ، قال قتادة : فرض الله على الوالدات إرضاع حولين كاملين ، ثم أنزل التخفيف فقال :
قوله تعالى : { لمن أراد أن يتم الرضاعة } . أي هذا الرضاعة وليس فيما دون ذلك حد محدود وإنما هو على مقدار صلاح الصبي وما يعيش به .
قوله تعالى : { وعلى المولود له } . يعني الأب .
قوله تعالى : { رزقهن } . طعامهن .
قوله تعالى : { وكسوتهن } . لباسهن .
قوله تعالى : { بالمعروف } . أي على قدر الميسرة .
قوله تعالى : { لا تكلف نفس إلا وسعها } . أي طاقتها .
قوله تعالى : { لا تضار والدة بولدها } . قرأ ابن كثير وأهل البصرة ، " برفع الراء " نسقاً على قوله ( لا تكلف ) وأصله ( تضار ) فأدغمت الراء في الراء ، وقرأ الآخرون تضار " بنصب الراء " ، قالوا : لما أدغمت الراء في الراء ، حركت إلى أخف الحركات وهو النصب ، ومعنى الآية لا تضار والدة بولدها فينزع الولد منها إلى غيرها بعد فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه .
قوله تعالى : { ولا مولود له بولده } . أي لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعدما ألفها ، تضاره بذلك ، وقيل معناه : لا تضار والدة فتكره على إرضاعه إذا كرهت إرضاعه ، وقبل الصبي من غيرها ، لأن ذلك ليس بواجب عليها ( ولا مولود له بولده ) فيحتمل أن تعطى الأم أكثر مما يجب لها إذا لم يرتضع من غيرها . فعلى هذين القولين أصل الكلمة لا تضارر بفتح الراء الأولى على الفعل المجهول ، والوالدة والمولود له مفعولان ، ويحتمل أن يكون الفعل لهما ، وتكون تضار بمعنى تضارر بكسر الراء الأولى على تسمية الفاعل ، والمعنى لا تضار والدة فتأبى أن ترضع ولدها ليشق على أبيه ( ولا مولود له ) أي لا يضار الأب أم الصبي ، فينزعه منها ويمنعها من إرضاعه ، وعلى هذه الأقوال يرجع الإضرار إلى الوالدين يضار كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد ، ويجوز أن يكون الضرار راجعاً إلى الصبي ، أي لا يضار كل واحد منهما الصبي ، ولا ترضعه الأم حتى يموت ، أو لا ينفق الأب أو ينتزعه من الأم حتى يضر بالصبي ، فعلى هذا تكون الباء زائدة ومعناه : لا تضار والدة ولدها ، ولا أب ولده ، وكل هذه الأقاويل مروية عن المفسرين .
قوله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } . اختلفوا في هذا الوارث ، فقال قوم : هو وارث الصبي ، معناه : وعلى وارث الصبي الذي لو مات الصبي وله مال ورثه مثل الذي كان على أبيه في حال حياته ، ثم اختلفوا في أنه ، أي وارث هو ؟ من ورثته ؟ فقال بعضهم : هو عصبة الصبي من الرجال مثل : الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العم ، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وبه قال إبراهيم والحسن ومجاهد وعطاء وهو مذهب سفيان قالوا : إذا لم يكن للصبي ما ينفق عليه أجبرت عصبته الذين يرثونه على أن يسترضعوه ، وقيل : هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء ، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى ومذهب أحمد وإسحاق وقالوا : يجبر على نفقته كل وارث قدر ميراثه ، عصبة كانوا أو غيرهم . وقال بعضهم : هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود ، فمن ليس بمحرم مثل : ابن العم والمولى فغير مراد بالآية ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ، وذهب جماعة إلى أن المراد بالوارث : هو الصبي نفسه ، الذي هو وارث أبيه المتوفى ، يكون أجرة رضاعه ونفقته في ماله ، فإن لم يكون له مال فعلى الأم ، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان ، وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله ، وقيل : هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر ، عليه مثل ما كان على الأب من أجرة الرضاع والنفقة والكسوة . وقيل : ليس المراد منه النفقة ، بل معناه : وعلى الوارث ترك المضارة ، وبه قال الشعبي والزهري .
قوله تعالى : { فإن أراد } . يعني الوالدين .
قوله تعالى : { فصالا } . فطاماً قبل الحولين .
قوله تعالى : { عن تراض منهما } . أي اتفاق من الوالدين .
قوله تعالى : { وتشاور } . أي يشاورون أهل العلم به حتى يخبروا أن الفطام في ذلك الوقت لا يضر بالولد ، والمشاورة استخراج الرأي .
قوله تعالى : { فلا جناح عليهما } . أي لا حرج عليهما في الفطام قبل الحولين .
قوله تعالى : { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } . أي لأولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم إرضاعهم ، أو تعذر لعلة بهن ، أو انقطاع لبن ، أو أردن النكاح .
قوله تعالى : { فلا جناح عليكم إذا سلمتم } . إلى أمهاتهم .
قوله تعالى : { ما آتيتم } . ما سميتم لهن من أجرة الرضاع بقدر ما أرضعن ، وقيل إذا سلمتم أجور المراضع إليهن .
قوله تعالى : { بالمعروف } . قرأ ابن كثير : ما آتيتم : وفي الروم " وما آتيتم من ربا " بقصر الألف ، ومعناه ما فعلتم يقال : أتيت جميلاً إذا فعلته ، فعلى هذه القراءة يكون التسليم بمعنى الطاعة والانقياد ، لا بمعنى تسليم الأجرة ، يعني إذا سلمتم لأمره ، وانقدتم لحكمه ، وقيل : إذا سلمتم للاسترضاع عن تراض واتفاق دون الضرار .
قوله تعالى : { واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير } .
والحكم التالي يتعلق برضاع الأطفال بعد الطلاق . .
إن دستور الأسرة لا بد أن يتضمن بيانا عن تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الزوجين بعد الطلاق . علاقة النسل الذي ساهم كلاهما فيه ، وارتبط كلاهما به ؛ فإذا تعذرت الحياة بين الوالدين فإن الفراخ الزغب لا بد لها من ضمانات دقيقة مفصلة ، تستوفي كل حالة من الحالات :
( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة . وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف . لا تكلف نفس إلا وسعها . لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده . وعلى الوارث مثل ذلك . فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما . وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم - إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف - واتقوا الله ، واعلموا أن الله بما تعملون بصير ) . .
إن على الوالدة المطلقة واجبا تجاه طفلها الرضيع . واجبا يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها التي قد تفسدها الخلافات الزوجية ، فيقع الغرم على هذا الصغير . إذن يكفله الله ويفرض له في عنق أمه . فالله أولى بالناس من أنفسهم ، وأبر منهم وأرحم من والديهم . والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين ؛ لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل . . ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموا سليما من الوجهتين الصحية والنفسية . ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم . فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل ، والله رحيم بعباده . وبخاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية .
وللوالدة في مقابل ما فرضه الله عليها حق على والد الطفل : أن يرزقها ويكسوها بالمعروف والمحاسنة ؛ فكلاهما شريك في التبعة ؛ وكلاهما مسؤول تجاه هذا الصغير الرضيع ، هي تمده باللبن والحضانة وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه ؛ وكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته :
ولا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سببا لمضارة الآخرة :
( لا تضار والدة بولدها ، ولا مولود له بولده ) . .
فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها ، ليهددها فيه أو تقبل رضاعة بلا مقابل . ولا تستغل هي عطف الأب على إبنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها . .
والواجبات الملقاة على الوالد تنتقل في حالة وفاته إلى وارثه الراشد :
فهو المكلف أن يرزق الأم المرضع ويكسوها بالمعروف والحسنى . تحقيقا للتكافل العائلي الذي يتحقق طرفه بالإرث ، ويتحقق طرفه الآخر باحتمال تبعات المورث .
وهكذا لا يضيع الطفل إن مات والده . فحقه مكفول وحق أمه في جميع الحالات .
وعندما يستوفى هذا الاحتياط . . يعود إلى استكمال حالات الرضاعة . .
( فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ) . .
فإذا شاء الوالد والوالدة ، أو الوالدة والوارث ، أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين ؛ لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام ، لسبب صحي أو سواه ، فلا جناح عليهما ، إذا تم هذا بالرضى بينهما ، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول اليهما رعايته ، المفروض عليهما حمايته .
كذلك إذا رغب الوالد في أن يحضر لطفله مرضعا مأجورة ، حين تتحقق مصلحة الطفل في هذه الرضاعة ، فله ذلك على شرط أن يوفي المرضع أجرها ، وأن يحسن معاملتها :
( وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف ) . .
فذلك ضمان لأن تكون للطفل ناصحة ، وله راعية وواعية .
وفي النهاية يربط الأمر كله بذلك الرباط الإلهي . . بالتقوى . . بذلك الشعور العميق اللطيف الذي يكل إليه ما لا سبيل لتحقيقه إلا به :